إسطنبول (الزمان التركية) – ركز الأستاذ فتح الله كولن في درسه الأخير على الموقف الذي يجب على أهل حركة الخدمة أن يلتزموه في أعقاب “المحاولة الانقلابية الفاشلة” التي شهدتها تركيا منتصف الشهر الماضي، ناصحاً إياهم بمحاسبة النفس والقيام بواجباتهم الذاتية بدلاً من الانشغال بظلم الظالمين ومخططاتهم المشؤومة.
وأعاد الأستاذ كولن إلى الأذهان الخدمات التعليمية والمساعدات الإنسانية التي يقدمها أهل الخدمة من خلال المدارس والجمعيات المنتشرة في أكثر من 170 دولة في العالم، واصفاً إياها بـ”جسور السلام والحوار”، وكذلك بـ”النعمة الإلهية” التي أسبغها الله سبحانه وتعالى عليهم فضلاً ولطفاً منه.
الحسنات من الله والسيئات من أنفسنا
وحذّر الأستاذ كولن المتطوعين في الخدمة من أن ينسبوا التوفيق والنجاح في الخدمات التعليمية المقدمة لجميع شعوب العالم إلى أنفسهم، وكذلك من أن يصيبهم الغرورُ والكبر والتفاخر حتى لا يتعرضوا للطمة الإلهية التي ترد في الحديث القدسي “الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما قذفته في النار”، داعياً إياهم إلى الالتزام بالمبدأ الوارد في قوله تعالى: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) [النساء:79].
ولفت الأستاذ كولن إلى أهمية تركيز رجال الخدمة ونسائها على القيام بمهمة العيش في إطار المبادئ الإسلامية الإنسانية العالمية، ونشرِ هذه المبادئ بين الناس أجمعين بأساليب حكيمة، بدلاً من شغل أذهانهم بظلم الطغاة ومخططاتهم المشؤومة حتى لا يتساقطوا على طريق الدعوة، مذكراً بقوله سبحانه وتعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) [المائدة: 105].
وتابع الأستاذ كولن بقوله: “عليكم أنفسكم.. حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسَبوا. أجل علينا أن نراجع أنفسنا ونحاول الكشف عن مواطن النقص لدينا حتى ندرك لماذا تسلَّط هذه السيوف الظالمة علينا ولماذا تنزل تلك المطرقات والمعاول على رؤوسنا.. فإذا قلتم هكذا وتناولتم الموضوع من هذا المنظور، فإن أبواب التوبة والإنابة والأوبة تنفتح لكم مثل أبواب القلاع والحصون، ثم ستجدون أنفسكم بعد الدخول إليها في ظلال مناخ يسوده برد وسلام، وستحصلون على الحماية الإلهية بحيث لن يضركم الظالمون والجبابرة بشيء ما دمتم على الهداية.. ما دمتم تمثلتم الهداية وحوّلتموها إلى بعد وجانب فطري من أنفسكم.. ما دمتم مخلصين ومحسنين في القيام بواجباتكم من أجل تحصيل الرضاء الإلهي فقط دون انتظار مقابل مادي أو معنوي، بما فيه الجنة.”
ظالمو اليوم سيندمون غداً وستترحمون عليهم
كما تطرق الأستاذ كولن إلى الخطوات والإجراءات التعسفية في تركيا وقال: “إن الذين خرقوا القوانين وبدؤوا يتصرفون بصورة تعسفية بعيدة عن العدل والإنصاف، واتخذوا أهواءَهم وأغراضهم قانوناً يُبكُون به أناساً أبرياء، ويؤذون ويظلمون عدداً كبيراً من الناس، ويسفكون دماءهم.. إن هؤلاء ستنحني رؤوسهم وظهورُهم وسيئنّون ألماً قريباً أمام التاريخ في الدنيا، وأمام رب العالمين غداً في الدار الآخرة. أما أنتم فلن تفعلوا شيئاً سوى الترحم والعطف عليهم.. على الذين قتلوا روح الإسلام باسم الدين والإسلام وشوّهوا صورته الناصعة عبر وسائلهم الإعلامية وأفواههم الخبيثة وتعاونهم مع التنظيمات الإرهابية.
لا تلطّخوا عبوديتكم بانتظار أي مقابل
وتابع الأستاذ كولن: “من كان لله ونذر نفسه له وقام وقعد باسمه وتحرى في كل حركاته وسكناته رضاه وبات في الليالي له سجداً، فإنه لا يتركه وحيداً أبداً. لكن إذا ما قطع عروته وحبله مع الله سبحانه وتعالى، فإن كل شيء ينقلب عليه باعتبار أن ذلك عادة وسنة إليهة لا تتغير ولا تتبدل… (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ) [الحديد: 4] هذا البيان الإلهي الجليل يقول من جانب: كونوا وعيشوا حذرين ويقظين. حذار حذار أن تسمحوا لعقولكم وقلوبكم، بل حتى لأحلامكم، بأن تتلوث وتتلطخ. لا تلطخوا عبوديتكم بخواطر من قبيل التوقع بأن يشار إليكم بالبنان في الدنيا لأنكم ساهمتم في بناء هذا الكمّ الهائل من جسور السلام والحوار في العالم، وأن تنتظروا الحصول على بعض النعم في الآخرة، بل كثفوا كل جهودكم لتحصيل الإخلاص والرضاء وخالص العشق والاشتياق له تعالى، وعيشوا دوماً في ظلّ “الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك” ليكن ذلك غايتكم القصوى. ومن جانب آخر يقول هذا البيان الإلهي: إن كان الله معكم فلن يلحق بكم أي أذى وضرر إلا بإذنه، حتى لو اجتمع واتفق العالم بأكمله ضدكم”.
العبرة بالكيف لا بالكمّ
واختتم الأستاذ كولن درسه بقوله: “إن المنافقين نجحوا في خداع بعض المؤمنين حتى في العهود التي عاش فيها الأنبياء والرسل، وجرفوهم من وراءهم كالقطيع. لا تنخدعوا بالكثرة العددية، ذلك أن القيمة ليست في الكثرة والكمية، وإنما في النوعية والجودة وأن يكون الإنسان مؤمناً حقاً. يخاطب القرآن الكريم الذين يلهثون من وراء الدنيا بكل أحوالهم وأطوارهم كما يلي: (كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآخِرَة) [القيامة: 20-21]. أي كلا إنهم آثروا الدنيا على العقبى، والسلطنةَ والقصور الفاخرة والأموالَ الطائلة على الآخرة والرضاء الإلهي”.