تقرير: محمد عبيد الله
اقترن اسم الأستاذ فتح الله غولن و”حركة الخدمة”،التي تستلهم أفكاره، بمبادئ “التعاون والحوار والسلام والتسامح والتعايش السلمي” منذ سنوات. كانت هذه الحركة تخطر على بال الجميع، سواء كانوا مسلمين أو معتنقين لدين آخر، بمجرد ذكر هذه المبادئ، التي تعتبر قيمًا مشتركة بين الإنسانية جمعاء،حتى عام 2014، حيث خرج رجل متّهم بارتكابه أكبر عملية فساد في تاريخ تركيا بل العالم، إضافة إلى إدانته دوليًّا بالتعاون مع تنظيم داعش وأمثاله، ليلقي جريمة “الإرهاب” على هذا الأستاذ والحركة التي يقودها فكريًّا، مثل إخوة يوسف عليه السلام الذين (جَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ). ومن أحسن الأقوال التي تصوّر هذه الحال ذلك القول الذي سار مثلاً “رمتني بدائها وانسلّت”، بمعنى أنه عيّر الأستاذ غولن بعيبٍ هو فيه، فألقى عيبه عليه واتهمه به ليخرج نفسَه من الموضوع.
وعلى الرغم من أن هذه الفرية لم تجد آذانًا صاغية لها في “العالم الحر”، إلا أن الحكومة التركية لا تبقي ولا تذر شاردة ولا واردة إلا وتأتي بها لإثباتها؛فاستصدرت في بدايات عام 2016 “قرار توصية” من مجلس الأمن القومي التركي لتصف حركة الخدمة بـ”منظمة إرهابية غير مسلحة!”، ومن ثم بدأت تصفها بـ”منظمة إرهابية مسلّحة!”، عقب مسرحية محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 تموز/يوليو لعام 2016!
ومع أن الحكومة تقدم حركة الخدمة باعتبارها “العقل المدبر” الذي يقف وراء كل من الانقلاب الفاشل واغتيال السفير الروسي، ليزيلَ البُعد بين وصف “الإرهاب المسلّح” وهذه الحركة قدر المسافة بين السماء والأرض، دون تقديم أدلة معتبرة قانونًا أو شرعًا، غير أن كل محاولاتها لإقناع الشارع الدولي بهذه الترهات أصبحت هباءً منثورًا.
نظرًا لأن هذه الاتهامات الواهنة “وهن بيت العنكبوت” لم تحقق أهدافها المرجوة منها على الصعيد الدولي، توجهت الحكومة مؤخرًا إلى البحث عن “صلة مادية” لتعقد القران بين الإرهاب والخدمة، وتحصل على الذريعة الضروية للقضاء على كل مَنْ له علاقة بها، من بعيد أو قريب، وليس العاملين الناشطين فيها فقط. واعتقدت أن السبيل إلى ذلك هو اختلاق روابط محسوسة مرئية بينها وبين تنظيم داعش على وجه الخصوص.
كتبنا قبل نحو شهرين أن الحكومة أدركت أن الطرق التقليدية لم تعد تجدي في استعادة “حمائم السلام” المنتشرين في طول العالم وعرضه، لوضعهم خلف القضبان، أو قطف رؤوسهم إن حصلت على الإمكان، فحدث ما توقعناه خلال الأسبوعين الأخيرين، حيث وصل عدد الذين استطاعت الحكومة استعادة 30 من التربويين العاملين في مؤسسات الخدمة بكل من السعودية وماليزيا إلى تركيا ، وذلك من خلال خداعها لهذه الدول بأنهم تابعون لتنظيم داعش، أو في إطار تواطؤ الأطراف المذكورة على جريمة إلصاق هذه التهمة بأناس أبرياء، في خطوة يمكن وصفها بمحاولة الجمع بين الأضداد: الخدمة والإرهاب!
بعد أن خابت المساعي الرامية إلى تلطيخ الصورة الناصعة لحركة الخدمة بلطخة الإرهاب السوداء، بفضل تصرفات أبنائها الحكيمة والهادئة تجاه كل استفزازات السلطة، كشف بعضُ المطلعين على خلفية الأحداث عن مؤامرة جديدة تستهدف شنّ حملة أمنية على منازل لسكان مقربين من الحركة، بعد زرع عناصر تابعة للمخابرات فيما بينهم، وإخفاء أسلحة فيها استخدمتها عناصرُ حزب العمال الكردستاني الإرهابي أو داعش، لتقاوم هذه العناصر القوات الأمنية أثناء عملية المداهمة، حتى تتشكل الذريعة المطلوبة لإطلاق النيران عليهم وقتلهم، وإلقاء القبض على بعضهم وفي حوزتهم أسلحة وذخائر. لكن حظ نجاح هذه المؤامرة قليل جدًا مثل سابقاتها، في ظل عدم عثور قوات الأمن إلى الآن حتى على “سكين” في العمليات المنفذة ضد الخدمة، ناهيك عن السلاح والقنبلة، بل كل أبناء الحركة من نساء ورجال وأطفال سلموا أنفسهم للسلطات الأمنية طواعية دون أي نوع من المقاومة.
كل هذه المستجدات تكشف ضرورة تسليط الأضواء مرة أخرى على موقفالأستاذ غولن وحركة الخدمة من الإرهاب والجماعات الإرهابية إلى الآن حتى يكون الجميع على بينة من أمرهم:
السلم والحوار خيار استراتيجي ثابت أمس واليوم وغدا
من تتبع مراحل حياة الأستاذ غولن، بدءًا من أيام شبابه وانتهاءً بسنوات شيخوخته، يكشف أن السلم والحوار والتعايش كان خيارًا استراتيجيًّا ثابتًا عنده لم يضحِّ به لأي مصلحة عابرة أو ذريعة واهنة أبدًا. وإذا ألقينا نظرة سريعة على الخطب والمواعظ التي ألقاها بالجوامع في الثمانينات والتسعينات باعتباره واعظًا متجوّلاً نرى أنه أكّد دومًا على أهمية الأمن العام والصلح العمومي في البلاد.
فعلى سبيل المثال، في الوعظ السابع من سلسلة “الصفات التي تسمو بالإنسان” في 30 من أبريل/ نيسان عام 1989 ينوّه الأستاذ غولن بأن المسلمين لا يمكن أنيقوموا بأعمال وأنشطة تخلّ بالأمن العام، بل يجب عليهم أن يكونوا حراسًا للأمن، وملتزمينبالقوانين، ومعارضين للفساد والفوضى، ورسلَ الحب والأخوة بشقيها الديني والإنساني،وناشرين لهما في كل مكان حلوا فيه وارتحلوا. كما يلفت إلى أن الحب قيمة ذاتية وليس لديهم وقت للعداء، داعيًا محبيه وسائر المسلمين إلى تجنب التورط في أعمال ستجعلهم أداة طيعة لأصحاب النوايا السيئة الذين يتعمدون تقديم المسلمين كافة وكأنهم يتصرفون بطريقة منافية للأنظمة الحاكمة في بلدانهم. واشتهر قوله في هذا الصدد “أسوأ حكومة أفضل من الفوضى”، وهو الأمر الذي دفع بعض الجماعات الإسلامية إلى انتقاده.
التزام الأمن وتجنب العنف من مقتضِيات الإيمان
وفي وعظه المعَنْوَن بـ”مجتمع الأمن” في الخامس والعشرين من فبراير/ شباط عام 1990 أفاد غولن أن الأمن هو معنى كلمة مؤمن، وأبرز سمات المؤمن الحقيقي، وأن الأمن والأمان هما زهور منحدرات المسلمين، وأن المؤمنين هم ممثلو الأمن والأمان على وجه الأرض وهناك حاجة كبيرة حاليا إلى مسلمين حققوا معاني الأمن والإيمان والسلام والإسلام في أنفسهم وحملوا هذه الرسالة الإسلامية السامية إلى غير المسلمين أيضًا.
