تقرير: يافوز أجار & عبد السلام كمال أبو حسن
أنقرة (الزمان التركية): كما سبق ونبّه موقع “الزمان التركية” قبل أسبوع إلى تحضير الرئيس التركي رجب أردوغان لشنّ هجوم جديد على حركة الخدمة والأستاذ فتح الله غولن الذي تستلهم فكره، في مسعىً منه لتشويه وتجريح حركة الخدمة دينياً وعقائدياً بطول العالم الإسلامي وعرضه من خلال توظيف مؤسسة الشؤون الدينية، فإن هذه المؤسسة أقدمت أمس الثلاثاء على نشر ما أسمته “تقريراً” عن حركة الخدمة لتحمل الحطب إلى النار التي أشعلها أردوغان ليلقي فيها أبناء الخدمة ويحرقهم جميعاً.
ولانشكّ في أن كل منصف ومطلع على المبادئ الأساسية للتصور الإسلامي في التعامل مع الأفكار والأعمال سيدرك من الوهلة الأولى أن ما دَعَتْه الشؤون الدينية تقريراً يخلو من أي قيمة علمية، بل هو يكشف عن “الدركة السفلى” التي تراجعت إليها مؤسسة الشؤون الدينية في الآونة الأخيرة، نظراً لبعده عن النظرة الشمولية للأفكار التي تتبناها حركة الخدمة، والأعمال التي تقوم بها انطلاقاً من هذه الأفكار، ومعاييرِ التقييم العلمية الموضوعية المعتبرة، ولكون مضمونه عبارةً عن تكرار سيئ لما يردده أردوغان وأعوانه منذ أربع سنوات من اتهامات وافتراءات لا أصل لها.
يمكن أن نلاحظ بسهولة أن مؤسسة الشؤون الدينية التي من المفترض أن تكون مستقلة تتحدث في هذا التقرير بـ”لسان السلطة السياسية”، وتستخدم كل المصطلحات التي استخدمها أرودغان ورمى بها الخدمة قبل الانقلاب الفاشل وبعده، كالحشاشين، والحركة الباطنية، والكيان الموازي، والحركة الإرهابية وغيرها. بل اعتمد التقرير على كلمات أردوغان ونائب رئيس الوزراء، ورئيس البرلمان، ورئيس الشؤون الدينية، وجعلها المصدر الأساسي للحكم على الخدمة.
لذا نريد في هذه العجالة التنبيه إلى ما يلي:
أولاً: ما هذه الخطوة إلا خطوة سياسية تحت “غطاء ديني” تعتبر امتداداً لحملات الإبادة الجماعية والاغتيالات المعنوية التي تمارسها السلطة الحاكمة في تركيا ضد حركة الخدمة، بعد ظهور فشل المساعي الرامية إلى تقديمها كحركة إجرامية وإرهابية للعالم، عقب محاولة الانقلاب الفاشلة التي اتهمها بالوقوف وراءها لإثبات مدعاها هذا.
ثانياً: غاية هذه الخطوة هي السعي لزعزعة “الشرعية الدينية” للأستاذ كولن، حيث تيقن أردوغان أن حملاته السياسية “المباشرة” باتت لا تجدي نفعاً، خاصة بعد أن عجز عن الردّ سلباً أو إيجاباً على تحدي الأستاذ كولن له بالمطالبة بتشكيل لجنة تحقيق دولية بهدف الكشف عن ملابسات الانقلاب الفاشل. لذلك توجه إلى طرق ملتوية وجاءت خطوته الأخيرة مغلفة بالغطاء الديني، الذي يوظفه دائماً في الانتخابات، لعله يستطيع أن يزلزل المكانة العلمية التي يحظى بها الأستاذ كولن التي شهد بها العلماء المحققون من جميع أنحاء العالم الإسلامي.
ثالثاً: تسعى هذه الخطوة لشيطنةِ وإقصاءِ وتهميشِ حركة الخدمة في العالم الإسلامي برمته من خلال تقديمها وتصنيفها ضمن “الفرق الضالة” أو “الحركات الباطنية” أو “الحركات المهدوية” البعيدة عن معتقدات أهل السنة والجماعة، والزعمِ بأنها لا تنتمي إلى الدين الإسلامي من قريب أو بعيد، وذلك عبر توظيف مؤسسة الشؤون الدينية وبعضِ العلماء العرب المعروف توجهاتهم وانتماءاتهم السياسية والفكرية التي توظف الدين لخدمة تيار الإسلام السياسي الانتهازي؛ من أجل البحث في كتب الأستاذ فتح الله كولن وأخذ بعض الفقرات واقتطاعها من سياقاتها، وتفسيرِها وتوضيحها وفق أهوائهم ومراميهم السياسية.
