بقلم: بارباروس كارتال
قلتُ لرفاقي، بعد أن تبيّن أن منفذ عملية اغتيال السفير الروسي في العاصمة أنقرة من رجال الشرطة، إن جسمًا عملاقًا يقترب من المركبة الفضائية لحركة الخدمة! بل حتى قلت لهم إنني لن أتفاجأ إذا ما عثرت القوات الأمنية، خلال عدة ساعات، على كتبٍ وصور ومواد أخرى في منزل المهاجم المسلح تدل على انتمائه للخدمة!
وهذا بالفعل ما قامت به الصحف الصفراء الموالية للحكومة التركية والرئيس رجب طيب أردوغان والصحف الأخرى الخاضعة لهما طوعًا أو كرهًا، والتي تبدو كلها وكأنها نسخة واحدة طبق الأصل من شدة تجانسها وتطابقها حتى في عناوينها بحيث تغنيك قراءة إحداها عن قراءة شقيقاتها الأخرى، إذ ساقت كلها بصوت واحد أخبارًا تزعم الربط بين حركة الخدمة التي تستلهم فكر الأستاذ فتح الله كولن وحادث اغتيال السفير الروسي.
وبما أن جميع الصحف التركية عبارة عن نسخة واحدة، نكتفي بتقديم مثال من إحدى تلك الصحف فقط: لنرصد مثلاً تصريحات عبد القادر سلفي، الكاتب الصحفي بجريدة “حريت”، التي اعتقلت السلطات الأمنية ممثلها بالعاصمة أنقرة بارباروس مراد أوغلو بتهمة تبعيتها لحركة الخدمة. إذ يلخّص جيدًا ما يقصّه جهاز المخابرات منذ فترة على الصحفيين. فحسب رأيه، فإن مرتكب عملية الاغتيال أحد الخلايا النائمة لحركة الخدمة… حيث ساق مزاعمه كما يلي:
كانت تقارير جهاز المخابرات تقول إن الخدمة انكسرت شوكتها وخارت قواها، ولم يعد باستطاعتها تنفيذ عمليات ضد تركيا من قبيل انقلابات عسكرية، على غرار انقلاب 15 يوليو/ تموز الماضي، إلا أنها من الممكن أن تتوجه لإيقاظ خلاياها النائمة، والدفع بها إلى الساحة لتنفيذ سلسلة من الاغتيالات ضد أهداف استراتيجية، على رأسها الرئيس أردوغان. وكان يعبر عن مخاوفه من العمليات الانتحارية المحتملة. وقد جاء حادث اغتيال السفير الروسي تصديقاً لما توقع به جهاز المخابرات. ونرى أن حزب العمال الكردستاني الإرهابي “بي كا كا”، ينفذ عمليات إرهابية انتقامية خلال الفترة الأخيرة. وفي إطار الأهداف ذاتها، شرعت منظمة فتح الله غولن الإرهابية في تطبيق سيناريوهاتها الانتقامية. إذ كان عبد الله بوزكورت؛ ممثل جريدة توديز زمان “Today’s Zaman” التابعة لهذه المنظمة بالعاصمة أنقرة نشر تغريدة على حسابه في تويتر بتاريخ 16 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، أي قبل ثلاثة أيام من اغتيال السفير الروسي، قال فيها: “لم يعد للسفراء أمان في تركيا”. وقد أدركنا المعنى المراد من ذلك بوضوح في واقعة اغتيال السفير الروسي كارلوف. بمعنى أن الخلايا النائمة لهذه المنظمة تحركت. ولا نعرف من هو الهدف الثاني أو الأهداف الأخرى…
ثم يزعم عبد القادر سلفي أن الشرطي قاتل محترف، وأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لن يواجه صعوبة في استيعاب أبعاد هذه اغتيال سفيره من قبل تنظيمٍ سبق أن حاول اغتيال الرئيس أردوغان عبر الانقلاب!