ومن الجدير بالذكر أن الأستاذ غولن يرى التزام الأمن والابتعاد عن الفوضى، وتجنب استخدام العنف، من مقتضيِات وضرورات “الإيمان/المؤمن” و”الإسلام/المسلم”. فمن آمن وأسلم دخل في رحاب الأمن والإيمان والأمان والسلم والسلام والإسلام. فمن حقق الأمن والأمان والسلم والسلام في نفسه يأمَن ويسلَم الآخرون من لسانه ويده، ويتحول إلى مصدر أمن وأمان وسلم وسلام بالنسبة لهم أيضًا، وهذا معنى قوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً).
وفي خطبته بعنوان ديناميات الروح في الثاني والعشرين من أبريل/ نيسان 1990 أكد غولن أن أبواب العالم لن تنفتح بالسيف بل بالأمن، وأن العالم بأسره فتح أبوابه لإيمانه بالرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، كما أن حكم العثمانيين لمساحة كبيرة من الأرض لعصور مديدة من الاستقرار نابع من إقرارهم وتحقيقهم للأمنوالسلام.
من الأفكار المتبعثرة إلى مؤسسات الحوار العملاقة
هذه اللغة السلمية الحوارية كانت ثقافة عامة منتشرة بين أبناء حركة الخدمة فقط في البداية، وكان نطاقها محدودًا، لكنها اكتسبت طابعًا مؤسسيًّا عقب تأسيس وقف الكتاب والصحفيين الذي ترأسه شرفيًّا الأستاذ غولن، والذي أصبح عنوانًا يلتئم فيه كل مفكر ومثقف له هموم إنسانية ووطنية، بغضّ النظر عن العرق والمذهب والفكر بل حتى الدين. حيث ضمّ في سقفه مفكرين ومثقفين من الأتراك والأكراد والعرب والأرمن والإسلاميين والعلويين وممثلي الديانات الأخرى وأصحاب اتجاهات فكرية مختلفة، عبروا عن آرائهم حول المشاكل الإنسانية والوطنية عبر منتدى “آبانط” التابع للوقف، ولم يكن مفتوحًا للمدنيين فقط وإنما فتح صدره للسياسيين من كل الأحزاب حتى تجد الأفكار المطروحة فيه مجالا للتطبيق على أرض الواقع من قبل الحكومات. ومن ثم أصبح للوقف فروع في داخل تركيا وخارجها، ومن ثم بدأ يعقد مؤتمرات دولية حول حوار الحضارات والثقافات، إسهامًا في نشر ثقافة التعايش السلمي، مع الحفاظ على الفروق والاختلاف نظرًا لأنها من عناصر ثراء وليس ضعفا وتفرقة. وكانت عبارة “تقبُّل الآخر كما يقدم نفسه” شعار تلك الفترة.
إدانة الإرهاب عبر الصحافة العالمية
ولم تقتصر جهود إقامة الحوار والتعايش السلمي على المواعظ والدروس التي ألقاها الأستاذ غولن في المساجد وقاعات الاجتماعات والندوات المختلفة فقط، بل شملت لقاءاته ومقالاته الصحفية أيضًا.فالكاتب الصحفي أيوب جان أجرى حوارًا مع الأستاذ غولن في عام 1995، نشرته صحيفة زمان التركية على مدار 11 يومًا، وتناولته معظم الصحف الأخرى بالدراسة والتحليل والنقد، بحيث لا تزال أصداؤه مستمرة إلى اليوم. حيث قدم غولن فيه رؤيته وفلسفته للحياة والمجتمع والسياسة والتغيير المجتمعي، والتعامل مع الآخر، ونظرته إلى العلمانية والديمقراطيةوالعلوم المادية، إلى جانب طرح عديد من الحلول للمشاكل الاجتماعية والقضايا الوطنية المزمنة. والأفكار التي طرحها حول ضرورة الديمقراطية لا تزال ثرية حية وجديرة بالدراسة والتحليل، حيث أعلن أنه لا يمكن التراجع عن الديمقراطية أبدًا، بل ما يجب فعله هو إضافة بُعْدٍ أخروي لقيم الديمقراطية المشتركة التي توصل إليها العقل البشري بالاستفادة مما قدمته الأديان والتجربة الإنسانية التاريخية بحيث تتمكن من تقديم حلول ناجعة ليس للمشاكل الدنيوية فقط وإنما للمشاكل الأخروية أيضًا. كما أكد أنه يجب على المسلمين الإسهام الفكري والعملي في عملية الانتقال الديمقراطي للبلاد والاستفادة من الأجواء التي توفرها الديمقراطية من أجل ممارسة متطلباتهم الدينية من جانب، وتبليغ تعاليم دينهم عبر وسائل سلمية بعيدًا عن العنف والإرهاب من جانب آخر.
