تحليل: مصطفي أديب يلماز
لقد انتابتني رجفة عندما علمت أن رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان يعتزم الخروج في جولة أفريقية للمرة الثانية خلال شهرين فقط. ذهب ليفعل ما حاول فعله من قبلُ في قمة الاتحاد الأفريقي في غنيا الاستوائية. ذهب ليشوه ويلطخ سمعة المتطوعين الأتراك ومهندسي جسور السلام هناك.
ولنتذكر سريعا؛ في 21 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي حذر أردوغان من “تنظيمات تتخذ المساعدات والأنشطة التعليمية والإنسانية ستاراً لها للقيام بأعمال تجسس ونقل معلومات”. واليوم ذهب إلى أثيوبيا ليعرض على مَنْ يلتقيه من المسؤولين غلق مدارس حركة الخدمة التي أنشأها المتطوعون، واعداً بفتح مدارس جديدة بديلة عنها تابعة وزارة التعليم التركية.
ووفقا لما تقوله، فإن وزارة التعليم التركية أوشكت على إنهاء أعمالها في هذا الصدد. لا أخفي أن روعي قد هدأ عندما سمعت التصريحات الأخيرة لأردوغان. حتى وصل بي الأمر إلى أن ارتسمت بسمة بسيطة على وجهي. هل قلتم لماذا؟ فلأوضح لكم:
لأن طلب أردوغان يواجه برفض تام في أدغال القارة الأفريقية التي عانت لقرون تحت حكم وأوامر “الرجل الأبيض”. ببساطة لأنه سفّه عقول الأفارقة واستخفّ بها إذ قال لهم إنه باستطاعته أن يحدد لهم ما هو الخير والجيد وما هو الشر والسيئ بالنسبة لهم. فأغلب دول القارة الأفريقية التي نالت استقلالها من المستعمرين في ستينيات القرن الماضي من أيادي المستعمرين البيض ترى أن أردوغان أيضًا رجل أبيض ظهر بين ليلة وضحاها وعاد للمنطقة في وقت متأخر جداً ليذكرهم بالماضي الأليم، ويعطي لهم توجيهات بأن هذا صحيح وهذا خطأ بلغة فوقية متعالية.
واليوم تتكون القارة الأفريقية من 54 دولة معترف بها من قبل المجتمع الدولي. وفي فترة قصيرة لا تزيد عن 20 إلى 25 عاماً لم ينسَ متطوعو حركة الخدمة، الذين يقدمون خدماتهم التعليمية في جميع أنحاء العالم تقريباً، أبناء القارة السمراء أيضاً؛ فقد بدأوا منذ سنوات بعيدة في تنشئة أجيال على العلم والعرفان وحملوا تلك المسؤولية على عاتقهم. وكان أردوغان والمحيطون به والمقربون منه – قبل أن يتم الافتراء على حركة الخدمة بالخيانة – يرون أن فعاليات وأنشطة تلك المدارس تعد عنصر “القوة الناعمة” (Soft Power) بالنسبة لتركيا في تلك المناطق. أما الآن فقد انقلبت الموازين وأصبحوا يعتبرونها عدواً لهم من الدرجة الأولى. ونتيجة لذلك باتوا يبذلون المزيد من الجهد ليفرضوا قوتهم “الصلبة هناك” (Hard Power). وبالتأكيد فإن الممثلين الدبلوماسين هناك هم أكبر وأهم لاعب في هذا المجال.
وبحسب تقارير وبيانات وزارة الخارجية، فإن تركيا لها تمثيل دبلوماسي في 35 دولة أفريقية. 35 فقط في 54 دولة أفريقية! ما معنى هذا؟ هذا يعني أن تركيا لم ترسل دبلوماسييها إلى جزء مهم من القارة السمراء. وحتى يتمكنوا من فتح مدارس تابعة لوزارة التعليم التركية يحتاجون إلى خطط خارقة، وميزانية ضخمة قد تستغرق سنوات طويلة. ولكن ما العمل لو ردَّ عليه الأفارقة قائلين: لاداعي لأن تتعب نفسك سيادة الرئيس فلدينا مدارس بالفعل؟”. إن الإنسان لا يتمالك نفسه من الضحك!
بالإضافة إلى ما سبق، فهل من الممكن أن يتم تنفيذ النشاطات والخدمات التي تقدمها حركة الخدمة بتطوع في دول يغرق أغلبها في مستنقع من الحروب تارة والمجاعات تارة أخرى، وأحيانا من الأمراض والأوبئة، من خلال قانون العمل الحكومي؟ ومَنْ مِنَ المدرسين أو الإداريين التابعين لوزارة التعليم التركية يمكنه الذهاب إلى دول لم يسمعوا عنها من قبل قد تشهد صراعات في أية لحظة مثل جمهورية أفريقيا الوسطى، أو الكونغو، أو مالي، أو الصومال، أو نيجيريا، أو حتى أفقر دول العالم مثل النيجر، أو بروندي، أو ليبيريا؟
ولكن من فضلكم لاتقولوا إن العقلية التي تعتبر قصراً مكوناً من ألف غرفة هيبة للدولة وتعطي ساعة بقيمة 700 ألف ليرة تركية هدية، وتتعامل بالمحسوبية والوساطة مع الأصدقاء والمقربين، يمكنها أن تذهب إلى بلاد لم يسمع عنها من قبل لتعليمهم اللغة التركية والفيزياء والرياضيات، فكل شيئ واضح وعلى مرأى ومسمع من الجميع. فالعملية التعليمية لا تضاهي عمليات الاستحواذ على الأراضي ذات القيمة الباهظة أو إنشاء المولات التجارية! فهذه أمور تتطلب رجلاً بطلاً مثل “أركان تشاغيل” الذي استشهد في حادث سير أثناء عمله في تنزانيا، وأوصى قبل موته أن يُدفن في حديقة مدرسة الخدمة هناك. أو بطل مثل “آدم تاتلي” الذي أمضى قسماً من عمره على متن طائرات الشحن بين إسطنبول وأولان باتور (عاصمة منغوليا) من أجل التنسيق للخدمات التعليمية حيث قرر أن يعمل كسائق سيارة أجرة (تاكسي) ولعله بسبب عدم حصوله على راتبه الشهري المكوّن من عدة مئات من الدولارات وكانت زوجته تساعده بأعمالها اليدوية، ومن ثم سقط شهيداً كالبذرة في أرض منغوليا وهو يسعى في سبيل الخدمة.
ونهاية القول: لاتقلقوا فالرجل الأبيض سيخسر مرة أخرى.