بقلم: كريم بالجي
لسنا بحاجة إلى معرفة الأحداث الراهنة على حقيقتها لكي نعرف ما سنعيشه ونراه في المستقبل. لذلك يجب علينا أن نركز على رسم خارطة طريقنا، بدلاً من إهدار طاقتنا في سبيل إقناع أناسٍ من المستحيل إقناعُهم أصلاً. وانطلاقاً من ذلك، حاولتُ في هذا المقال أن أقدم لكم أحد عشر مبدأً أساسياً لحركة الخدمة لا تتغير بتغير الأزمنة والأمكنة يسلط الضوء على خارطة الطريق هذه:
أحد عشر مبدأً
المبدأ الأول: لحركة الخدمة هدفان متلائمان، نسعى إلى تحقيق أحدهما في الدنيا، وثانيهما في الآخرة: إقامة الصلح العام أو السلام العالمي في الدنيا؛ والحصول على الرضاء الإلهي في الآخرة. شركاؤنا ومخاطَبونا في تحقيق الهدف الأول هم الناس أجمعون دون التمييز بين أديانهم ولغاتهم وإيدولوجياتهم وأعراقهم. أما مخاطَبونا في تحقيق الهدف الثاني فهم المؤمنون والباحثون عن طريق الإيمان والمسلمون الساعون للوصول إلى مرتبة الكمال في الإيمان.
المبدأ الثاني: من المستحيل تحقيقُ الكمال من خلال أدوات ووسائل فاسدة. ولا يمكن الوصول إلى نتائج مشروعة بالوسائل والأساليب غير المشروعة. وفي هذا الإطار تتقدم الأصولُ (مناهج التطبيق) على المبدأ. بمعنى أن السلام العالمي لا يمكن إنجازه عبر الانقلاب العسكري أو الحرب أو القتل. إذ لا يمكن تحصيل الرضاء الإلهي بارتكاب الذنوب.
المبدأ الثالث: الحق يعلو ولا يعلى عليه. فلا شكّ في أن الحركة التي لا تتنازل قيد أنملة عن مبادئها الحقة تحقق النصر إن عاجلاً أم آجلاً. ولا يهمّنا أن يتحقّق هذا النصر في الدنيا أو الآخرة، في الظاهر أو في قلوب الناس. فالمؤمن هو القوي حتى في أصعب الظروف. والمؤمنون لا يخسرون إلا إذا خسروا إيمانهم.
المبدأ الرابع: لم يبقَ أي حكم للفتوى التي أصدرها التاريخ والتي تسوغ “العدالة النسبية”. أي لا يمكن ولا يجوز تضحية الفرد لصالح الدولة أو السلطة الحاكمة أو الجماعة أو أي قيمة يُتوهّم أنها اجتماعية. إذ من غير الممكن فرض وصاية على الإرادة الذاتية الحرة للفرد لكي يقوم بالتضحية، كما لا يسوَّغ أيُّ نوع من الضغوط، بما فيها الضغط الجماعي والنفسي. لكننا رأينا في ظل محنة آخر الزمان هذه حتى التضحية بالجماعات الكبيرة في سبيل تحقيق مصالح “شخص واحد”.
المبدأ الخامس: لا يمكن القصاص في الظلم. جميع أنواع الثأر والانتقام، بدءاً من أصغره وانتهاءً بأعظمه، ظلم كبير. نظراً لذلك فإن المتطوعين في حركة الخدمة لا يمكنهم أن يمارسوا الظلم دقيقةً واحدة ويرضوْا به من أجل تحقيق الانتصار والتوفيق حتى ولو ظلوا مظلومين ومغلوبين ألف عام.
المبدأ السادس: لا رجوع عن الديمقراطية بتاتاً. فالمهمة التي تقع على المتطوعين في حركة الخدمة في وقتٍ تشهد فيه الديمقراطية أزمة الشرعية على الصعيد العالمي هي السعيُ إلى تأسيس المؤسسات الديمقراطية وترسيخ الثقافة الديمقراطية على نطاق واسعٍ يبدأ من الفرد ويمتدّ نحو المجتمع، ومن ثم العملُ على تشكيل عناصر ضمانِها ومقومات تعزيزها والبحث عن سبل كفيلة بتطويرها (الديمقراطية ومؤسساتها) حتى بلوغ مرتبة الكمال قدر المستطاع.