هذه الأفكار يتقبلها اليوم الجميع بسهولة، لكن الأستاذ غولن طرحها في وقت كان أنصار الإسلام السياسي (وهم الآن على رأس السلطة في تركيا) يعتبرون “الإرهاب” “جهادًا”، “وتنظيم القاعدة “جماعة إسلامية” وأسامة بن لادن “مجاهدًا”.
صدور هذه الأفكار الداعية للديمقرطية والتعايش السلمي،استنادًا إلى أدلة من الكتاب والسنة والتجربة الإنسانية المشتركة،من عالمٍ إسلامي تلقى العلوم الدينية ونشأ على النهج التقليدي، أثار فضولاً واسعًا وصدمة كبيرة بين أوساط المثقفين من شتى الاتجاهات الفكرية، بما فيهم الليبراليون والاشتراكيون.
وفي هذا الإطار ذكرت الكاتبة الليبرالية نوال سفيندي في كتابها بعنوان “حوار نيويورك مع غولن” الذي نُشر في عام 1997 أن غولن أكد على أن الإرهاب مناقض تماما للإسلام، وأن القرآن ينص على أن (أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا)، وهناك مِنْعلماء الإسلاممَنْيؤكدون أن من يرتكبون هذه الجريمة سيخلدون في جهنم، وأن الإرهاب لا يقود إلى أي شيء سوى الدمار في الدنيا والنار في الآخرة.
من المحلية إلى العالمية
بدأ الأستاذ فتح الله -ولا سيما بعد عام 1990- بحركة رائدة في الحوار والتفاهم بين الأديان وبين الأفكار الأخرى متسمة بالمرونة والبعد عن التعصب والتشنج، ووجدت هذه الحركة صداها في تركيا ثم في خارجها. ووصلت هذه الحركة إلى ذروتها في الاجتماع الذي تم عقده في الفاتيكان بين الأستاذ غولن وبين البابا إثر دعوة البابا لـه، ليكتسب بذلك الخطاب الحواري السلمي عند الأستاذ غولن طابعًا عالميًّا بعد أن كان خطابًا محليًّا محدودًا. لقد آمن بأن العالم أصبح -بعد تقدم وسائل الاتصالات- قرية عالمية؛ لذا فإن أي حركة قائمة على الخصومة والعداء لن تؤدي إلى أي نتيجة إيجابية، وأنه يجب الانفتاح على العالم بأسره، وإبلاغ العالم كله بأن الإسلام ليس قائماً على الإرهاب -كما يصوره أعداؤه- وأن هناك مجالات واسعة للتعاون بين الإسلام وبين الأديان الأخرى. وأكد أن المسلمين يجب عليهم ألا يخافوا من الاحتكاك بمنتسبي الأديان الأخرى طالما أنهم واثقون من صحة معتقداتهم، ودعا إلى تفعيل الدين في الجهود الرامية إلى إقامة السلام العالمي، وإلى تنافس حر بين معتنقي الأديان قائم على الحوار والإقناع بدلاً من القمع والإكراه، والتعايش جنبًا إلى جنبٍ مع التركيز على القواسم المشتركة وتنحية الأمور المختلف فيها.
ورغم أن بعض “الإسلاميين السياسيين” انتقدوا الأستاذ غولن لدعوته إلى الحوار بين معتنقي ديانات مختلفة، إلا أنهم لما وصلوا إلى سدة الحكم في تركيا اقتدوا به وأطلقوا حوار الحضارات أيضًا برئاسة تركيا وإسبانيا ومن ثم تعطل مسار هذه المبادرة، بل طالبوا رئيس مؤسسة الشؤون الدينية آنذاك بأن يلتقي البابا بدلاً من غولن، لتحقق هذا اللقاء بين الطرفين في السنوات اللاحقة!
