تقرير: آدم يافوز أرسلان
في الرابع والعشرين من مارس/آذار عام 2014 اهتزت تركيا إثر تسريب تسجيل صوتي رُفع على موقع يوتيوب من حسابٍ يحمل اسم “@secimgudumu”، تضمن المحادثات التي جرت في اجتماعٍ حضره كلٌّ من وزير الخارجية آنذاك أحمد داود أوغلو ومستشار وزارة الخارجية فريدون سنرلي أوغلو ورئيس المخابرات هاكان فيدان والقائد الثاني للأركان فريق أول ياشار جولر.
التنصت على اجتماع مهم وسري إلى هذه الدرجة وتسريبه إلى الإعلام الاجتماعي كان فضيحة بحد ذاته، لكن محتوى المحادثات التي جرت في الاجتماع كان الفضحية الكبرى. إذ كان داود أوغلو يكشف في التسجيل الصوتي عن رغبة رئيس الوزراء آنذاك (2014) رجب طيب أردوغان في تنفيذ عملية عسكرية في سوريا، بينما كان رئيس المخابرات هاكان فيدان يقول: “من الممكن أن نرسل أربعة من رجالنا إلى الجانب السوري، ليقوموا بإلقاء صواريخ على الجانب التركي، من أجل اختلاق الذريعة اللازمة للتدخل العسكري في سوريا، إن تطلب الأمر ذلك”. كما قال فيدان في التسجيل إن الحدود التركية – السورية لا تفرض عليها رقابة صارمة، وإن تركيا ستشهد تفجيرات في أي مكان؛ فيما كان يؤكد الجنرال جولر على ضرورة نقل أسلحة وذخائر إلى المعارضة السورية بدعمٍ من فيدان، ويوضح أن القطريين يبحثون عن ذخائر مقابل أموال ، ويؤكد أنه في حال إصدار وزراء معنيين تعليمات يمكنهم أن يطلبوا من مؤسسة الصناعات الميكانيكية والكيميائية التابعة للجيش تصنيع أسلحة. فضلاً عن ذلك، فإن فيدان كان يعترف بإرسال نحو ألفي شاحنة ذخيرة إلى سوريا. وفي إطار بحثهم عن “ذريعة” للتدخل العسكري في سوريا، كان يقترح فيدان حتى “شنّ هجوم على ضريح “سليمان شاه”؛ جد أول سلطان للدولة العثمانية.
ومع أنه لم يتم العثور حتى اليوم على مسرِّب هذا التسجيل الصوتي، إلا أنه يحتوي على معطيات رائعة لتحليل “العقلية” التي تدير بها السلطة الحاكمة تركيا وتتعامل بها مع القضايا الداخلية والخارجية.
جنرال يعترف بتفجير جامعٍ لإثارة مشاعر الشعب
في مقابلة أجراها مع قناة “خبرترك” في الثالث والعشرين من سبتمبر/ آيلول عام 2010، أدلى فريق أول متقاعد “صبري يرمي باشلي” بتصريحات أثارت حينها جدلاً كبيرًا في تركيا وقبرص التركية على حد سواء، حيث قال فيها: “من قواعد الحرب النفسية الإقدام على تخريب رموز كبيرة، والهجوم على قيم سامية، بطريقةٍ توجّه أصابع الاتهام إلى العدو، وذلك لتعزيز مقاومة الشعب وصموده أمامه. فمثلاً يمكن حرق جامع ومسجد بهذا الغرض.. لقد بادرنا إلى حرق جامع في قبرص التركية مثلاً”.
وعندما سأل مراسل القناة مندهشًا إن كانوا قد حرقوا مسجدًا فعلاً، حاول باشلي تغيير الموضوع زاعمًا أنه كان يضرب مثالاً.
لم يكن هذا الاعترافُ الوحيدَ الذي أدلى به الجنرال يرمي باشلي المتوفى في يناير/كانون الثاني من عام 2016 فيما يتعلق بأساليب الحرب النفسية التي اتبعتها الحكومات في تركيا، ففي لقاء أجري معه عام 1991 أكد قائلاً: “أحداث بوغروم إسطنبول أو أعمال شغب إسطنبول في السادس والسابع من سبتمبر/ آيلول من عام 1955، (والتي استهدفت الأقلية اليونانية)، كانت من تدبير قوات الحرب النفسية.. إنها كانت أعمالاً منظّمة رائعة مدروسة جيدًا، وحققت أهدافها المرجوة منها فعلاً. أسألكم : ألم يكن هذا عملاً منظمًا رائعًا؟”، على حد قوله.
فقد كانت مجموعة عسكرية من شعبة مكافحة حرب العصابات التابعة للجيش التركي دبرت أعمال شغب في إسطنبول، عقب شيوع أنباء تفيد تعرّض القنصلية التركية في مدينة “سالونيك” شمال اليونان والبيت الذي ولد فيه مؤسس الجمهورية التركية الحديثة مصطفى كمال أتاتورك للقصف. لكن تبين فيما بعد أن القنبلة زرعت من قبل الحارس التركي في القنصلية، واعترف بعد إلقاء القبض عليه في وقت لاحق بتحريضه على عمل ذلك. ونقلت الصحافة التركية لقرائها الأخبار الخاصة بشائعة قصف بيت أتاتورك، متغاضية عن اعتقال الحارس، وملمحة إلى أن اليونانيين قد فجروا القنبلة وقصفوا القنصلية وبيت أتاتورك.
أدّت هذه الشائعات إلى هجوم مجموعة من المشاغبين الأتراك الموجَّهين على المجتمع اليوناني في إسطنبول، وقد استمرت الاعتداءات لمدة تسع ساعات، مسفرة عن مقتل عدد من الأشخاص نتيجة الضرب والحرق، إضافة إلى تضرر أحياءٍ وأماكن سكنٍ وعملٍ تابعة لليهود والأرمن. وزعم كتاب يونانيون كتبوا عن الواقعة أن المقابر (اليونانية) دنّست، والكنائس نهبت، وقتل نحو 12 شخصًا واغتصبت مئات النساء، وحرقت بطريركية القسطنطينية المسكونية مركز الكنيسة الأرثوذكسية، والعديد من المنازل والمشاغل والمصالح التي يملكها يونانيون، على حد زعمهم.
تسببت هذه الأحداث في تسارع وتيرة هجرة اليونانيين من تركيا، وعلى وجه الخصوص من إسطنبول؛ إذ انخفض عدد السكان اليونانيين في تركيا من 119.822 شخصًا في عام 1927 إلى حوالي 7.000 في عام 1978. وانخفض عدد السكان اليونانيين في إسطنبول فقط من 65.108 إلى 49.081 شخصًا بين الأعوام 1955 و1960. وتكشف المعطيات التي نشرتها وزارة الخارجية التركية عام 2008 أنّ العدد الحالي من المواطنين الأتراك من أصل يوناني يتراوح بين 3.000-4.000.
ويقول الجنرال التركي يرمي بشلي عن هذه الأحداث “إنها كانت من تدبير قوات الحرب النفسية.. إنها كانت أعمالاً منظّمة رائعة مدروسة جيدًا، وحققت أهدافها!”، الجنرال الذي ارتبط اسمه بالدولة العميقة التي كانت تسمى آنذاك بـ”تنظيم جلاديو التركي”، وأحيل إلى التقاعد عام 1991 لاحتمالية تورطه في محاولة اغتيال رئيس تركيا الأسبق تورجوت أوزال.
جنرال يعترف بإلقاء قنابل لإخافة القضاة
من جانب آخر، قدم الفريق الأول المتقاعد “ألتاي توكات” معلومات تفصيلية مثيرة عن الأحداث التي شهدها جنوب شرق تركيا، خلال إجابته على أسئلة الصحفي “سمين جوموشال” من مجلة أكتويل (Aktüel) الصادر بتاريخ السابع والعشرين من يوليو/ تموز عام 2006، حيث ذكر أنه كان يأمر أثناء عمله في منطقة جنوب شرق تركيا بإلقاء القنابل في محيط القضاة والموظفين القادمين حديثًا إلى المنطقة “كي يأخذوا عملهم على محمل الجد ويلتزموا حدودهم”، وأضاف بأنه كان يسعى لإيصال رسالة لهم.
أسلحة الدولة في يد حزب الله والعمال الكردستاني الإرهابيين
في الخامس عشر من نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2000، داهمت الشرطة التركية منزلاً مؤلفًا من طابقين في شارع “نهر” بحي “ياسف” في بلدة جزرة التابعة لمدينة شرناق شرق البلاد، والتي ينتشر فيها حزب الله “التركي” بكثرة. كان المنزل يبدو عاديًا غير مثير للشكوك، وكان مملوكا لبائع فواكه يُدعى أ.ج. وعلى الرغم من تفتيش الشرطة للمنزل جيدًا، إلا أنها لم تصادف أي عنصر جريمة، غير أن وحدة الاستخبارات في إسطنبول كانت تصر على أن المنزل مخزن للأسلحة. ثم كسرت الشرطة الخرسانة الموجودة أسفل معرض البطيخ في الطابق الأرضي، لتتبين أن المعلومات التي حصلت عليها وحدة الاستخبارات كانت صحيحة، إذ أسفرت عملية التفتيش عن العثور على 99 بندقية طويلة المدى كانت مُخزَّنة ومصفّفة على طريقة “لائحة قوات الحرب النفسية”. وبعد أيام من تنظيف الأسلحة المخزَّنة بصورة خاصة بالعناصر التابعة للقوات الخاصة بحيث لا يستطيع القيام بها مدنيون، أرسلتها شرطة شرناق إلى المعامل، وكانت النتيجة صادمة ومذهلة، حيث تبين أن الأسلحة المصادَرة من حزب الله “الإسلامي” استخدمت في الأحداث المظلمة (جنايات مجهولة الفاعل) المصنفة ضمن “العمليات الإرهابية” التي أقدم عليها حزب العمال الكردستاني “الماركسي الاشتراكي”!
فضلاً عن ذلك، فإن سجل الجرد لبعض هذه الأسلحة كان يعود لقوات درك مدينة شرناق التي كان يقودها الجنرال “لفنت أرسوز” الذي تعرف عليه الرأي العام من خلال قضية “أرجنكون”، حيث اعتقل مع جنرالات آخرين بتهمة تشكيل تنظيم إرهابي لعرقلة عمل الحكومة ومؤسسات الدولة من خلال أعمال شغب وبلبلة وفوضى، ومن ثم أفرج عنهم جميعًا بفضل تعديلات قانونية أجرتها حكومة أردوغان عام 2014.
وفي العام التالي لهذه العملية (2001)، أجرت قوات الأمن عملية أخرى في بلدة إيديل التابعة لمدينة شرناق ذاتها، وأسفرت عن نتيجة مشابهة للعملية الأولى، حيث تم العثور على أسلحة مملوكة لقوات الدرك في قبضة أشخاص اعتقلوا بتهمة انتمائهم لحزب العمال الكردستاني الإرهابي.
رجال المخابرات يحرضون على قتل “المبشرين” لإحراج الحكومة
في الخامس من ديسمبر/ كانون الأول عام 1995، ألقت الشرطة القبض على خلية تابعة لحزب التحرر الشعبي الثوري متلبسة بسرقة محل بائع مستلزمات الصيد. أحد العناصر المقبوض عليهم كان يدعى “بولنت فارول”. وخلال التحقيقات حدث تطور غريب، إذ وفد شخص من شعبة المخابرات في مدينة ملاطيا إلى مديرية الأمن، وأنقذ فارول من التحقيقات، بدعوى أنه أحد عملائهم. وحررت مديرية الأمن محضرًا عن الواقعة، ومن ثم أطلقت سراحه. ومنذ تلك الواقعة انقطعت الأخبار عن فارول حتى وقوع ما يسمى بـ”مذبحة ذروة” في عام 2007، حيث ألقي القبض على فارول بتهمة تحريضه المتهمين الثلاثة على قتل “المسيحيين المبشرين” في دار “ذروة” للنشر، وكان فارول في ذلك الوقت يظهر بهوية “الإسلامي المتطرف”، العملية التي هزت تركيا وأحرجت حكومة حزب العدالة والتنمية “الإسلامية” كثيرًا.
عميل مخابرات مرتبط بتنظيم أرجنكون يهدد صحفيًّا أرمنيًّا شهيرًا قبل اغتياله
ومع أن الذي هدد الصحفي الأرمني الشهير هرانت دينك في إسطنبول كان “أوزل يلماز”، وهو أحد عملاء المخابرات، لكن السلطات لم تتخذ بحقه أي إجراءات قانونية، فضلاً عن ذلك فإنها قامت بتعيينه في مدينة إزمير مع ترقية رتبته. وظهر فيما بعد أن أوزل يلماز هو من أبلغ رئيس بلدية إسطنبول الأسبق “بدر الدين دالان”، الذي كان يتهم بالانتماء إلى تنظيم وعصابة أرجنكون، وساعده على الفرار إلى خارج تركيا. كنتُ نشرت في كتابي المسمى بـ”ذروة أرجنكون” التقرير الرسمي الخاص بجريمة اغتيال الصحفي الأرمني هرانت دينك، بالإضافة إلى سرد كل المعلومات التفصيلية الصادمة عنها، والأيادي “الرسمية” المظلمة التي خططت وحرضت ونفذت هذه العملية لإحداث بلبلة وفوضى في البلاد، إلا أن المحكمة أصدرت قرارًا باعتقالي أنا ككاتب صحفي يحاول الكشف عن الحقائق، فيما قررت عدم ملاحقة ملف أوزل يلماز الذي يقف وراء هذه الجريمة وأطلقت سراحه!
تاريخ تركيا يُعد تاريخ الحرب النفسية
تاريخ تركيا هو تاريخ ما يسمى بـ”الدولة العميقة” أو “الدولة السرية” نوعا ما. ففي كل حادثة مهمة ونقطة مفصلية في تاريخ البلاد يمكن رؤية آثار وبصمات “وحدة الحرب النفسية” المحترفة جدًا في إدارة حروب نفسية ضد شعبها. حتى إن بصمات المخابرات ظاهرة جلية في العديد من الأحداث، بدءًا من تصفية حسابات بين العصابات وزعماء المافيا، وصولا إلى اتحاد المجتمعات الكردستانية (KCK)؛ مجلس الإدارة الأعلى أو الذراع المدني لحزب العمال الكردستاني الإرهابى.
أجل، بصمات المخابرات واضحة في كل حادثة بدءًا من تورط عميل المخابرات و.ش في تعطيل كاميرات المراقبة أثناء الهجوم على مقر “مجلس الدولة” الذي أسفر عن مقتل العضو “مصطفى يوجيل أوزبلجين” والذي أحدث ضجة كبيرة في الساحة السياسية عام 2006، مروراً بالعثور على جواز سفر عميل المخابرات ف.م في حوزة زعيم المنظمة الإجرامية المعروف “علاء الدين شاكيجي”؛ وارتباط كلٍّ من عميلي المخابرات كاشف كوزان أوغلو ويافوز أتاتش مع منظمة “لواء الانتقام التركي” القومية المتطرفة التي تبنّت محاولة اغتيال الصحفي والسياسي الشهير أكين بيردال، وصولاً إلى تورط عميل المخابرات و.س في حادثة اختطاف العقيد السوري مصطفى حرموش – أحد الشخصيات الرمزية للمعارضة السورية – وتسليمه إلى الأسد الذي أمر بإعدامه هناك رميًا بالرصاص. وكانت المحكمة قضت بحبس و.س عشرين عاما بسبب هذه الجريمة، لكن قائد المنطقة م.أ.أ حصل على براءة من المحكمة مثلما كان متوقعًا.
نعم، هناك عدد لا يحصى من العمليات القذرة قام بها عصابات غير قانونية وزعماء المافيا باسم الدولة تحت توجيه المخابرات. وخير مثال على ذلك فضيحة حادثة “سوسولروك” الشيهرة في 1996، والتي كشفت العلاقة المشبوهة بين الأمن والجيش مع عصابات إجرامية منظمة، والعلاقة المحرمة بين المخابرات وعصابة “ساوونا” التي تضم بين أعضائها نائب مدير أمن عام وضباطًا من القوات الخاصة وعسكريين متقاعدين.
