بقلم: قمر محمد حسن *
بدأ الهجوم التركى على شمال شرق سوريا فى التاسع من أكتوبر 2019، ضد قوات سوريا الديمقراطية “قسد” التى تعتبرها تركيا تنظيم إرهابى، بهدف فرض منطقة آمنة بعمق 30 كم وبطول 444كم داخل العمق السوري، والذى استمر لمدة 9 أيام فقط قبل إعلان وقف إطلاق النار فى السابع عشر من أـكتوبر 2019، وكنتيجة منطقية للإضطرابات التى يعانى منها اقتصاد أنقرة قبل بدأ العملية العسكرية “نبع السلام”، كان لتلك العملية تداعياتها المباشرة والقوية على الاقتصاد التركى، ولم تتوقف تلك التداعيات عند هذا الحد، بل أصبح هذا الاقتصاد مهدداً بفرض عقوبات اقتصادية كوسيلة ضغط على القيادة السياسية التركية رداً على هذا الهجوم الذى شنته أنقرة والذى لاقى معارضة أمريكية وأروبية وعربية.
وقد كان وضع الاقتصاد التركى متراجعاً بالأساس قبل انطلاق تلك العملية، حيث لم تستطع تركيا والتى يحتل اقتصادها الترتيب الـ 18 من بين اقتصادات العالم، الحفاظ طويلاً على الأداء والأوضاع الاقتصادية الجيدة التى استطاعت تحقيقها منذ عام 2000 والتى بموجبها استطاعت ان تنتقل إلى دولة فى الشريحة الاعلى للدخل المتوسط منذ أكتوبر 2015، وهى الدول التى يترواح فيها نصيب الفرد من إجمالى الدخل القومى بالقيمة الحالية للدولار الامريكى (من 3896 إلى 12055 دولار أمريكى) وفقا لتصنيف البنك الدولى، حيث ارتفع نصيب الفرد بها من الناتج المحلي الإجمالي بأكثر من الضعف من 200 4 دولار إلى 9445 دولار خلال الفترة (2000-2018)، فقد أدت نقاط الضعف الاقتصادية المتزايدة إلى تقويض الانجازات الاقتصادية التى تحققت حينها، وأصبح الاقتصاد يشهد تراجعاً منذ نهاية عام 2016، ومنذ عام 2018 أصبحت تشهد تركيا حالة من الركود الاقتصادى وبيئة تضخمية وديون متراكمة وتدهور الليرة التركية وتزايد مديونية الشركات بالعملة الأجنبية، إلى جانب تراجع التصنيف الائتمانى ففى أغسطس 2018 خفضت وكالة “موديز” التصنيف الائتماني السيادي لتركيا من (Ba2) إلى (Ba3)، وفى 15 يوليو 2019 خفضته مرة آخرى إلى (B1) والإبقاء على نظرة مستقبلية سلبية، مما يعنى ارتفاع مخاطر عجز الحكومة التركية عن سداد ديونها واحتمالية خفض هذا التصنيف مرة آخرى وارتفاع تكلفة الدين الخارجى، كما يعكس تزايد المخاطر الاقتصادية والسياسية التي تواجهها تركيا.
وفى الوقت الذى كان لم يسمح فيه الوضع الاقتصادى التركى بأى ضغوط جديدة، جاءت عملية “نبع السلام” لتلقى بآثارها السلبية على هذا الاقتصاد، منذ إعلان الرئيس التركى “رجب طيب أردوغان” باقتراب موعد انطلاق تلك العملية فى 5 أكتوبر 2019، وانعسكت تلك الآثار فى سعر صرف الليرة التركية وأداء البورصة والاستثمارات الأجنبية، حيث أدت إلى:
- تراجع جديد لليرة التركية:
تأثرت الليرة التركية بشكل مباشر بالعملية العسكرية التركية فى شمال شرق سوريا منذ أن اعلن الرئيس التركى “رجب طيب أردوغان” باقتراب موعد انطلاق تلك العملية فى 5 أكتوبر 2019، لتصبح الأسواء أداءا بين العملات الرئيسية في العالم، وتراجعت من 5.69682 ليرة للدولار فى 5 أكتوبر إلى 5.93624 للدولار فى 14 أكتوبر، أى بواقع 4.2% خلال تلك الفترة، وهو ما دفع إلى قيام عدد من البنوك التركية ببيع نحو مليار دولار لكبح ارتفاع الدولار أمام الليرة يومى 14 و15 أكتوبر، وذلك قبل الارتفاع الضعيف للغاية فى 17 أكتوبر بعد إعلان وقف إطلاق النار لتصل إلى 5.89217 ليرة للدولار، ورغم التحسن الضعيف جدا حتى وصلت إلى 5.7749 دولار فى 25 أكتوبر إلا أنها ظلت متراجعة عن يوم 5 أكتوبر.
–خسائر بالبورصة التركية:
سجلت البورصة التركية خسائر كبيرة منذ إعلان اقتراب العملية العسكرية فى شمال شرق سوريا لتصل إلى أدنى مستوياتها منذ 6 سبتمبر نفس العام، وهبط مؤشرها الرئيسى BIST 100 خلال الفترة 7-14 أكتوبر نحو 8.7%؛ نتيجة لضغوط عمليات البيع.
- تأجيل استثمارات ألمانية تقدر بـ 1.4 مليار دولار:
ففي ظل الانتقادات الدولية للعدوان التركي على شمال سوريا والتخوف من وجود تداعيات محتملة تؤثر الاستثمارات فى تركيا، أعلنت شركة فولكس فاجن “Volks Wagen” عملاق صناعة السيارات الألمانية فى 15 أكتوبر 2019، تأجيل قرارها النهائى بشأن بناء مصنع للسيارات في تركيا باستثمارات تقدر بنحو 1.4 مليار دولار، خوفاً من وجود تداعيات تؤثر على سمعة الشركة او تهدد استثماراتها.
وعلى الرغم من التزام ” أردوغان” بإتفاق وقف إطلاق النار بين الجيش التركي وقوات “قسد”، والذى تم التوصل إليه بعد جلسة مباحثات عقدها الرئيس التركي مع وفد أمريكي ضم (وزير الخارجية “مايك بومبيو” ونائب الرئيس “مايك بنس”)، والذى كان شرطاً لعدم فرض عقوبات أمريكية تم التهديد بها من قبل الرئيس الأمريكى “دونالد ترامب” والتى بدأت بالفعل بإدراج الإدارة الأمريكية وزراء الدفاع والطاقة والداخلية على لائحة العقوبات فى 15 أكتوبر 2019 قبل رفعها فى 24 أكتوبر 2019، إلا أن الاقتصاد التركى مازال مهدداً باحتمالية فرض تلك العقوبات حال نقض الجيش التركى للاتفاق باستئناف “أردوغان” التوغل العسكري التركي في العمق السوري، بعد اتمام انسحاب قوات “قسد” من المنطقة الحدودية وكذلك بعد اتمام انسحاب القوات الامريكية، ما سينعكس على الاقتصاد التركى الذى سيواجه مسارين للتأثير السلبى عليه الأول يتمثل فى زيادة حدة تراجع الأداء الاقتصادى والضغط علي الموارد التركية في حالة استمرار الحرب التي تتكلف ماديا مبالغ طائلة في ظل أزمة اقتصادية مستمرة بتركيا، والمسار الثاني هو تأثر الإقتصاد التركي بفرض العديد من العقبات عليه بشكل مباشر حيث سيتم فرض عقوبات أمريكية وأوروبية نظرا لرفض المجتمع الدولي لاستمرار العملية العسكرية. ويمكن تلخيص تلك التأثيرات فيما يلى:
- استمرار تراجع الليرة التركية: خاصة فى ظل التدهور الذى شهدته تلك العملة منذ إعلان اقتراب العملية العسكرية فى 5 أكتوبر2019.
- تراجع الاستثمار الأجنبى المباشر بأنقرة: تخوفاً من تراجع الاقتصاد التركى واحتمالية فرض عقوبات اقتصادية عليه، وهو الذى يشهد تراجعاً بالأساس؛ حيث انخفض إجمالي رصيد الاستثمارات الأجنبية المباشرة فى أنقرة عام 2018 إلى نحو 134.5 مليار دولار مقارنة بـ 196.5 مليار دولار عام 2017، وذلك بانخفاض قدره 62 مليار دولار، وفقا لمنظمة التعاون الاقتصادى والتنمية.