هجمات 11سبتمبر/ آيلول 2001 الإرهابية
وعقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر/ آيلول 2001، نشرت صحيفة زمان في السابع عشر من سبتمبر/آيلول مقالاً للأستاذ غولن بعنوان “المسلم لايمكن أن يكون إرهابيًّا”. وفي هذا المقال شدد الأستاذ غولن على أن الإسلام في جوهره دين حب ولايؤيد الإرهاب أبدًا، ولا يمكن لمسلم فهِم الإسلام كما ينبغي أن يكون إرهابيًّا، بل هو بطل نجح في انتزاع منابع الحقد والكراهية من قلبه، ويمثل الأمن والسلام في وجه الأرض قاطبة.
وفي حواره مع الكاتبة الصحفية الروائية الشهيرة نورية أكمان في الحادي والعشرين والثاني والعشرين من مارس/آذار عام 2004، وصف غولن أسامة بن لادن بـ”أحد أكثر الشخصيات المكروهة عندي”، نظرا لتلطيخهجبهة الإسلام الناصعة بلطخة الإرهاب السوداء، وأن إصلاح الدمار المرعب الذي تسبب فيه سيستغرق سنوات طويلة، كما أكد أن بقاء شخصٍ تورط في الإرهاب مسلمًا أمر صعب للغاية، مشيرا إلى أنه لا يمكن دخول الجنة والفوز برضا المولى عز وجل من خلال قتل الناس، ولايمكن بلوغ أهداف مقدسة بطرق باطلة.
والموقف القاطع الذي اتخذه الأستاذ غولن تجاه بن لادن وتنظيم القاعدة ورد في التقرير الذي أعدته دائرة الاستخبارات بمديرية الأمن العام في تركيا عام 2005 بشأن تنظيم القاعدة في تركيا،ويؤكد التقرير الاستخباراتي أنه الشخص الذي اتخذ أعنف موقف تجاه الإرهاب.
وفي حوار أجرته معه مجلة “فورين بوليسي” (ForeignPolicy) بمناسبة اختياره بين أكبر مائة مفكر في العالم عام 2008، ذكّر الأستاذ غولن بأنه أعلن مرارًا وتكرارًا أن الإسلام لا يوافق أبدًا على الإرهاب بأي حال من الأحوال على شتى أنواعه، وأن المسلم الحق لايمكن أن يكون إرهابيًّا، وأن الإرهابي لايمكن أن يكون مسلمًا، مؤكدًا أن عوامل كالفقر والجهل والتفرقة وكراهية الآخر هي التي تولّد الإرهاب والعنف، وأن الحوار والفعاليات التعليمية هما أكثر الوسائل تأثيراً في معالجتهما.
إدانة إرهاب داعش في الصحافة العالمية
وليس من المفاجئ أن يعارض الأستاذ غولن علانيةإرهاب تنظيم داعش أيضًا بعد أن علمنا مواقفه السابقة في هذا الصدد، في حين أن الحكومة التركية كانت مترددة في موقفها تجاه هذا التنظيم. وأظهرت تقارير أعدها جهاز الأمن التركي “السابق”، وأخرى أعدها الجيش التركي “السابق” أيضًا، قبل قلبهما رأسًا على عقب بيد السلطة الحاكمة في تركيا، التعاون بين هذا التنظيم الإرهابي والحكومة التركية، وذلك إلى جانب تقارير دولية تشير إلى العلاقات المشبوهة بين الطرفين.
وفي هذا الإطار ذكر الأستاذ غولن في درسه الـ425 بتاريخ 14 أكتوبر/ تشرين الأول في عام 2014 أن داعش “شبكة شر” لوثت وجه الإسلام الناصع بعملياته الإرهابية، واصفًا المنتسبين إليه بـ”الجلادين والسفاحين” و”قطاع طريق”، مشيرًا إلى “ظهوره المفاجئ” عقب غياب تنظيم القاعدة، وتسببه في نفور الناس من الإسلام.
