أسكي موصل، العراق (أ ب)- سار رجل أعزل من العرب السنة على طول طريق في بقعة من شمال العراق حررت حديثا من متطرفي الدولة الإسلامية، يحمل علم استسلام أبيض – اشارة الى المقاتلين الأكراد بأنه ليس من المسلحين. السيارات تتجاوزه وأعلام بيض – كعلمه – ترفرف من خارج نوافذها.
بعد أن استعادوا المنطقة من أيدي مسلحي الدولة الإسلامية، وجد المقاتلون الأكراد العراقيين تناقضا مفاجئا في المناطق التي حرروها من حكم الجهاديين المتطرفين. السكان المحليون أزاحوا عن كاهلهم الطراز الإسلامي الذي فرض على حياتهم – لكن كونهم من السنة مثلهم مثل المسلحين، يتوقع الكثير منهم أن يتهم بالتعاون مع المتطرفين.
من جهتها، قوات البيشمركة الكردية ينتابها الشك لبقاء الأهالي في منازلهم بعدما احتل تنظيم الدولة المنطقة العام الماضي. فريق الأسوشيتد برس المرافق للأكراد وجد الطريق الى الموصل منثورا بالريبة والخوف.
اندفاعة الأكراد الأخيرة حررت الكثير من البلدات والقرى على طول تقاطع حيوي يربط بلدة تلعفر بمدينة الموصل – أكبر معقلين للدولة الإسلامية في العراق.
الشريان، الذي يؤدي في منتهاه الى سوريا، كان طريق امداد حيوي للمتشددين في نقل الأسلحة والمؤن والأشخاص عبر الحدود العرقية السورية غير الخاضعة لقانون.
المقاتلون الأكراد كانوا يكافحون منذ أشهر لتحقيق تقدم مدعومين بغارات التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة. يوم الثلاثاء أصابت أربع غارات مواقع للمتطرفين بالقرب من أسكي موصل، وهي قرية يقطنها نحو تسعة آلاف شخص وتقع على مبعدة نحو 40 كيلومترا شمال غربي الموصل.
اللواء الكردي بهجت تيمس، الذي قاد العملية لإستعادة تقاطع تلعفر – موصل قال إن السيطرة عليه كانت أمرا حيويا لأنه يؤدي أيضا الى سد الموصل، الذي سيطرت عليه القوات الكردية والعراقية في أغسطس آب الماضي بمساعدة من الغارات الجوية الأمريكية.
تصاعد الغارات الجوية الأسبوع الماضي شكل بداية لجهد واسع جديد لقطع طرق امدادات الدولة الإسلامية قبيل الشروع في عملية متوقعة في وقت لاحق من العام الجاري لإستعادة الموصل، وفقا لمسؤولين عسكريين أمريكيين.
وقال مسؤول عسكري أمريكي كبير إن القادة الأمريكيين يتابعون ليروا كيف ستكون استجابة مسلحي الدولة الإسلامية مع قطع خطوطهم للإمدادات والاتصالات. وتحدث المسؤول شريطة عدم الكشف عن هويته لأنه ليس مخولا ببحث العمليات.
ودمر مقاتلو الدولة الإسلامية العديد من خطوط الكهرباء والجسور في محاولة لإبطاء التقدم الكردي، لكنهم طردوا من المنطقة في آخر الأمر. وفي بلدة شاندوخاه القريبة، عملت الجرافات والقوات الكردية بشكل محموم هذا الأسبوع لتعزيز مواقعها، حيث أقامت تحصينات من أكياس الرمل وأكوام التراب ضد المفجرين الانتحاريين والقصف.
وقال الكولونيل الكردي مروان الميزوري لأسوشيتد برس “قبل أن نتقدم أكثر، علينا أن نؤمن ظهورنا.”
ويقول المقاتلون الأكراد في إسكي موصل – وهو الاسم التركي “للموصل القديمة”، والذي يرجع استخدامه إبان الامبراطورية العثمانية – إنهم يعتزمون المغادرة فور عودة القوات العراقية، لكن حماسهم بشأن المضي قدما في القتال من أجل أرض يهيمن عليها العرب يتسم بالفتور.
