بقلم: يوسف باسم أوغلو
لأكثر من خمسة عقود والأستاذ محمد فتح الله كولن يجاهد بقلمه النورانيّ وجهوده التربويّة والدعويّة، وأمامه غاية واحدة انصرف إليها بعد تجارب متعددة، وهي نثر بذور الإيمان الصحيح في النفس عن طريق التربية القرآنية والنبوية، واقتلاع بذور الكراهية والإلحاد التي سعى العلمانيون إلى غرسها في تركيا بل والعالم أجمع.
إنه كولن يا سادة الذي بدت عليه أمارات الفطنة والذكاء منذ نعومة أظفاره، ونهل العلم في كنف الإمام سعيد النورسي، وحفظ عن ظهر قلب لفطاحل العلماء، ونهل من علومهم، وتأثر وبأخلاقهم، حتى اجتمعت لديه مؤهلات الداعية الناجح فأصبح صاحب سلوك إيماني، وتصوف صافٍ، بعيدًا عن الغلو والانحراف. وتبحّر في العلوم العقلية والنقلية، وصار له رصيد ضخم من المعلومات مكّنه من الانطلاق من مرتكزات علمية سليمة.
انصهرت خبراته المتعددة في بوتقة فترجمها إلى فكرة؛ فحركة؛ فواقع؛ فحركة مؤسسية في مختلف نواحي الحياة، عُرفت بحركة «الخدمة»، التي تتلخص رسالتها في مدّ يد الرحمة للناس وخدمتهم بالعلم، فأضحت تقدم تصورا صحيحا للإسلام بجوانبه المتعددة العملية، وليس التجريدية. فوفقه الله تعالى في أن ينشأ على يده رجال شدوا الرحال لغاية سامية؛ فأصبحوا تيارًا متدفقًا يخدم الإسلام والمسلمين والعالمين في إطار جديد يمتد من وطنهم تركيا إلى الأمة الإسلامية والعالم. هؤلاء الطلاب الذين يواصلون الليل بالنهار ووجوههم ضاحكة مستبشرة دومًا، ولكن استاذهم لا يكاد يبتسم إلا قليلًا. يفيض الدمع من مآقيه ويلين قلبه ويرتجف في جل أحاديثه وخطبه، لأنه أدرك أن القرآن ليس ألفاظًا تُقرأ أو تُسمع فحسب، وإنما هي معان تخالط شغاف القلوب فتنعم بها؛ فكان من الذين وصفهم ربهم عز وجل:﴿ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ﴾ وهذه بعض أحوالهم.
إن كولن يمزج في خطبه بين آيات الله وأحاديث رسوله وأقوال الصحابة الكرام لبناء حجة مقنعة بأن «الحوار والحب والتسامح» هي قيم إسلامية أصيلة، ويجب على المسلمين تقديمها إلى العالم المعاصر. فمضى هذا الرجل -الذي إذا تألَّم لأمَّته بلَّلَ الأرض دموعًا ويهوي الفعل لا القول-في دربه ساعيًا لأن يكون راعيًا مسؤول عن رعيته، وبات جل همّه تنشئة جيل واعٍ، وإعلاء الهمم، وترسيخ القيم والتلسيح بالشيم النبيلة الجليلة.
اسألوا كل كُتّاب التاريخ الذين علّقوا أقلامهم بين أناملهم منذ فجر التاريخ وسطروا في صفحاتهم الحرب والسلام فسيقولون لكم إن «إحلال السلام أصعب بكثير من إيقاد الحرب».
لقد لاحقه الملاحدة والعلمانيون منذ انطلاقه في دعوته ومع ذلك عاشت أفكاره في قلوب عشرات الملايين داخل تركيا وعبر لغات حيّة كثيرة ترجمت إليها كتبه، وعبر تلامذته المنتشرين في آسيا وأوروبا وإفريقيا وأمريكا. وأصبح كولن من هؤلاء العظام الذين لا يتطرق اليأس إلى قلوبهم مهما ادلهمت عليه الخطوب وتكاثرت علية الشدائد لأنه لا سبيل لانتظار الفرج إلا بالتوجه إلي الله ولا سبيل لمقارعة الباطل إلا بالاستعانة بالله.
