بقلم: د. عبدالمجيد بوشبكة
في ظل عصر الحقوق والحريات يزداد سعار الهجمة الشرسة التي طالت عامة المسلمين وخاصتهم، و في ظل هذا العصر حظي العلماء بنصيب الأسد من هذه الهجمة. ولا أمل من ذكر أمثلة لكبار العلماء السابقين، إلا أن الإشارة إلى بعض الأعلام المعاصرين مهمة أيضا أمثال العالم المصري الراحل محمد الغزالي وسعيد رمضان البوطي وحسن الترابي ،رحمة الله عليهم جميعا. فالمتتبع لفكر وحركة هؤلاء العلماء يهوله ما لاقوه من إداية وتضييق بسبب جرأتهم في الدفاع على آرائهم ومواقفهم النوعية.
واليوم تستمر القافلة ويستمر معها الأذى والتضييق على كل من حاول الاستقلال برأي فضلا عن الدعوة إليه، وعلى رأس هذه الكوكبة الجديدة العالم المجدد الأستاذ فتح الله كولن. وحديثي عن هذا الرجل سيتناول موضوعا شائكا قلما تطرق إليه المهتمون. إلا أني ومن خلال محاوراتي لعدد من السياسيين عامة والمهتمين بتجربة الإسلاميين في الحكم خاصة، بدا لي أن عددا منهم لا يعرف من فكر الأستاذ كولن إلا النذر اليسير، وأما رؤيته السياسية للأمور فإني أعتقد أنها فقه جديد قل نظيره في عالم اليوم.
نعم قد يفاجأ جملة من القراء بهذا الكلام لكني و بعد بحث طويل، على يقين أن الأستاذ كولن كما عودنا في اجتهاداته النوعية ومنجزاته التجديدية، يملك رؤية سياسية ثاقبة ظل ولا يزال يحوم حولها المجددون والمشتغلون في عالم الفكر والسياسة اليوم.
كثيرون هم الذين يحاولون التأصيل لسياسة معاصرة راشدة في عالم تزاحمت فيه التجارب السياسية لكن الفشل ظل يلاحقها وهي تتدحرج من بلد لآخر. بعض الباحثين لايزال غارقا في فك رموز وألفاظ ما خطه السلف العظام من أمثال الماوردي و أبو يعلى الفراء وابن جماعة و ابن تيمية و ابن القيم وغيرهم. وثلة ممن حاولوا التأصيل من المعاصرين يحيل على قول العلامة ابن عقيل الحنبلي في كتابه “الفنون” من خلال قوله: “السياسة ما كان فعلًا يكون مع الناس أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول، ولا نزل به وحي.”
و من المهتمين بالبحث في الفكر السياسي والذين يحاولون تقديم فهم جديد للعمل السياسي. د. سعد الدين العثماني من المغرب حيث قال في محاضرة بعنوان: الدولة المدنية في ظل مقاصد الشريعة: (والتعامل مع تطورات الفكر السياسي في التاريخ الإسلامي بمنهج مغاير يؤدي إلى اعتبار “النظام السياسي” في الإسلام وصفة جاهزة، لا تتطلب إلا الفهم والتطبيق، …وفي الحقيقة فإن تلك أشكال تنظيمية تاريخية ابتكرها العقل المسلم في ظروف حضارية خاصة، ومن الظلم للإسلام والمسلمين اعتبارها هي النموذج الإسلامي أو أنها مطلب شرعي ديني.)
و في نفس السياق يقول د.أحمد بن سعد الغامدي من مكة المكرمة، وهو يتحدث عن أهمية الفقه السياسي في صيانة الأمة: “وقد ساهم في استمرار الظلم بعض المفاهيم الخاطئة عن طبيعة الحكم وأسسه ومقاصده وعلاقة الأمة به بسبب خطأ في فهم نصوص الشريعة وفتاوى علماء الأمة القديمة التي أفتوا بها لزمانهم وتبناها الخلف بعدهم رغم تباين مابين الحالين “.
إن الأستاذ فتح الله كولن، و سيرا على منهجه لا يتعبنا في السياحة بين النصوص ولا بالتأصيل لأفكاره، ولكنه يذهب بك رأسا للحديث عن مراده بأسلوب دقيق ولفظ رقيق وفكر عميق و كأنه يرتشف من عيون لا تنضب من روح الدين وسنن الدنيا. الأستاذ كولن وهو يؤسس قواعد ومبادئ في السياسة لا يغيب عنه الإرث الحضاري العريق للسلف الصالح ولا تغادره الحسابات الضيقة التي يتقنها كثير من السياسيين المعاصرين، لكنه بين هذا وذاك ينحت من اللفظ قبل الفكر مصطلحات دقيقة غاية في البساطة، لتجد نفسك أمام فكر كوني رائع جمع فيه بين أصالة المضامين وعالمية المصطلحات.
لا يمكن لكثير من الناس وخاصة أهل السياسة أن يفهموا الرؤية السياسية لفتح الله كولن دون القراءة العميقة والواسعة لفكر هذا الرجل، بل قد يتعذر ذلك دون الجلوس إلية والسماع من تلاميذه. لأن الرجل أبدع منهجا جديدا لمفهوم السياسة، وبذاك تكون محاكمته ومحاسبته وفق المفاهيم المنتشرة اليوم لمعاني السياسة، ظلم وعدم إنصاف لهذا الرجل.
إن السياسة والسلوك السياسي عند الأستاذ كولن يحملان من معاني الشمول والواقعية ما يجعلهما ترجمة حقيقية لعالمية الإسلام وقيمه الكونية. و ذلك ما جعل حركة الخدمة اليوم متواجدة بجل دول العالم وبدون حرج أو صدام.
يقول الأستاذ كولن: (السياسة موجودة في كل أمر أما سياسة الذين يهيئون لإيقاظ الأمة وبعثها من جديد فهي إيثار أمور الأمة على كل شيء وتقديمها على كل شيء وعدم التفكير في أي مصلحة شخصية و استفراغ الجهد في مصالح الأمة). لقد قرأنا ولازلنا عند علماء الأمة وفقهائها أن الإسلام: عقيدة وشريعة وأخلاق، وبلغة الأستاذ الكبير سيد قطب رحمه الله: الإسلام منهج حياة. فكيف يمكن لمن يدعي الإسلام أن يعيش دون النظر إلى عالم السياسة وأهلها؟ وكيف يمكنه النفاذ بجلده من تبعاتها وظلم أهلها إذا لم يبدع مناهج وطرقا بديلة لتجاوز عوراتها؟ وكيف يمكن الادعاء بأن الإسلام صالح لكل زمان ومكان في ظل الجمود أو التحريض على المجتهدين؟
كم هو محزن أن نسمع من بعض الذين يدعون العلم أن الأستاذ كولن يخلط بين السياسة والدين عبر تدخله في الشؤون السياسية. هل يستحضر هؤلاء ما لاقاه كبار العلماء بسبب مواقفهم المساندة للجماهير والمدافعة عن الحقوق والحريات عبر التاريخ إلى اليوم، أم هم أيضا يشملهم هذا النكير؟ أم أن كثيرا من الناقدين لم يتواضعوا و يكلفوا أنفسهم محاولة قراءة فكر الرجل وفقهه ورؤيته التجديدية في واقع الأمة اليوم. يقول الأستاذ كولن معرفا للسياسة: (السياسة هي فن الإدارة التي تجلب رضا الله تعالى ورضا الناس. و نسبة قيام الحكومات -بما تملك من قوة وقدرة- بالمحافظة على شعبها من الشرور والمفاسد، وصيانته من الظلم تكون بنسبة نجاحها وتوفيقها، وتبشر بمستقبل زاهر. وإلاّ فإن المظاهر الطنانة سرعان ما تزول مخلفة وراءها الفوضى والهرج والمرج، فلا تذكر مثل هذه الحكومات إلاّ باللعنات).
نعم إذا غابت المقاصد السامية فلا معنى للشعارات المرفوعة أو الأصوات المجموعة، إنما ذلك جعجعة بدون طحين. يقول الأستاذ كولن: (الحكومة تعني العدالة والاستقرار والأمن. فإن لم تكن هذه الأمور متوفرة في مكان ما فمن الصعب الحديث عن وجود حكومة هناك. فإذا قمنا بتشبيه الحكومة بمطحنة فإن الدقيق الذي تنتجه هو النظام والأمن والاستقرار. والمطحنة التي لا تنتج هذا ليست إلاّ آلة ضوضاء جوفاء لا تطحن سوى الهواء.) – يتبع-
https://youtu.be/4vEij6vfF00