أما العلاقة بين اتحاد المجتمعات الكردستانية (KCK) الإرهابي والمخابرات التركية فتحتاج إلى كتابة سلسلة مقالات حتى يمكن الاطلاع على عمقها. لقد نقل لي بشكل مباشر مديرُ أمنٍ كان يحقق مع أحد عناصر هذا الاتحاد كيف أن جهاز المخابرات تدخَّل في الأمر وأنقذ هذا العنصر، رغم أن السلطات الأمنية كانت ألقت القبض عيله إذ كان يحمل قنبلة في حوزته.
لماذا أعيد لأذهانكم هذه المشاهد السوداء التي يمتلئ بها تاريخ تركيا الحديث؟ ذلك أنه انقضت 9 أشهر على المحاولة الانقلابية، دع عنك الحصول على أجوبة مقنعة للتساؤلات المحورية التي تدور حولها، فإن تساؤلات جديدة ظهرت وأسدلت ستاراً جديدًا على هذه المحاولة الغاشمة. إذ لا يزال مدبرو المحاولة والمشاركون فيها مجهولين، كما أن مسؤولي حكومة حزب العدالة والتنمية والرئيس أردوغان، الذين وصفوا المحاولة الانقلابية التي راح ضحيتها نحو 250 شخصا بـ”هدية من الله”، لا يريدون البحث عن أجوبة للأسئلة العالقة المتعلقة بالخامس عشر من يوليو/ تموز. فهذه المحاولة كانت حقًّا هدية إلهية لأردوغان بحيث يتخلص من كلّ الذين يزعجونه، وفي مقدمتهم المتعاطفون مع حركة الخدمة.
منفذو الانقلاب مجهولون لكن ضحاياه معروفون!
تشير الأرقام الأخيرة الواردة عن وزير الداخلية التركي سليمان سويلو إلى اعتقال 113 ألفا و260 شخصًا وحبس 50 ألفا آخرين خلال الحملات الأمنية ضد حركة لخدمة، وتضمنت قائمة المحبوسين نحو 11 ألف شرطي و8 آلاف جندي و168 جنرالاً وحوالي 3 آلاف قاضٍ ومدعٍ عام وقرابة 27 ألف مدني.
أردوغان والفصائل التي أعمى الكره بصيرتهم هم أكثر مَنْ يشعرون بالسعادة والنشوة من إلصاق المحاولة الانقلابية بحركة الخدمة. ولا تظهر في الأفق أي قوة يمكنها أن تفسد هذا التوازن في الوقت الراهن، لكن تقارير الخارجية البريطانية والاستخبارات الأمريكية والألمانية تشير إلى عدم وجود دليل على تدبير فتح الله غولن للانقلاب، فيما يرى البريطانيون إمكانية مشاركات فردية من الحركة.
من هؤلاء الأفراد الذين شاركوا في الانقلاب؟
أو ما مدى تسرب رجال الدولة والمخابرات إلى الخدمة؟
المشاركات الفردية هي النقطة المحورية في مسألة حمل المسؤولية على حركة الخدمة، لأنه لا يمكن شرح إقدام هذه الحركة على الانقلاب بالعقل والمنطق؛ لأن ذلك سيؤدي عاجلاً أو آجلاً إلى نهاية الحركة المنتشرة في 170 دولة حول العالم حتى ولو نجح هذا الانقلاب، ولا يمكن أن تسمح البصيرة والفراسة والحنكة التي عرفت بها الخدمة باتخاذ خطوةٍ من هذا القبيل. هذا فضلاً عن أن فتح الله غولن الذي تعرض طيلة حياته أللضغوطات والملاحقات ساند دومًا السلطات المدنية مهما كانت حتى في أحلك المراحل، ودعا منذ ظهوره الأول إلى ترسيخ الديمقراطية وتفعيل لغة السياسة والدبلوماسية في كل المشاكل سواء كانت داخلية أو خارجية. حتى إنه تعرض لهجمات “الإسلاميين” بسبب موقفه هذا، مثلما يعلم ذلك القاصي والداني. كما أن الموقف السلمي الذي التزمته حركة الخدمة طيلة أربع سنوات، على الرغم من أن أردوغان أعلن حربًا عليها يستخدم فيها كل إمكانيات الدولة منذ فضائح الفساد والرشوة التي طفت إلى السطح في 17 و23 ديسمبر/ كانون الأول لعام 2013 دليل ظاهر على أنها لا تتبنى العنف نهجًا في تعاطيها مع المشاكل.