المبدأ السابع: “الاستعاذة بالله تعالى من إغواءات الشيطان وإغراءت السياسة القائمة على الاستقطاب” من قواعدنا وأصولنا التي لا تقبل التغيير والتبديل وسيبقى هكذا حتى الأبد. فالمتطوعون في الخدمة لا يأخذون أي دورٍ في أي تكوّن سياسي باسم حركة الخدمة. ولا يمكنهم أن يستصوبوا أياً من التكوّينات التي تحلم بالاستيلاء على السلطة، بما فيها الإسلام السياسي.
المبدأ الثامن: لا يمكن أن يكون لحركة الخدمة أية مصلحة سوى مصالح الوطن والأمة، أو أيّ مصالح تتعارض مع مصالحهما. فالخدمة هي جزءٌ متمِّم لمؤسسات المجتمع المدني في أيٍّ من بلدان العالم التي تزاول فيها أنشطتها، وكذلك قيمةٌ للبلد الذي تعمل فيه. بناءً على ذلك، من المستحيل أن تكون للخدمة مصلحة أو أولوية معارضة لمصالح وأولويات تلك البلدان، اللهم إلا أن تكون الرسالة والمصالح الوطنية.
المبدأ التاسع: لا يمكن تحويلُ أية مؤسسة تابعة للخدمة أو شخصية من شخصياتها إلى “دوغمائية” غير قابلة للنقد والنقاش وإعلانُها معصومة مصونة خالية من الخطأ والذنب. فادعاء البراءة وعدم الخطأ هو خطأ جسيم بقدر تحميل جميع الأخطاء والذنوب على أفراد الخدمة. ذلك أن المحاسبة النفسية والمراقبة الذاتية ومراجعة علاقاتنا مع مبادئنا هي من نشاطات الخدمة وعاداتها الأساسية التي لا يمكن التخلي عنها.
المبدأ العاشر: لا يمكن تقديم تنازلات عن مبدأ “شخصية الجريمة والعقوبة”. ومن غير الممكن تسويغ العقوبة الجماعية. فالأصل هو قرينة البراءة. وكما أن الشخص الموظف الذي تورط في جريمةٍ ضد الوطن والأمة تُقطع علاقته مع المؤسسة التي يعمل فيها، كذلك تُقطع علاقات أمثال هؤلاء مع الخدمة أيضاً.
المبدأ الحادي عشر: المبادئ العشرة المذكورة أعلاه هي العناصر الأساسية الضرورية التي لا يمكن الغنى عنها بأي حال من الأحوال لتعريف إنسان الخدمة. فالأشخاص أو المؤسسات التي تتصرف بصورة مخالفة لهذه المبادئ تعلن بنفسها أنها ليست تابعة للخدمة وأنهم ليسوا رجال الخدمة. فكما أن إرهابية الإرهابيين المسلمين لا تخلّ بحقيقة أن الإسلام هو الدين الحق، كذلك فإن الجرائم التي يرتكبها المتطوعون في الخدمة، رغم مبادئها الواضحة، لا تخلّ بحقيقةِ وصحة رسالة الخدمة. إذ تظلّ حديقة الزهور تحتفظ بوصفها مهما نبتت فيها أعشاب ضارة.
المشاهدة الأولى: حدث في وطننا العزيز تركيا انقلاب صبيحة يوم 16 يوليو/ تموز الماضي. هذا الانقلاب الذي استهدف العسكر والقضاء الأعلى يعدّ تتمة للعملية الانقلابية التي انطلقت في صبيحة يوم 18 ديسمبر / كانون الأول 2013 والتي استهدفت الأمن والقضاء المحلي. إذ بعد يوم واحد من بدء تحقيقات الفساد والرشوة في 17 ديسمبر / كانون الأول 2013 دخلت تركيا مرحلة مظلمة عُلّقت فيها دولة القانون، وانتُهكت كل حقوق الإنسان، وضُيّق الخناق على حرية التعبير عن الرأي والمعتقد. واتهام فئةٍ معينة من الناس مباشرة مع غياب أي دليل، يعطي لنا فكرة واضحة عن هوية الذين صمّموا ذلك الانقلاب الأول الذي مهّد الطريق للضغط على زناد هذا الانقلاب الأخير.
