نستعين للإجابة عن هذا السؤال بذاكرة التاريخ، التي تفتح لنا صفحاتها ولاسيَّما حِقْبة السبعينيات، حيث بدأ الأستاذ فتح الله كولن دعوته الإصلاحية، فعمل واعظًا مُتَجَوِّلاً، ثم هداه الله إلى تنظيم المُخَيَّمات للشباب، يُربِّي بها النُّفوس العَطْشى والأرواح الظَّمْآى.
كانت تركيا في تلك الفترة قد وَلَّت وجهها عن الإسلام، حيث اكْتسى فيها كل شىء رِدَاء العلمانية المتطرِّفة المناهضة لكل روح إسلامية، فالجيش يُخْتار أفراده من فئات لا تعرف أين قبلة الصلاة؟ ومؤسسات الدولة زُرِعت فيها العلمانية فنمت وترعرت، وهكذا أصبح الإسلام غريبًا في بلد آخر خلافة إسلامية.
في تلك الأجواء نَشَط فتح الله كولن، مَدْفُوعًا بالإيمان وحُبِّ الوطن. لم يكن يعمل في بداية دَعْوته ـ مُطْلقًا ـ على إنشاء كيانٍ موازٍ للدَّولة، أو تأسيس دولة داخل الدولة؛ ذلك لأن الدولة في أدبياته تَحْتَلُّ مكانة كبرى؛ إذ يرى أن غِياب الدولة وسلب دورها يعني شيوع الفوضى وعدم الانْضِبَاط، والصراع بين أبناء المجتمع الواحد.
فإلى أيِّ شىء كان يهدف كولن؟
عمل كولن على بَذْر بذور الإيمان، وبناء مجتمع الشريعة الذي يَلْتَزم فيه الناس بالأخلاق الإسلامية والعقيدة الصحيحة، وكانت أداته في ذلك النِّظام التعليمي الذي أسَّسه مُحبِّوه، وشبكة المدارس والَمعاهد وبيوت الطلاب والجامعات، التي سَتُخَرِّج جِيلاً من الشباب يمْلأ الفراغ الروحي في مؤسسات الدولة.
هذا يعني أن كولن لم يكن هدفه الدولة ولا رئاستها أو حكومتها، والذي يؤكِّد لنا ذلك أنه عاش في ظلِّ أنظمة مُخْتلفة لم يحاول الصِّدام معها. لقد كان هدفه أعْمَق من هذا بكثير، كان هدفه المجتمع المتعلِّم المُثَقَّف بِثَقافة الإسلام وسلوك الإيمان؛ إذ أن المجتمع لديه هو الذي يُنْتِج الحكومة، والمؤسسات المسلمة هي نِتاج المجتمع المسلم. كان شعاره في ذلك التَّلَطُّف والرِّفْق والتَّدَرُّج، وذلك اهْتداءً بقوله تعالى:” وليتطلف ولا يشعرن بكم أحدا”.
كانت تلك الدعوة الإصلاحية تعمل منذ بدايتها على أن تُوَلِّي تركيا وجهها شَطْر الإسلام، دون صدام أو صراع مع أيِّ طرف، مع أنها لم تسْلَم من عداء كل الأطراف.
بعد أن أثْمَرَت بُذُور غَرْس كولن ثَمَرتها، وأيْنًعت أزْهَارها، وفَاحَ رِيحُها في أكثر من 170 دولة، جاءت كلمات الثناء والتقدير تترى من المفكِّرين والأكاديميين، وأصبحت تجربة كولن موضوع دراسة كثير من الباحثين الغربيين والشرقيين، وأُنْشِئت باسمه كراسي ماجستير ودكتوراه في كثير من جامعات العالم.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن.
رجل يُكِنُّ له الجميع ولأفكاره ودعوته الإصلاحية الإسلامية الإنسانية كل احترام وتقدير، ولا أدَلَّ على ذلك من اختياره من قِبَل جريدة الأيكونومست الأمريكية الشخصية الأكثر تأثيرًا في العالم من بين مئة شخصية عالمية، كيف تَحَوَّل إلى إرهابيّ بين عشية وضحاها؟ وكيف غَدَت دعوته كيانًا موازيًا للدولة؟
لقد كان للخدمة مشروعها الإسلامي قبل ميلاد أردوغان السياسي؛ بل قبل ميلاد ما يُسمَّى بالإسلام السياسي، وذلك عندما كانت تركيا غارقة في علمانية مؤسساتها، حيث بدأت الخدمة مشروعها الإسلامي في أسلمة المؤسسات العلمانية المتطرِّفة من القاع، حينئذٍ لم تَكُنْ الأطراف الإسلامية تَنْظر للخدمة على أنها كيان موازٍ؛ بل كانت مَحَلَّ ثناءٍ ومدح.
فلماذا تَحَوَّل المدح إلى ذم؟ ولماذا نَنْعَتُها الآن بالكيان الموازي للدولة؟ فأيّ دولة نقصد؟ الدولة التركية؟! أم دولة أردوغان التي يسعى فيها لحكم الرجل الواحد، والتي يُرْفَع فيها شِعار لا صَوْت يَعْلو على صوت أردوغان؟!.