- استمرار التأثير السلبى على البورصة التركية: خاصة وأنها الأداة الأكثر تأثراً بأى اضطرابات سياسية او اقتصادية تمر بها اى دولة، كسعر صرف العملة المحلية مقابل العملات الآخرى.
- زيادة عجز الموازنة التركية: فلاشك ان العملية العسكرية التركية بسوريا ستطلب زيادة الانفاق العسكرى بناءاً على طول آمد تلك العملية، والذى بلغت نسبته 7.1% من إجمالى الإنفاق الحكومى عام 2018 مرتفعة بما يقرب من نقطة مئوية عن عام 2017، وفقاً لبيانات البنك الدولى، وهو ما سيزيد عجز الموازنة العامة للدولة والذى بلغ نحو 64.8 مليار دولار فى الشهور الثمانية الأولى للعام الحالى.
- انقطاع الاقتصاد التركى بشكل كبير عن الاقتصاد العالمى: وذلك فى حالة فرض العقوبات الاقتصادية التى هدد بها الرئيس الامريكى “دونالد ترامب” والدول الأوروبية، والتى ستعرقل الاقتصاد التركى وتزيد من أزمته الحالية وتعوق محاولات إنعاشه من قبل الحكومة التركية، حيث صرح وزير الخزانة الأمريكى “ستيف منوتشين” فى 16 أكتوبر أن بلاده مستعدة لتعزيز الضغوط الاقتصادية على أنقرة حال عدم موافقة القوات التركية على وقف هجومها في شمال سوريا بناءاً على توجيه من الرئيس الأمريكى، ومن المقرر أن تشمل تلك العقوبات على: فرض عقوبات على مسؤولين أتراك حاليين وسابقين متورطين في العدوان التركي على الحدود الشمالية السورية بما فيهم الرئيس “اردوغان”، وقف المحادثات التجارية بين واشنطن وأنقرة والتى تستهدف رفع التجارة بين البلدين من 25 مليار دولار إلى 100 مليار، فرض عقوبات على الأنظمة المالية التركية، التي تسهل عمليات تحويل الأموال إلى الجيش والمؤسسات الدفاعية التركية، وزيادة التعريفة الجمركية المفروضة على صادرات الصلب التركي إلى الولايات المتحدة بنسبة تصل إلى 50% من قيمة الصادرات.
وبتنفيذ العقوبات الامريكية على صادرات الصلب التركى سيؤثر ذلك بشكل كبير على صادرات تركيا من الحديد والصلب إلى الولايات المتحدة؛ الشريك التجارى الخامس لأنقرة من حيث صادرات الحديد والصلب؛ والتى كانت انخفضت خلال العام 2018 بنحو 40% عن عام 2017 وبلغت نحو 566.8 مليون دولار؛ كنتيجة لرفع التعريفة الجمركية عليها حتى وصلت نسبتها إلى 50% فى أغسطس 2018 قبل خفضها إلى 25% فى 17 مايو 2019، هذا إلى جانب قطع المعاملات التركية المالية مع العالم الخارجى وبالتالى المزيد من التدهور لليرة والتراجع للاستثمار الأجنبى المباشر.
وفى حال فرض عقوبات أوروبية على أنقرة لتتجاوز العقوبة المقترحة حتى الآن وهى تصدير السلاح لتركيا، لتشمل عقوبات اقتصادية، سيهدد ذلك التجارة الخارجية التركية مع دول الاتحاد والتى تُعد الشريك التجارى الأول لها، بجانب تراجع جاذبية الاستثمار بأنقرة للمستثمر الأوروبى.
وختامًا، كان للعملية العسكرية التركية “نبع السلام” منذ انطلاقها فى 9 أكتوبر 2019 رغم قصر مدتها آثار سلبية واضحة على الاقتصاد التركي، ظهرت فى تراجع الليرة وخسائر البورصة وتوقف بعض الاستثمارات، والتهديد بفرض عقوبات اقتصادية من الجانب الأوروبى والأمريكى، وعلى الرغم من الالتزام التركى باتفاق وقف إطلاق النار تفادياً لأى عقوبات يمكن أن تضر باقتصاد بلاده، إلا أن هذا الاقتصاد مازال مهدداً بأى قرارات جديدة تضر بأداءه المتراجع بالأساس، مما يشكك في حدوث إنتعاش اقتصادى بتركيا بعد ما يقرب من عام من الانكماش.
*باحثة ماجستير اقتصاد