المشاهدة الثانية: من الواضح أن هذه الهستيريا التي ستنتهي خلال مدة قصيرة من تصفية جيشنا وقضائنا الأعلى من كل الأصوات المعارضة لتمتدّ بعده إلى قاعدة المجتمع ستصل إلى مستوىً بحيث سيهدد أمن أرواح المتطوعين في حركة الخدمة (التي تسميها الحكومة بمنظمة فتح الله كولن أو الكيان الموازي) وأموالهم.
المشاهدة الثالثة: يبدو أن حكومة حزب العدالة والتنمية استعدت لانقلاب 16 يوليو/ تموز بشكل أفضل من الذين حاولوا الانقلاب قبل يوم واحد في 15 يوليو/ تموز. والارتباك أو الخلطُ السائد حالياً في أذهان متطوّعي الخدمة، وتشتّتُ خطابهم وغيابُ خطة عمل جاهزةٌ لهم أمر مفهوم. لكن هناك أناس لم يُفاجؤوا ولم يُصدَموا بهذه المبادرة الخائنة، مع أنها صدمت وأربكت العالم أجمع، الأمر الذي يكشف عن وجود علاقات وأسرار عميقة صادمة.
المشاهدة الرابعة: إن “القومية العلمانية” التي حكمت طيلة 75 عاماً من تاريخ جمهوريتنا انبعثت مجدداً تحت غطاء وكسوة “القومية الإسلامية”. وحلّت كياناتٌ من قبيل شركة الأمن التي تحمل اسم “سادات” أو “صدات” (SADAT) محلّ الكيانات القديمة من قبيل شبكة أرجينيكون، وبدأ الخطاب القومي العسكري يتحول إلى خطاب الأمة العسكري. هذا الوضع لا يهدد مستقبل الديمقراطية التركية وحسب، بل يهدّد العالم كله أيضاً. لذلك ليس من المقبول والصواب تحميل الشعب التركي وحده، وأفرادِ الخدمة فقط من بينهم، أعباءَ مكافحة خطرٍ بهذا الحجم.
المشاهدة الخامسة: كما أن عملية “مطاردة السحرة” التي أُطلقت بحجة المحاولة الانقلابية لم تقتصر على المستخدَمين من العسكر في هذه المحاولة، كذلك فهي لن تستهدف المتطوعين في الخدمة فقط. وكما أن القاعدة الشعبية العامة التي تتلقى خدمات صحية وتعليمية ومساعدات إنسانية على أيدي متطوعي الخدمة ومؤسساتهم هي المتضرر الحقيقي من هذه العمليات في الوقت الراهن، كذلك من البديهي أن الأضرار النابعة من حملة التصفية الموسعة في أجهزة الدولة ستطول أناساً لا تربطهم أية علاقة لا من قريب ولا من بعيد مع الخدمة. وما يقع على عاتق أهل الخدمة، والحال كما وصفناها، هو إيلاء الاهتمام بأمن الأشخاص الذين يقدمون لهم هذه الخدمات أكثر من الاهتمام بأمن أنفسهم، بل ينبغي لهم أن يستقبلوا هم أكبر الضرر إذا تطلب الأمر لكي يتجاوز نسيج المجتمع العام هذه العقبة بأقل الخسائر.
المشاهدة السادسة: الطريق الوحيد لضمان الالتزام بمبدأ الفصل بين السلطات الثلاث (التنفيذية والتشريعية والقضائية) والمحاكمة العادلة في إطار القواعد القانونية والحقوقية العالمية خلال العملية القانونية التي سنشهدها في الفترة المقبلة هو تشكيل مناخ إعلامي حر مطلقٍ عن القيود المفروضة على حق الشعب والعالم في الحصول على المعلومات. والمهمة التي تقع على عاتق أهل الخدمة الذين يأتون في مقدمة ضحايا هذه المحاولة الانقلابية وكلِّ العناصر الديمقراطية المعارضة المتضررة منها بالدرجة الثانية هي السعي للحفاظ على الطرق البديلة التي تمكن من الحصول على المعلومات، كوسائل الإعلام الحساسة ومواقع التواصل الاجتماعي، إضافة إلى تكثيف الجهود لتشكيل قنوات جديدة تستعصي على الإغلاق، نظراً لاحتمالية منع السلطات في كل لحظة الوصول إلى تلك الوسائل والمواقع الإعلامية المذكورة.
