هانى رسلان*
قبيل اندلاع ثورات الربيع العربي بوقت قليل ، كانت السياسة التركية تجاه المنطقة العربية تلقى قدرا كبيرا من القبول وتبشر بتجاوز التراث السابق من الفتور في العلاقات العربية التركية والذى استمر لعقود من الزمن، إثر هزيمة الدولة العثمانية فى الحرب العالمية الأولى والدور الذى لعبته الثورة العربية الكبرى التى قادها الشريف حسن بناء على تشجيع ووعود بريطانية فى إضعاف المجهود العسكري العثماني، والذي تولد أيضا من عقود من القهر والاستنزاف والتخلف الذي عانته المنطقة العربية تحت الحكم العثماني كما ترى الغالبية العظمى في العالم العربي.
وقد جاءت السياسات التي دشنها حزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان والقائمة على فكرة تعدد المسارات، والتوازن في العلاقات مع الاتحاد الأوروبى والغرب من ناحية وبين العالم العربي والاسلامى من ناحية أخرى، والتي وصلت إلى ذروتها في عام 2010، لكى يشير إلى أن السياسة التركية تجاه المنطقة العربية تفتتح عهدا جديدا يستند على إحياء روابط تركيا الثقافية والقيمية مع العرب ومع العالم الإسلامى بشكل عام، وبدا أن مثل هذه السياسة قد تمثل نهجا جديدا يزاوج بين التمسك بالقيم الثقافية المستمدة من العقيدة والتراث الإسلاميين وبين التعايش مع العالم المعاصر فى سلام وتعاون، مع شق طريق نحو المستقبل، يعتمد على التعاون من أجل التنمية وإعلاء شأن الحريات والتحول الديمقراطي وإطلاق الطاقات الكامنة للمنطقة.
في هذا السياق أعلنت تركيا سياسة ” صفر مشاكل ” ، التي تقوم على تصفية الخلافات، وبدأت في مرحلة من الانفتاح تجاه معظم بلدان المنطقة العربية ، وجرى تدشين الملتقى الاقتصادي العربي التركي ، وكذلك مؤتمر وزراء الخارجية – العربي التركي ” فى اسطنبول فى يونيو 2010 ، وأعلن رئيس الوزراء رجب طيب اردوغان فى هذه المناسبة أن العلاقات بين تركيا والدول العربية تعود إلى حين كانت المنطقة واحدة، وعمد أيضا الى صياغات عاطفية حول التاريخ والقيم المشتركة. فيما أكد وزير خارجيته أحمد داود أوغلو “أن مجرى التاريخ يعود إلى طبيعته ” وأن رؤية تركيا لمستقبل الوضع في المنطقة من موريتانيا والمغرب إلى مضيق هرمز وصولا إلى إسطنبول، ينبغى أن تسير وفق رؤية جديدة عنوانها الرئيسى هو التعاون والتكامل السياسي والاقتصادي ، بما يجعل منها حوضا مشتركا آمنا ومستقرا ومزدهرا.
وفى المقابل كان هناك ترحيب عربي واضح بهذه المقولات، وببدء صفحة جديدة بدت زاهية الألوان في العلاقات العربية التركية، كما بدا أن وجهة نظر الرأي العام العربي في كثير من البلدان العربية قد أخذت ترقب تطورات السياسة التركية بقدر من الإعجاب، إلى الحد الذي بدأ فيه الكثيرون يتحدثون عن النموذج التركي الصاعد.
لكن عقب نشوب ما عرف بثورات الربيع العربي ، بدأ يظهر وجه آخر لسياسات حكومة حزب العدالة والتنمية، بل ذهب الكثيرون إلى أن ما كان يبديه اردوغان وحكومته من قبل، لم يكن إلا خداعا واضحا واقترابا لا يعبر عن النوايا الحقيقة التي تم إخفاؤها بعناية ، فمجمل المواقف التركية في الوقت الحالي تجاه المنطقة العربية، تبدو داعمة ومؤيدة لإشعال الحرائق والتدمير لمقومات المنطقة العربية، في إطار صنع ما أصبح يعرف إعلاميا بسايكس بيكو الثانية ، أي إعادة رسم حدود الدول وإنشاء كيانات جديدة على أسس مذهبية وعرقية وطائفية ، على أشلاء المنطقة العربية بعد تخريبها وتدمير مقدراتها بشكل كامل. ويمكن لاى مراقب أن يلاحظ الموقف التركي الذي يعمل الآن على إذكاء الحرب الأهلية في سوريا، ويقيم علاقات غامضة مثيرة للقلق بشدة مع تنظيم داعش الارهابى ، ويقدم المأوى والدعم المادي لتنظيم الإخوان المسلمين المصنف كتنظيم ارهابى في مصر، وبسمح له بإطلاق التهديدات الإرهابية من الأراضي التركية ، متجاهلا إرادة الشعب المصري الذي خرج بعشرات الملايين لإسقاط حكم الإخوان وسياساتهم التي كانت تدفع البلاد بسرعة هائلة نحو الحرب الأهلية. وفى الإطار نفسه يمكن ملاحظة اتهامات الحكومة الليبية المعترف بها دوليا، لحكومة حزب العدالة والتنمية بإمداد المتطرفين والفصائل الإرهابية فى ليبيا بالسلاح ما نتج عنه إيقاف ليبيا لعمل كل الشركات التركية لديها .
ان استمرار مثل هذه السياسات والتدخل الفظ لأدروغان في الشؤون الداخلية والدعم لفصائل التطرف فى العالم العربي يجعل تركيا طرفا مباشرا في عمليات قتل وتخريب يذهب ضحيتها مئات آلاف الناس في المنطقة العربية، الأمر الذى نتج عنه انهيار صورة تركيا الخارجية، ودعا المواطن العربي للتساؤل: هل تريد الحكومة التركية الحالية ممارسة سياسات توسعية وأطماع استعمارية على حساب الأشلاء والدمار والممارسات التي تريد العودة بنا الى مرحلة التوحش وما قبل الحضارة والأديان . هل تناصر حكومة حزب العدالة هذه التفسيرات المأزومة والمريضة للدين الاسلامى، وهل سوف تستطيع أن تجنى أى ثمار ايجابية من ذلك؟ .. هذا أمر مشكوك فيه إلى حد كبير . كما أنه يثير موجات من العداء والكراهية كان يمكن تجنبها بكل سهولة.
• مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية