بقلم: يافوز أجار
رأينا طيلة فترة حكم حزب العدالة والتنمية في تركيا مدى براعة آلة الدعاية التي تقوم بتبرير إجراءت الرئيس رجب طيب أردوغان وتلميع صورته، سواء في حالة انتصاره أو هزيمته، من خلال قصف عقول المواطنين، بغضّ النظر عن صحة تلك الإجراءات أو موافقتها لمصالح الوطن والأمة أو المبادئ الديمقراطية والإسلامية. ونرى اليوم الأمر نفسه بشأن المفاوضات التي تجري بين كبار المسؤولين الإيرانيين والأتراك من أجل التوصل إلى تسوية في سوريا.
لقد نجح أردوغان في تلميع صورته وزيادة شعبيته في الفترة الأولى من حكمه عندما كان ينفّذ عمليات عسكرية حاسمة ضد العناصر المسلحة التابعة لحزب العمال الكردستاني. حيث كان “زعيماً ينقذ البلاد من بلاء الإرهاب” الذي عانى الأتراك منه طيلة قرن كامل من الزمان، الأمر الذي جعله يضمن “دعم القوميين الأتراك” في البلاد.
ثم تغيّرت الموازين وجاء وقت “دفن الأسلحة وبدء المفاوضات السياسية”، لينزل الإرهابيون من الجبال إلى المدن، ويواصلوا مكافحتهم عبر السلك السياسي تحت مسمى مفاوضات السلام.. وكان كل من أردوغان والزعيم الإرهابي عبد الله أوجلان بمثابة “حمامة السلام” في نظر آلة الدعاية هذه، حيث كانا يسعيان لإقامة السلام من أجل الشعبين التركي والكردي. وكان نجم أردوغان في أوج لمعانه حيث هذه المرة حصل على “تأييد القوميين الأكراد”.
ثم عندما عادت الاشتباكات بين العمال الكردستاني والقوات الأمنية والعسكرية، بعد أن حال الحزب الكردي دون انفراد حزب أردوغان بالحكم، وبالتالي دون فرض النظام الرئاسي، بدأت طبول الحرب تقرع مجدداً في المناطق الشرقية الكردية، بل في قلب العاصمة أنقرة وإسطنبول، ليظهر أردوغان في صورة “زعيمٍ قطع على نفسه عهداً بمحاسبة الخونة”، ما نتج عنه استرداد أردوغان “الأصوات القومية التركية” مجدداً، بعد أن فقدها بسبب تفاوضه مع المنظمة الإرهابية، وسماحه لها بأن تستغل فترة مفاوضات السلام من أجل الاستعداد لحرب الشوارع في الفترة المقبلة. وكانت صورة أردوغان في قمة لمعانها باعتباره “زعيماً قومياً مناضلاً” ضد الخونة الإرهابيين كذلك.
بعد ذلك بات أردوغان زعيماً إقليمياً بفضل استعراض عضلاته تجاه إسرائيل في المحافل العالمية والمياه الدولية، وتجاه بعض البلدان العربية، وعلى رأسها مصر، حيث كان أسكت شمعون بيريز في دافوس بقوله “One Minute”، كما أنه كان في غنىً عن الحصول على إذن السلطات الصهيونية “غير الشرعية” لمساعدة غزة وكسر الحصار المفروض عليها، فانطلقت سفينة مافي مرمرة، بإذنه هو، لتحقيق هذه الغاية السامية، ليظهر أردوغان هذه المرة في مظهر “الزعيم الإسلامي”، بل خليفة المسلمين أجمعين.