كنت أودُّ أن أنشر ما سأسرده الآن في مقالٍ منفصلٍ، لكن دعوني أتعرض له الآن بصورة موجزة: تتعرض الأرشيفات في تركيا لعملية حذف ممنهجة ومنظمة منذ فترة بحيث لا تستطيعون الآن الوصول إلى المقالات السابقة للكتاب. ذلك لأن الكتاب بما فيهم الموالون لأردوغان، كما يعلم القاصي والداني ويتذكر، كانوا يوجهون انتقادات لاذعة جدا إلى أردوغان وسياساته. وإن بقيت لديهم ذرة من الشرف والضمير فليفتحوا أرشيفات هذه المقالات حتى يرى العالم أجمع ما كانوا يكتبونه في ذلك الوقت. أرشيفات أي جريدة بمثابة عرضها، ويجب الحفاظ عليها مهما كانت. لماذا تطرق إلى هذا الموضوع؟ ذكّرت لكم بذلك تحسبًا من أن يكون مقالي هذا ضحية ويواجه المصير ذاته مع المقالات الأخرى، لذا أحتفظ من الآن بنسخة من مقالي. فكاتب صحيفة حريت عبد القادر سلفي المقرب لأردوغان مسؤول عن مقتل السفير الروسي بقدر مسؤولية الشرطي القاتل على الأقل كما سنرى.
- كيف يكون الشرطي القاتل من أفراد الخلايا النائمة للخدمة وهو قد خضع لامتحان القبول للتوظيف الرسمي، إضافة إلى خضوعه لتحقيق موسع قبل تعيينه في سلك الشرطة ودخول ضمن حرس موكب أردوغان، بعد عزل عشرات الآلاف من الشرطيين خلال تحقيقات الفساد والرشوة عام 2013 والانقلاب المسرحي منتصف شهر تموز المنصرم.
- يزعمون أن القاتل محترف وكان يرتاد أحد مراكز دروس التقوية التابع للخدمة.. حسنًا فماذا عن دخوله ضمن حرس موكب أردوغان يا ترى؟! وقد زعموا أيضًا أن المستشارين العسكريين لأردوغان هم كذلك كانوا تابعين للخدمة وحاولوا قتله أثناء الانقلاب! تصوروا أن الانقلابيين العسكريين يدخلون ويخرجون من وإلى غرفته بكل سهولة عشرات المرات في كل يوم، بمعنى أنهم قريبون منه قرب نفسه، ومع كل ذلك يفشلون في قتله! بصراحة كلما أرى مثل هذه الأكاذيب أتمنى أن تقوم القيامة وتبلى السرائر ويلقى الجميع مصيره من الجنة أو النار!
- يزعمون أن عبد الله بوزكورت؛ ممثل جريدة الزمان في العاصمة أنقرة التي استولى عليها أردوغان ثم أغلقها قبل الانقلاب المسرحي نشر تغريدة يوم 16 ديسمبر/ كانون الأول الجاري في حسابه على تويتر وقال فيها “لا أمان للسفراء في تركيا”. لا أعلم من أين أبدأ تصحيح الأخطاء التقنية والموضوعية في زعمهم هذا! فقبل كل شيء، إن ما نشره عبد الله لم يكن تغريدة، بل كان إعلانًا تعريفيًّا لمقاله الذي كتبه لموقع Turkish Minute الإخباري. ولو قرأ المفترون مضمون المقال لاكتشفوا أنه يلفت فيه الانتباه إلى خطورة تصاعد خطابات العداء والكراهية الموجهة ضد الممثلين الدبلومسيين الغربيين (لا الروس) في تركيا في الفترة الأخيرة، ويشير إلى احتمالية تحول هذه الخطابات الخطيرة إلى الهجوم على السفارات والقنصليات الغربية بل واحتلالها أيضًا. لو افترضنا أنه قال ذلك وهدد السفير الروسي فلماذ لم يتخذ جهاز المخابرات التدابير اللازمة لحماية السفير حيث هو يأتي في مقدمة صفوف الذين يتابعون كل حركات وسكنات عبد الله في الإعلام الاجتماعي. الواقع أن حكومة حزب أردوغان أرسلت فريقه “الإسلامي” إلى تقديم التعازي لروسيا، لكن الحكومة ذاتها أرسلت أنصار حزب التحرير “الإسلامي” أيضاً إلى تنظيم مظاهرة احتجاجية ضد السفارة الروسية في قلب إسطنبول قبل أسبوع هددوا فيها روسيا بشكل علني. فضلاً عن ذلك، فإن عبد الله لا يقول: “لا أمان بعد اليوم للسفراء في تركيا”، بل يقول: “لم يعد للسفراء أمان في تركيا”.