وكانت القوات العراقية قد منيت في يونيو/حزيران الماضي بهزيمة مذلة وسط تقدم خاطف لتنظيم الدولة الإسلامية. فقد اختفى قادتها ولم يرع أحد سمعا لمناشدات بمزيد من الذخيرة وخلع الجنود في بعض الحالات زيهم وفروا. ثم ملا المقاتلون الأكراد الفراغ في شمال العراق، إذ روأها فرصة سانحة للانتشار خارج إقليمهم شبه المستقل والمطالبة بالسيادة على أرض يتنازعون عليها مع العرب منذ فترة طويلة في إطار محاولتهم لنيل استقلال كامل.
وعاد الجيش العراقي إلى المعركة لفترة وجيزة في أغسطس/آب لاستعادة سد الموصل، لكن الجنرال الكردي تيمس قال “لكننا لم نرهم منذ ذلك الحين”.
ويشعر القرويون في إسكي موصل بالامتنان لمحرريهم الأكراد، وكثير منهم لا يتحدث العربية تقريبا. لكن القرويين السنة يعرفون أيضا أن الأمر سيستغرق وقتا لإقناع الوافدين الجدد أن لا ولاء لهم للدولة الإسلامية. وخلف المسلحون دمارا كبيرا قبل أن يفروا.
ويعترف كثيرون في إسكي موصل بترحيبهم بالدولة الإسلامية عندما وصل التنظيم للمرة الأولى، وذلك سخطا منهم على ما يعتبرونها سنوات الإهمال والتمييز والسياسات الطائفية من قبل الحكومة التي يقودها الشيعة في بغداد.
وقال سالم خضير “اعتقدنا أنهم ثوار قدموا لمساعدتنا ومنحنا حقوقنا.”
وتلت ذلك أوقات صعبة، حيث فقدت القرية غاز الطهي والكهرباء، ما اضطر المواطنين إلى تسخين ما بقي من الطعام على نيران موقدة.
أصبحت الأبقار هزيلة وانقطع اللبن الذي تدره الكثير منها، بينما أصيب رضع وكبار سن بأمراض.
لكن المواطنين يلمحون حاليا حياة أفضل تلوح في الأفق. فالسجائر- التي كانت محظورة تماما من قبل تنظيم الدولة الإسلامية الذي يسيطر على ثلث العراق وسوريا ويفرض تفسيرا متشددا للشريعة الإسلامية- تباع حاليا ويدخن الكثيرون بحرية.
للمرة الأولى منذ شهور، تسير النساء والفتيات عبر الشوارع الترابية الضيقة دون نقاب، والفتيان يتصارعون ويلعبون الكرة دون خوف.
ومع ذلك لا يزال انعدام الثقة قائما. فالبرغم من أن عددا من المقاتلين الأكراد وزعوا الثلاثاء زجاجات المياه وكانوا يتحدثون مع القرويين بلكنة عربية ركيكة، فإن مجموعة من فتيات القرية قالت على استحياء للجنود “من فضلكم لا تنسفوا بيوتنا”.
شيماء، إحدى ساكنات اسكي الموصل والتى رفضت الكشف عن اسمها كاملا خوفا على سلامتها، قالت إن أخيها غير الشقيق يدعم تنظيم الدولة الإسلامية ولذلك اعتبرت القوات الكردية زوجها مذنبا واعتقلته.
وقال خضير (بقال) إن قوات البيشمركة صادرت بعض ممتلكاته، لاسيما جهاز بطاقات الائتمان الذي يستخدمه في عمله.
وبينما لا يزال تنظيم الدولة الإسلامية يقصف القرية بشكل متقطع- كان آخرها الاثنين الماضي- يخشى بعض الأكراد أن يخبر قرويون المسلحين بالمواقع الكردية.
وأوضح الكولونيل الكردي الميزوري “نحن بحاجة إلى أن يثقوا فينا ويتعاونوا معنا”، معربا عن اعتقاده بأن بعض القرويين لا يزالون موالين للجهاديين.
وأردف قائلا “ليسوا جميعا.. ربما 10 بالمائة فقط.. من الضروري أن نحدد هؤلاء الأشخاص وأن نؤمن ظهورنا قبل أن نستمر”.