المغرب (الزمان التركية) ليس من الضروري أن يكون المرء على إلمام واسع بتفاصيل الوضع السياسي والديني في الداخل التركي لكي يخرج باستنتاجات حول تقرير رئاسة الشؤون الدينية التركية عن حركة الخدمة يكفي إلقاء نظرة عجلى على التطورات السياسية لما بعد الانقلاب، والتي تشمل اعتقال عشرات الآلاف وطرد نظيرهم من وظائفهم وإغلاق منابر إعلامية والتضييق على الحريات السياسية والفكرية والثقافية، لكي يدرك المرء أن الأمر يتجاوز قضية المحاولة الانقلابية التي حصلت في الصيف الماضي إلى مشروع مخطط له، يرمي إلى إرجاع تركيا إلى الوراء وتصفية الحساب مع المناخ الديمقراطي الذي كانت تركيا مثالا ناصعا له في العالم الإسلامي طيلة العقود القليلة الماضية.
التقرير المشار إليه أعلاه يقع في أزيد من ثمانين صفحة، ويتضمن اتهامات من العيار الثقيل لحركة الخدمة، ولكنه يتضمن أيضا انحرافا كبيرا عن الخط الذي كان سائدا خلال السنوات الماضية. فحتى وقت قريب كانت الحركة مثالا نموذجيا للجمعيات الدينية التي تنهل من التراث الإسلامي وتعمل على تعزيز العمل التطوعي المرتكز على الإسلام، وكان أقطاب النظام الحاكم في تركيا أنفسهم يطرون عليها بوصفها حركة أصيلة في المجتمع التركي، بل كان حزب العدالة والتنمية نفسه ينظر إليها كمرجعية ثقافية له، ويستثمر الصدى الطيب الذي خلفته في العالم الإسلامي من أجل تكريس مشروعيته، قبل أن يحصل التحول بمعدل مائة وثمانين درجة في موقفه وتصبح الحركة خصما لدودا يتعين التخلص منه.
إن المقولة التي أبدعها كارل كلوسفيتز في كتابه “عن الحرب”، والتي يعتبر فيها الحرب استمرارا للسياسة، لتجد أفضل تعبير عنها في ما يجري في تركيا اليوم تجاه حركة الخدمة. ذلك أن الحملة التي يشنها النظام التركي على أنصارها وأتباعها، بل على المجتمع التركي أيضا، تعد استمرارا لسياسة تسعى إلى فرض الحزب الوحيد وتعبيد الطريق أمام حزب العدالة والتنمية لكي يصبح هو الدولة وتصبح الدولة هي الحزب.
وعلى هذا الأساس يمكن النظر إلى تقرير رئاسة الشؤون الدينية التركية انطلاقا من مقولة مشابهة، وهي أن “الدين استمرار للسياسة”، فما ورد في التقرير من اتهامات، وتعبير”الكيان الموازي”، هي نفسها التي يوظفها الحزب الحاكم في مواجهة حركة الخدمة من أجل تبرير تصفيتها. إن الجميع يعرف كيف تتسلط الدولة على الدين في العالم الإسلامي وكيف يتم استدعاء رجال الدين والعلماء للتوقيع على بيانات شجب وإدانة تجاه أي مؤسسة أو حركة أو جمعية لا يرضى عليها الحكام، والتقرير لا يبتعد كثيرا عن هذا السياق، بل إنه يظهر كما لو كان إملاءا.
المفارقة التي لا يمكن لأي باحث منصف أن يهمل الوقوف عندها، أن التقرير يتهم حركة الخدمة بتوظيف الدين في السياسة. وتبدو هذه التهمة مضحكة بعض الشيء. فرئاسة الشؤون الدينية تابعة للدولة، ومعنى ذلك أنها مؤسسة تعكس المواقف السياسية للدولة، ومن ثم فإن تقريرها هو تقرير للدولة نفسها، وإذا كان الأمر كذلك فإن المعني بتوظيف الدين في السياسة هي رئاسة الشؤون الدينية من باب أولى، والنتيجة التي بين أيدينا هي أن رئاسة الشؤون الدينية تتهم نفسها وليس حركة الخدمة.
إننا نعرف أن الأستاذ فتح الله كولن بلغ من السن مبلغه، وفوق ذلك فهو حتى لم يحدث نفسه بالزواج، الذي هو أدنى المطالب الدنيوية التي يسعى إليها الإنسان، وذلك سيرا على تقليد نادر اتخذه بعض العلماء من السلف نأوا بأنفسهم عن الزواج وقصروا حياتهم على خدمة الدين والعلم، وقد كتب عنهم المرحوم الشيخ عبد الفتاح أبو غدة كتابا جميلا أسماه “العلماء العزاب”؛ ورجل مثل هذا يصرف عن نفسه حتى الملذات المشروعة كيف يمكن للتقرير أن يتهمه بجمع الأموال والسعي وراء الدنيا من أجل ملذات غير مشروعة؟. إنها واحدة أخرى من مفارقات هذا التقرير.
إنني أعتقد أن رئاسة الشؤون الدينية التركية كان عليها أن تقف في الوسط بين خصمين، لا أن تتخذ موقفا متحيزا للجانب الذي يمسك بالسلطة والحكم والعنف السياسي، وأن تنظر إلى الخلاف بين حزب العدالة والتنمية باعتباره خلافا في السياسة لا في الدين، بدل أن تغمس قلمها في نفس المداد الذي يسطر به النظام الحاكم مواقفه السياسية. وبهذا السلوك أساءت رئاسة الشؤون الدينية التركية إلى الدين نفسه، الذي من المفترض أنها قيمة عليه. فالموقف تجاه الخصومة يعد شهادة والشهادة يجب أن تكون بالحق، والعلماء ـ كما قال بن قيم الجوزية ـ موقعون عن رب العالمين، وليس من المعقول أن يصبحوا موقعين عن الحاكم لمجرد خلاف سياسي هناك عدة مسالك للتعامل معه.
إدريس الكنبوري – مفكر مغربي