بينما كان الجميع، بما فيهم الأعمى والبصير، على علم بأن أردوغان أعد العدة لتصفية آلاف العسكريين في المؤسسة العسكرية التي قاومت ضد عديد من مشاريعه الداخلية والخارجية، مثل التدخل العسكري في سوريا، رأينا أن الجيش تحرّك بطريقة غريبة يوم الخامس عشر من يوليو/ تموز الماضي لتنفيذ حملة مصمّمة على الفشل منذ البداية، إلا أن أردوغان استغل هذه “الكرة” جيدًا وبدأ يترجم مخططه المعد مسبقًا إلى أرض الواقع.
أردوغان ورجاله زعموا أن نصف جنرالات الجيش التركي وعددٍ كبير من الضباط ورجال الشرطة ينتمون لحركة الخدمة، ومن ثم شرعوا في تصفية الأسماء وفق القوائم المعدة من قبل. حسنًا فإذا كان هذا العدد الكبير من الجنرالات والضباط والشرطة من الخدمة فلماذا لم يشاركوا جميعًا في الانقلاب ولماذا لم ينجحوا؟ فهل هناك من تفسير منطقي معقول لهذه الأطروحة؟ دع عنك المشاركة في الانقلاب فإن التحقيقات الرسمية كشفت أن كثيرًا من العسكريين المتهمين بالانتساب للخدمة تصدوا للانقلابيين. وكيف سنفسر إقدام السلطات على اعتقال الرائد المسمى بـ(ه.أ) بتهمة “الانتماء للخدمة”، وذلك رغم أنه توجه إلى المخابرات وأبلغ المسؤولين هناك عن هذا التحرك في الجيش والاستعداد للانقلاب؟
واعترف أخيرًا كتاب موالون لأردوغان أن الأغلبية الساحقة من الجنرالات ليسوا من حركة الخدمة، وإنما هم من التيار الكمالي العلماني، وأعلنوا ذلك صراحة على الشاشات التلفزيونية، عقب التقارير الاستخباراتية الدولية التي كشفت براءة الخدمة من الانقلاب ودور أردوغان فيه.
كما أن تحقيقات النيابة العامة في مدينة إسطنبول كشفت أن اثنين فقط من 47 عقيدًا يتهمون بالانتماء إلى حركة الخدمة شاركا فيما يسمى بمحاولة الانقلاب الفاشل. والمتهمان أكدا أنهما لم يفعلا شيئًا سوى تنفيذ الأوامر الصادرة عن قادتهما.
ومن كان هؤلاء المدنيون الذين بذلوا “جهودًا مضنية” لإلصاق جريمة الانقلاب بحركة الخدمة في قاعدة “أكينجي” العسكرية. وباسم من كانوا يتحركون هناك حقًّا؟
ما فهمته من مذكرات الادعاء وإفادات المتهمين والأخبار التي قرأتها هو أن أردوغان علم بموجة رد الفعل المتزايدة داخل المؤسسة العسكرية، حتى كان هناك كتاب موالون للحكومة ورؤساء تحرير صحف على علم باحتمالية الانقلاب أيضًا. فشرع أردوغان في تدبير “انقلاب تحت السيطرة” بالتعاون مع بعض البؤر في المخابرات والجيش. ومن أجل تنفيذ هذا الانقلاب، كانوا يحتاجون إلى “إرسال ثلاثة رجال إلى الطرف الآخر لكي يلقوا من هناك خمسة صواريخ” لتشتعل الأحداث.
فهذا هو التفسير الأكثر منطقا لظهور مدنيين مزعوم انتماؤهم إلى حركة الخدمة في قاعدة آكينجي العسكرية.
قد لا يحدث ذلك اليوم أو غدًا، لكن يومًا ما في المستقبل من الممكن أن تقرؤوا حوارًا في صحيفةٍ أجري مع أحد منفذي هذا الانقلاب وهو يعترف قائلاً: “إن أحداث ليلة الخامس عشر من يوليو/ تموز كانت عملية حرب نفسية مدهشة!”.