- وإذا كان نشر كاتب صحفي، يتابع ويدرس فكر الحركات الإسلامية الراديكالية منذ سنوات، مثل عبد الله بوزكورت، تغريدة تحذيرية قبل أيام من وقوع الحادث، فإن هذا يعتبر نجاحًا صحفيًا في كل أنحاء العالم، ويستحق المدح والثناء، ويفترض أن يكون نجم ذلك اليوم. لذلك فإذا كان هذا التصريح قد صدر من أحد الصحفيين الموالين لأردوغان والحكومة لكان نزل ضيفًا في عشرات القنوات التليفزيونية في الليلة نفسها ليبرز نفسه كشخصية توقعت الحادث قبل وقوعه بخمسة أيام ويقدم تحليلات الصائبة لتداعياته.
إنهم يسعون للانتقام من عبد الله بوزكورت لمراقبته ودراستة للتنظيمات والجماعات الراديكالية المترعرعة في أحضان حكومة حزب العدالة والتنمية منذ فترة طويلة، وتسليطه الضوء على الأعمال السوداء لجهاز المخابرات.
من جانب آخر، نشر جماعة أردوغان ادعاءات على مواقع التواصل الاجتماعي حول الحادث كشفت أن عبد الله بوزكورت مستهدف عمدًا ووفق خطة مدروسة. زعموا أن الشركي الذي قتل السفير الروسي “مولود مرت ألتينتاش” حصل على الإجازة من عمله يوم انقلاب 15 يوليو/ تموز الماضي، وسجل عنوان عبد الله بوزكورت على أنه عنوانه الشخصي في نموذج طلب الإجازة. ولتفنيد هذه الأكاذيب دخل عبد الله إلى صفحته الشخصية في السجلات الحكومية الإلكترونية ونشر الوثيقة التي تثبت أن عنوان إقامته مختلف تمامًا عن العنوان الذي زعموا وجوده في نموذج طلب الإجازة للقاتل. ألا ترون بماذا يشتغل الصحفي في تركيا الأردوغانية حيث يضطر إلى إبراز وثيقة رسمية لدحض مثل هذه المزاعم الجنونية.
حسنًا فهل يمكن لعبد القادر سلفي وأمثاله من الكتاب الآخرين المبايعين لأردوغان أن يطبقوا الطريقة ذاتها التي طبقوها في مسألة تغريدة عبد الله بوزكورت المحب للخدمة على تصريحات زعيمهم في الفيديوهات انطلاقًا من العقلية نفسها؟ تذكروا إذ قال أردوغان “قد تنفجر القنابل في بروكسل أيضًا”. وقد انفجرت القنابل فعلاً فيها بعد 4 أيام من هذه التصريحات.
وبما أن مسؤولي حزب العدالة والتنمية والرئيس أردوغان ألصقوا جريمة الاغتيال بحركة الخدمة، فإنه في حال ظهور وقوف جهات أخرى وراءها، ستسقط وتنهار كل هذه الادعاءات مع جيمع مزاعمهم الأخرى المتعلقة بمحالات الانقلاب، بما فيها الانقلاب المسرحي الأخير، وسيصبحون سخرية لكل من يعيشون تحت هذه القبة الزرقاء. وقد تحقق ذلك فعلاً عندما تبنى جيش الفتح / جبهة النصرة عملية الاغتيال، إضافة إلى عدم اقتناع السلطات الروسية بهذه المزاعم.
إن حركة الخدمة باتت شماعة أردوغان يعلق عليها كل فضائحها وإخفاقاتها في الفترة الأخيرة. وكلما قدم الخدمة قربانًا للذين يريدون محاسبته على جرائمه فإن ثغراته ستتسع بحيث لن يصدقه حتى أنصاره.
وعند إلقاء نظرة عامة على الوضع في تركيا، نجد أنها تشهد في الآونة الأخيرة تفجيرات وعمليات إرهابية، وأخيرًا عملية انقلاب في قلب العاصمة أنقرة. ولكن من يتحمل مسئولية كل ذلك؟ من يدير البلاد؟ تسلمتم البلاد آمنة بلا إرهاب، والآن يخاف المواطنون من الخروج إلى شوارعها. أليس منكم رجل رشيد ليحاسب هذه السياسات التي اصطدمت بالجدار.
موقع تي آر 24 (tr724.com)
https://youtu.be/W8PyfZuF75I