إنه كولن يا سادة الذي قال عنه «سليمان دَمِيرل» رئيس الجمهورية التركية السابق: “إن هذه المؤسسات التي تقدّم خدماتها العلمية والتكنولوجيا والعرفانية المطعَّمة بالحقيقة والصدق والرغبة في تأصيل إنسانية الإنسان، إنها إنما تقدِّم خدمات جليلة للعلاقات التركية القازاقية، والشعب القازاقي الشقيق وإلى الإنسانية جمعاء. أقدم أجمل تهاني وتقديراتي إلى من ساهم في هذا العمل الجبار”. وأشاد «محسن يازيجي أُغلو» زعيم حزب الاتحاد الكبير الراحل على فعالياته عندما قال: “لقد شق العالم فتح الله كولن طريقًا رائدًا في مجال التعليم في تركيا، وهو من الأشخاص النادرين الذين أدركوا أن التعليم أساس لبناء مستقبل أمتنا المتنورة الآمنة القوية، إذ لا ينخدع بسهولة من كان متشبّعًا بالعلم والثقافة. وقد حقق العالم الفاضل فتح الله كولن في توجيه الشباب في تركيا إلى هذا الميدان، بعيدًا عن كل أنواع الإرهاب وأشكال العنف، وسعى لتنشئة شباب يفكرون تفكيرا نابعا من صميم الأمة والوطن وليس لهم أية مشكلة مع الدولة والمؤسسات، وفي منتهى الانفتاح لكل تطور وتقدم”.
إنه كولن الذي ساقته الأقدار إلى أن يترك كل الدواعي السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فترك أمجاد الدنيا مع أنها ألحت عليه، وترك بناء الأسرة، وترك تكوين ثروة مع أنها عُرضت عليه، وساقه الله إلى الحياة مع القرآن وحده، ومن ثمّ إلى خدمة البشرية ونشر السلام.
هل تعلمون يا سادة أن كولن عندما سُئل “كم هي نسبة المنتمين إلى حركة الخدمة التي تستلهم فكره من الموظّفين المفصولين من أعمالهم؟” أجاب قائلا: “أنا لا أعرف حتى عشرة في المئة من الذين ينتمون لهذه الحركة، ومع مرور الوقت سيعرف الجميع أن معظم المذكورين من رجال القضاء والأمن والمعلمين الذين يتم اعتقالهم بدعوى انتماءهم للكيان الموازي المزعوم ليسوا على علاقة بالحركة، ومن المحتمل أن تكون الحكومة قد فعلَتْ كلّ ذلك لدافِعَين اثنين:
أولهما: أنهم يحاولون إظهار حركة الخدمة على أنها تهديد كبيرٌ وذلك من خلال تصنيف شخصيات عديدةٍ لانتمائها للحركة.
وثانيهما: رغبتهم في القضاء على كلّ من لم يقدم البيعة لهم، كما اعترف بذلك أحد الشخصيات البارزة داخل حزب العدالة والتنمية في الفترة الأخيرة.
يا سادة! إن الأستاذ كولن دعم دائما الحريات والديمقراطية، كما أنه نظر بإيجابية إلى كل سياسة تحررية أقدمت على تنفيذها كل حكومة وصلت إلى سُدة الحكم في تركيا، انطلاقًا من منطق حركة الخدمة بأنه «على الإنسان أن يدعم الأفعال وليس الأشخاص أو الأحزاب». وليس ثمة معنى للادعاءات التي توجهها الحكومة التركية بقيادة أردوغان واتباعه إلى كولن الذي كان ينشط أصلًا على الساحة حتى قبل وجود حزب «العدالة والتنمية» ذاته. فقد انطلق كولن في طريقه في ستينيّات القرن العشرين واحتضن المجتمع التركي بأسره من خلال هويته السلمية والديمقراطية في كل الأوقات، ولم يرحب بمبدأ الكفاح المسلّح أبدًا. ولا ريب في أن محاولة إلصاق تهمة الإرهاب بحركته “الخدمة” التي استلهمت أفكارها من شخصية سلمية مثله يعتبر افتراءً كبيرًا.
إن «الحب والتسامح والسلام» كلمات حلوة، لها رنين في الأذان، ووقع على القلوب، وليست كل القلوب، إنما القلوب المُخلصة العامرة بالإيمان، العارفة ما للوطن من حقوق وواجبات. وكل هذه خصائل تحلى بها -بل ويعمل على إرساءها-الأستاذ كولن.
وبالرغم من كل ذلك يكون من المؤلم حقًّا اتهام مثل هذا الرجل يا سادة. لكن لمَ العجب والعظماء من الناس دائما معرضون للهجوم، وأيُّ عظيم من عظماء التاريخ لم يتناقض النّاس في النظر إليه…؟! سيأتي اليوم الذي يتبدد فيه الظلام ويعلم الجميع الحقائق، ما دمنا ندرك أن البدر لا يطلع إلا إذا شقَّ رداء الليل والفجر لا يدرج إلا من مهد الظلام.