وأفاد الأستاذ غولن في درسه الـ492 بتاريخ 26 من نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2015 أن الجماعات الإرهابية شوهت الصورة الغراء للدين الإسلامي المبين، باسم السلفية الأصولية والقاعدة في مرحلة ما، وباسم داعش وبوكو حرام في مرحلة أخرى، وحاليا باسم المرابطين، وأنها تخير الناس بين أن يكونوا أمثالهم أو يموتوا!
لا تقتصر أفكار الأستاذ غولن حول هذا التنظيم الدموي على دروسه فقط، فمقالاته في الصحف وتصريحاته للصحافة المحلية والدولية تعكس للعالم بأسره موقفه المناهض لداعش. ففي مقاله بعنوان “يجب على المسلمين مكافحة سرطان التطرف” الذي نشرته صحيفة وول ستريت جورنال في 27 أغسطس عام 2015 قال: “إن ما يقع على عاتقنا من مسؤولية كمسلمين في الوقت الذي يواصل فيه التنظيم الإرهابي الذي يسمي نفسه الدولة الإسلامية في العراق والشام، أو (داعش) اختصارًا، ارتكاب مذابحه الوحشية في منطقة الشرق الأوسط، هو مواجهة هذا التنظيم وسائر الجماعات الإرهابية التي تقلده من خلال أيديولوجياته الشمولية الاستبدادية. فكل عملية إرهابية ترتكَب باسم الإسلام تؤثر بشكل عميق للغاية في المسلمين قبل غيرهم، إذ كما أنها تجعلهم غرباء في المجتمعات التي يعيشون بها كذلك تتسبّب في تعميق الانطباعات الخاطئة عن دينهم، الإسلام”.
ولفت إلى أنه ليس من العدل اتهام الإسلام بسبب الظلم الذي يرتكبه المتطرفون الذين يلجأون إلى العنف، لكن لا يمكن للمسلمين أن ينكروا هذه المشكلة؛ لأن الإرهابيين يَظهرون بهويتهم الإسلامية، بل إنهم مكلفون ببذل ما في وسعهم للحيلولة دون تفشي هذا السرطان في جسد المجتمع. وتابع: “ولو تقاعسنا عن فعل هذا فإننا أيضاً نتحمل – إلى حد ما – مسؤولية تعرض صورة الإسلام للتشويه”.
ثم نوه بما ينبغي فعله بقوله: “علينا قبل كل شيء أن نشجب العنف، وألا نقع في شرك عقدة المظلومية؛ إذ إن الظلم الواقع علينا لا يجيز تجنّب شجْب الإرهاب أو إضفاء صبغة الشرعية على اللجوء إلى الإرهاب. وأنا لست الوحيد الذي يرى أن الإرهابيين يرتكبون جرائم كبرى بحق الإسلام، فمراجعة المصادر الأساسية ودراستها بمصداقية، مثل القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، تقودنا إلى الوصول إلى هذه النتيجة بوضوح تام. فالدساتير الماسية للقرآن الكريم والحياة المثالية التي عاشها النبي صلى الله عليه وسلم، والتي نقلها إلينا السلف الصالح وعلماء الأمة ممن كرسوا حياتهم لفهم المقاصد الإلهية في القرآن الكريم عن طريق علوم الحديث والسيرة والتفسير، تدحض جميع المزاعم التي يحتجّ بها البعض لتشريع وتسويغ ما يفعله الإرهابيون دينيًا”.
وفي مقاله بصحيفة نيويورك تايمز في 15 من يوليو/ تموز عام 2016 أكد غولن أنه والعاملين ضمن حركة الخدمة اتخذوا دائما موقفًا معاديًا للأعمال الإرهابية بدءًا من هجمات 11 من سبتمر/ آيلول 2001 وعمليات الإعدام الظالمة التي ينفذها تنظيم داعش الإرهابي، وعمليات اختطاف بوكو حرام للأطفال في الوقت الذي تبحث فيه الديمقراطيات الغربية عن صوت إسلامي معتدل.
وخلال الفترة بين شهري سبتمبر/ آيلول ونوفمبر/ تشرين الثاني من عام 2014 نشرت العديد من الصحف، من بينها نيويورك تايمز، وواشنطن بوست، ووول سترين جورنا،ل ولوس أنجلوس تايمز، والجادريان، وشيكاغو تربيون، ولوموند الفرنسية، وDe Morgen البلجيكية وDe Volkskrant وNRC Handelsblad الهولندية وروداو، وهاولاتي، وكردستان نويز، والجاودار الصادرة بالكردية في إقليم كردستان العراق،تصريحات الأستاذ غولن التي استنكر خلالها العمليات الإرهابية لتنظيم داعش وأكد أنها منافية للقرآن والسنة تمامًا.
كما أن الأستاذ غولن كشف عن آرائه مرة أخرى حول إرهاب داعشوضرورة التصدي للمتطرفين بكل الوسائل المتاحة،خلال مقابلته مع وكالة الأنباء الروسية رجنوم في الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي.
استنادا إلى ما ذكرناه أعلاه فإن كل تصريحات غولن تعكس معارضته علانية وبكل وضوح، وبدون استخدام عبارات الذريعة لكن.. إلا.. غير.. الإرهاب والفوضى وكل الجماعات الإرهابية منذ ثمانينات القرن الماضي ودعمه للأمن والصلح.
السلمية بين النظرية والتطبيق
هذا على الصعيد النظري.. أما على الصعيد العملي، فرغم انتشار آلاف المتطوعين من أبناء حركة الخدمة في أرجاء المعمورة، وعلى وجه التحديد في أكثر 170 دولة في العالم، لم تسجل الأجهزة الأمنية والاستخباراتية المحلية في تلك الدول تورط أحد منهم في أعمال مشبوهة وممارسات غير قانونية، ناهيكم عن الأعمال الإرهابية، بل عديد منهم تعرضوا لعمليات إرهابية وراح بعضهم ضحيتها، كما حدث في الصومال، حيث فازت حركة الشباب المتطرفة بمناقصة من “جهات غير معلومة”، فقتلت 7 أشخاص وأصابت 5 آخرين، بينهم مدرسان شابّان تركيّان من أبناء الخدمة،في هجوم مسلح على حافلة تركية تابعة لإحدى مدارس حركة الخدمة في مارس عام 2016.
أما في المرحلة الأخيرة، وعلى وجه التحديد بعد فضائح الفساد والرشوة في عام 2013، بدأت الحكومة التركية برئاسة رجب طيب أردوغان تتهم حركة الخدمة بـ”منظمة إرهابية غير مسلحة” قبل محاولة الانقلاب الفاشلة، وبـ”منظمة إرهابية مسلحة” بعد هذه المحاولة، من دون أن تقدم للرأي العام أي دليل يثبت هذا المدعى. والجانب اللافت في الموضوع هو أن الحكومة رغم أنها تتهم الحركة باستخدام العنف والإرهاب غير أن تركيا لم تشهد طيلة خمس سنوات من الاعتقالات الجماعية العشوائية وممارسات التعذيب الممنهجة وعمليات الاختطاف في الداخل والخارج أي نوع من الاعتراض أو المقاومة، سواء كانت مسلحة أو غير مسلحة، بل سلم الجميع أنفسهم للسلطات الأمنية طواعية. والأهم من ذلك أن هناك موظفين يحوزون أسلحة بواقع وظيفتهم في أجهزة الدولة، وعلى رأسها جهاز الأمن والجيش، تعرضوا لعمليات اعتقالات جماعية طالت تقريبًا كل الموظفين الأمنيين السابقين، إلا أن البلاد لم تشهد أي مقاومة فردية أو جماعية مع قدرتهم على ذلك.
هذا الواقع، أي السيرة السلمية الناصعة لحركة الخدمة في الفكر والعمل، سواء كانت في حالة الرخاء أو الشدة، أكبر عائق يقف أمام الحكومة التركية في مساعيها الرامية إلى وصمها بـ”حركة إرهابية”، وإقناع العالم بهذه الأطروحة.
“لافتة الإرهاب” لن تلتصق بواعظ ومفكر وداعية ورجل قلب قد ربى المتحلقين حوله على أناشيد السلام والمحبة والعشق والشوق منذ نعومة أظفاره، وأعلن أن هدفهم السامي هو العبودية لله تعالى وتحصيل رضاه، وتحقيق السلام والانسجام بين أبناء المجتمع الإنساني كله.