ومضت السنون ليأتي الوقت الذي اضطر فيه أردوغان إلى عقد اتفاقية لتطبيع العلاقات مع إسرائيل؛ عدوه اللدود، وبيعِ القضية الفلسطينية ومنسقي مافي مرمرة، حيث قال لهم: “هل سألتموني لتسيير مافي مرمرة نحو غزة”، ومَنَع إرسال طلب المحكمة التركية باعتقال العسكريين الإسرائيليين المسؤولين عن اقتحام السفينة وقتل الأتراك التسعة إلى الشرطة الدولية (إنتربول). لكن مع ذلك، استطاع قلب الطاولة رأساً على عقب ثم غدونا نراه “زعيماً حريصاً على مصالح الأمة” الإسلامية عامة والقضية الفلسطينية خاصة، ذلك لأن “تركيا المسالمة مع إسرائيل أنفع وأجدى للفلسطينيين من تركيا المعادية لإسرائيل”، ولا حرج في الحصول على إذن السلطات الإسرائيلية لإرسال المساعدات إلى قطاع غزة، بعد أن كان يرى ذلك “حراماً” ويتهم من ينادي بذلك بموالاة إسرائيل.. إنه أردوغان الرابح في كل الأحوال، إذ قدم بنود الاتفاقية الفاشلة في صيغةٍ وإطارٍ لتبدو وكأنها انتصار لا هزيمة وإقدام لا تنازل.
ولما أسقط الطيارون الأتراك طائرة روسية في العام الماضي، بأمر أردوغان، تحول هذه المرة إلى “زعيم عالمي” يتحدى دولة بحجم روسيا. وعندما أدرك بعد مرور حوالي عامٍ أن “العنترياتِ لا تقتل ذبابة”، وحينما رأى أن القطاع السياحي لبلاده يتدهور بسرعة هائلة، وأحسّ بتفاقم عزلته يوماً بيوم، قدم اعتذاره لروسيا عن إسقاط طائرتها، مدعياً أن “الكيان الموازي” هو من أوقع بين الطرفين من أجل إفساد العلاقات وأن الطيارين منتمون إليه، ليصدر بعد ذلك أمراً باعتقالهم عقب محاولة الانقلاب المشبوهة. غير أنه تمكن من أن يظهر هذه المرة في ثوب “الزعيم المسؤول” الذي يضحي بنفسه وعزته الشخصية في سبيل تحقيق مصالح الوطن والأمة، ويعرف متى يتراجع ويقدم تنازلات عند الضرورة، الأمر الذي جعله يحافظ على شعبيته حتى في ظل هذا الظرف الذي كان من المفروض أن تنهار السمعة فيها لو كان زعيماً آخر.
وحينما ساعد إيران وخرق العقوبات الأمريكية المفروضة عليها وجعلها تتنفس اقتصادياً من خلال شبكة دولية تقوم بغسيل الأموال الإيرانية السوداء في الحمام التركي كان “زعيماً وطنياً” يضع مصالح الوطن الاقتصادية فوق كل الاعتبارات، ويعترض حتى على الولايات المتحدة الأمريكية في سبيل ذلك. وعندما كان يصف إيران بــ”بيتي الثاني”، فإنه كان يقضي بذلك على مرض “الطائفية” الذي تعاني منه الجغرافيا الإسلامية برمتها.
وعندما تطلّب الأمر الوقوف إلى جانب المملكة العربية السعودية في عملية “عاصفة الحزم” التي أجرتها في اليمن، اتهم إيران بالطائفية والسعيِ لتحقيق مطامعها القومية الفارسية في كل المنطقة، لتقدمه لنا آلة دعايته هذه المرة باعتباره “زعيماً عليماً بالمناورات السياسية”، وقادراً على التأقلم والتعامل مع الظروف المتغيرة دوماً، مع أننا نراه اليوم قد تحالف مع كل من إيران وروسيا وإسرائيل، زِد إلهيا سوريا أيضاً، في مسعىً منه للبحث عن مخرج للمأزق الذي وقع فيه بعد الانقلاب المضاد الذي نفذه بعد يوم واحد من محاولة الانقلاب المريبة.