المشاهدة السابعة: بغضّ النظر عن هدف ونية الخونة الذين حاولوا الانقلاب في 15 يوليو/ تموز الماضي، فإن النتيجة التي تسبّبوا فيها صبيحة 16 يوليو/ تموز هي تقوية شوكة سلطة الرئيس رجب طيب أردوغان بصورة لا تتزعزع، وكسْرُ قوة المعارضة التي كانت تقف حائلاً دون فرض النظام الرئاسي، وحصولُ حزب العدالة والتنمية الحاكم على دعم القاعدة الشعبية العريضة مجدداً ولعله بصورة غير مسبوقة، بعد أن بدأ يفقد هذا الدعم يوماً بعد يوم بسبب التذبذبات والقرارات المتخذة في السياسة الخارجية خلال الشهور الأخيرة. إن أردوغان هو الرابح الأول والأخير بلا نقاش، أما الخاسر بلا نقاش أيضاً فهو الأمة التركية بأكملها وديمقراطيتها.
المشاهدة الثامنة: إن الحزب الحاكم الذي اتخذ الشرعية التي حصل عليها من قبلُ في صناديق الاقتراع مطيةً وسنداً لسياساته الاستبدادية فيما بعد، نراه اليوم وقد بادر إلى توظيف الدعم والشرعية الذيْن حقّقهما بفضل تصدّيه لأسوأ المحاولات الانقلابية تخطيطاً وتنفيذاً في التاريخ من الواضح أنها أريد لها أن تبوء بالفشل، في ترجمة أغراضه السياسية المشؤومة إلى أرض الواقع. لذلك يجب على المعارضة البرلمانية والمدنية أن تؤكّد للحزب الحاكم بصوت عال جهوري أن الدعم الذي قدمتاه له ليس دعماً مفتوحاً غير مشروط يعطي له صلاحية في الإقدام على المجزرة المادية والمعنوية.
المشاهدة التاسعة: لا يمكن أن تبقى البنية المجتمعية طبيعية وسليمة في بلدٍ يشهد يومياً تفزيعَ فئة شعبية من عدوٍّ وهمي مختلَق، وشحْنَها وتحريضَها ضد هذا العدو بصورة ممنهجة. ولاريب في أن الواجب الذي يتعين على السلطة الحاكمة والمعارضة والمجتمع المدني وبالضرورة متطوعي حركة الخدمة هو اتخاذ خطوات من شأنها إعادة مجتمعنا إلى حالته الطبيعية السليمة. ولا يمكن قبولُ وتسويغُ تنصيب أناسٍ من العامة أنفسَهم قضاةً وشرطةً بل حتى سلطة تنفيذية. فالحكومة مسؤولة عن الحفاظ على أمن نفوس وأموال الناس الذين تزعم بشكل غير مسؤول تورّطهم في الجريمة.
المشاهدة العاشرة: لقد آن الأوان ليضع المتطوعون في الخدمة مسافة بينهم وبين أصحاب الحسابات الوهمية على موقع تويتر الذين يتسببون في زيادة الاستقطاب الاجتماعي بسبب تغريداتهم أو مقالاتهم، وبين الكتاب الذين يقدمون إخفاء هويتهم كعلامة على صحة ما يكتبونه، وبين أصحاب الأرواح المريضة الذين ينشرون أخباراً وأسراراً عما وراء ستار الغيب والذين ينتظرون المسيح لحلّ المشاكل القائمة.
المشاهدة الحادية عشرة: مهما كانت ماهية الأحداث التي عاشتها تركيا في 15 يوليو/ تموز الماضي، فإن الحقيقة البارزة هي نجاح الانقلاب المضاد الذي حدث في صبيحة هذا التاريخ. لذلك يجب قبول هذه الحقيقة أولاً ومن ثم تحديد ورسم خارطة طريق طويلة النفس وقابلة للاستمرار لكي نواصل مكافحتنا من أجل تأسيس الديمقراطية التركية وإقامة روح الإسلام.