رابعاً: هذا التقرير يصدر من شخصيات فقدت مصداقيتها وموثوقيتها، لكثرة تقلباتها وتحولاتها السياسية والفكرية، مثل الرئيس أردوغان ورئيس مؤسسة الشؤون الدينية محمد جورماز، حيث نجد عند البحث في التسجيلات الصوتية والمصورة أن أردوغان يبالغ في مدح حركة الخدمة والأستاذ كولن حتى أكثر من المنتمين إليها أصلاً، حتى بداية حملاته الشعواء ضدها في عام 2013 عقب ظهور فضائح الفساد والرشوة، كما أن محمد جورماز حضر عديداً من المؤتمرات الدينية العلمية التي تعقدها الخدمة من حين لآخر، آخرها كانت مؤتمر “الإجماع والوعي الجمعي” في 2013 والذي حضره كوكبة من العلماء في العالم الإسلامي. فهل سنعتمد على أفكارهم وتصوراتهم السابقة أم الحالية.. ومن سيضمن لنا أن أفكارهم وتصوراتهم لن تتغير في المستقبل.
خامساً: هذا التقرير الذي صدر من السلطة السياسية ومؤسسة الشؤون الدينية التابعة لها لا يتفق مع الضوابط والقوانين التي وضعتها الشريعة الإسلامية للفصل بين النزعات السياسية أو الدينية. فالاتهامات الواردة في هذا التقرير هي نفس الاتهامات التي توجهها السلطة للحركة منذ اندلاع النزاع بين الطرفين بعد فضائح الفساد والرشوة المعروفة، فكيف يتسنى للمدعي أن يكون حاكماً في الوقت ذاته ويصدر حكماً على المدعى عليه. ومقولة “فيك الخصام وأنت الخصم والحكم” هي أحسن تعبير يصور ما نحن بصدده.
سادساً: لم “يجد علماء السلطة” في إدارة الشؤون الدينية، بعد البحث والتنقيب في كتب الأستاذ فتح الله كولن التي تتجاوز 75 كتاباً، أي أكثر من عدد صفحات هذا التقرير، ومئاتٍ من المواعظ والدروس المنتشرة على صفحات اليوتيوب، ما يخدم غرضهم إلا بضع جمل انتزعوها من سياقها، وفسروها وفقا لأهوائهم وأهداف السلطة.
سابعاً: توظيف مؤسسة الشؤون الدينية في قضايا سياسية من أجل إضفاء “الصبغة الدينية” عليها إرضاءً للحاكم أمر يقدح في مدى مصداقيتها بحد ذاته، علماً بأن المؤسسة ذاتها رفضت قبل ذلك الحديث عن الحكم الديني في حادثة الفساد والرشوة التي تورطت فيها الحكومة والتصريحات الخطيرة من الناحية العقدية للمسؤولين، إضافة إلى صمتها المطبق عن الأعمال الإرهابية لتنظيم داعش وأمثاله وتوظيفها من قبل السلطة. وكان الأجدر برئيس هذه المؤسسة محمد جورماز أن يقتدي بعلماء هذه الأمة من أمثال أحمد بن حنبل وأبي حنيفة وابن تيمية – رحمهم الله جميعاً – ويحافظ على حيادها واستقلالها، ويتجنب تبرير وتسويغ ممارسات السلطة غير المنضبطة بالكتاب أو السنة وتحويلَ المؤسسة إلى أداة سياسية تنزل أحكاماً وفق أهواء السلطة.
ثامناً: هذا التقرير يتناقض مع رؤية مؤسسات دينية مرموقة أخرى، مثل الأزهر الشريف ومجالس كبار العلماء في مصر وغيرها من الدول العربية، لأنّ كتب الأستاذ فتح الله كولن تعرض على هذه الهيئات الدينية لأخذ موافقات شرعية خطية قبل طباعتها تؤكد خلوّ هذه الكتب مما يخالف الشريعة الإسلامية ويتعارض مع روح الإسلام الحنيف.
تاسعاً: التقرير افتقر إلى بديهيات البحث العلمي، إذ لم تُعزَ الفقرات المقتطعة إلى كُتبها ومصادرها الأصلية، كما فعل مع الكتب الدينية الأخرى التي ترد في التقرير، بل اقتطعت هذه الفقرات من كتب الأستاذ كولن من غير ذكر أين ومتى وفيم ولمن قال، وفي أي كتاب وصفحة أورده، حتى إنّ القارئ إذا أراد الرجوع إلى المصادر والمراجع الأصلية التي ترد فيها تلك الفقرات لن يستطيع ذلك. وهذا من أجل التغطية على تلاعبهم مع النصوص الواردة في كتب الأستاذ كولن وتضليل القراء والباحثين.
عاشراً: ولعل ما أقدم عليه رئيس الشؤون الدينية في تركيا استجابةً لأوامر السلطة يفتح الأبواب لخير كثير وإن لم يريداه، حيث نقول ونعلن وندعو كل من لديه ملكة العلم والاجتهاد إلى البحث الجاد والدراسة العميقة في مؤلفات الأستاذ كولن ليتبين الرشد من الغيّ والنور من الظلمات والهداية من الضلالة. ومع أن هناك مئات الكتب التي ألفها علماء أجلاء، وعشرات من رسائل الدكتوراه والماجستير التي كتبها الباحثون، إلا أن الحاجة إلى البحث والتأليف في هذا المجال لا تزال ملحة، من حيث إن الأفكار التي طرحها الأستاذ كولن ونقلها إلى الحياة عبر فاعلين ومؤسسات خيرية وتعليمية واقتصادية وفكرية تستحق تسليط الأضواء عليها حتى يكون الجميع على بينة منها.