وعندما غدا أردوغان مع أركانه في زاوية ضيقة جداً اضطر إلى التنازل حتى عن مبادئه وقضاياه الأساسية، حيث خرج أولاً رئيس حزب الوطن اليساري المتطرف دوغو برينتشيك الذى يبدو كشريكٍ سريّ لأردوغان في السنوات الأخيرة وقال إن الدور أتى على إصلاح العلاقات بين أردوغان والرئيس السوري بشار الأسد، وإن تحسين العلاقات بين تركيا وروسيا سيمهد الطريق للتعاون مع سوريا أيضاً، وادعى أنه من أصلح علاقة أردوغان مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين. ثم كتبت صحيفة “قرار” الموالية لأردوغان أن تركيا تواصل اتصالها الدبلوماسي مع سوريا عبر شخصيات تتمتع بنفوذ قوي في كلا الطرفين وأن اللقاءات التي تتم في إيران ستشهد تطورات مهمة خلال الفترة القادمة. ثم أطلّ علينا مولود جاويش أوغلو وزير خارجية أردوغان ليقول إن “أنقرة وطهران متفقتان على وحدة الأراضي السورية ومكافحة جميع التنظيمات الإرهابية واستمرارِ الحوار في النقاط الخلافية”، في لقائه مع نظيره الإيراني جواد ظريف الذي لفت بدوره إلى توافق تركيا وإيران بخصوص وحدة الأراضي السورية، معبراً عن سعادة بلاده بالتقارب التركي الروسي. وزير خارجية أردوغان يغلّف تصريحاته بعبارات غامضة في محاولة منه لإخفاء مدلولها خشية رد فعل الرأي العام فيقول “تركيا وإيران متفقتان على وحدة سوريا” بدلاً من القول “تركيا راضية بالأسد” أو “اتفقت تركيا وإيران على بقاء الأسد”. وأخيراً خرج رئيس الوزراء بن علي يلدريم وقال بعبارات صريحة: ”سنلعب دوراً أكثر فعالية في سوريا خلال الأشهر الستة المقبلة. ومن الممكن أن تتم الموافقة على “بقاء الأسد” كمخاطب خلال المرحلة الانتقالية لكن لا مكان له في مستقبل سوريا”، على حد قوله.
وبما أن أردوغان يبدو كساحرٍ بارع بحيث يخرج من قبعته الأرنب، فيفلح في تحويل النقائص إلى فوائد، والأخطار إلى فرص، والمآسي إلى نجاحات بمناوراته وتقلباته وتحولاته السياسية، فليس من المستبعد أن ينجح أيضاً في قلب الطاولة لصالحه في قضية الأزمة السورية أيضاً، في ظل آلة دعايته هذه ووجودِ جماهيرَ عريضةٍ تنساق وراءه وكأنها مسلوبة الإرادة والتفكير، أو كأنها ورقة في مهب الريح التي يثيرها أردوغان كيفما يشاء. وذلك مع أن إسقاط الأسد كان من أولى أولوياته باعتباره أهم خطوة نحو تنصيب نفسه خليفة لعامة المسلمين ضحى في سبيل تحقيقها بالشعب السوري كله.
وقد بدأ أردوغان منذ وقت يهيئ أذهان الرأي العام ليقدم رئيس وزراءه السابق أحمد داود أوغلو باعتباره مسؤولاً عن الأخطاء المرتكبة في القضية السورية ويجعله كبش فداء مرة أخرى، حتى ينقذ نفسه من البقاء تحت هذه الفاتورة الباهظة. وليس اعتقال السفير السابق جوركان باليك بتهمة المشاركة في الانقلاب الفاشل وهو الذراع الأيمن لداود أوغلو أثناء فترة توليه منصب وزير الخارجية إلا من قبيل هزات صغيرة تسبق الزلزال الكبير.
إننا أمام وجوهٍ وصورٍ عديدةٍ ومتناقضة لأردوغان، لكنه على كل حال رابح في أي صورة يظهر فيها، ولو كان ذلك على حساب الشعبين التركي والسوري وجميع شعوب المنطقة.
يبدو أننا سننتظر مزيداً من الوقت حتى نرى إذا ما كان سينقلب السحر على الساحر، وما إذا كان سيزداد لمعان نجمه أكثر في المستقبل أم سيأفل ليغرق في “عينٍ حمئة من التذبذبات” القاتلة في الداخل والخارج.