بقلم .عبد العزيز الإدريسي باحث في الفكر التربوي
(الزمان التركية): كلما تناهى إلى سمعي خبر مطالبة السلطات التركية بإغلاق مدارس الخدمة في بعض دول المعمورة، شعرت بالحزن والأسى على هكذا طلبات، وتأكد لي بالملموس أن الانقلاب العسكري الفاشل مجرد سيناريو محبوك لتصفية نموذج حضاري إصلاحي هدفه إسعاد الإنسان، هذا النموذج الحضاري ارتضاه الناس من مختلف الأعراق والثقافات والأقاليم، ونوهوا بملهمه الاستاذ فتح الله كولن واحتضنوا أبناء الخدمة وآووهم ونصروهم ، رغم كل محاولات الشيطنة والإتهام.
أتحدث عن مدارس الخدمة التي زرتها واطلعت عليها كشاهد عيان ومتتبع من عين المكان، داخل تركيا وخارجها، أو قرأت عنها أو سمعت شهادات أجمعت كلها على أنها مدارس رائدة في مجالها، شاهدة على غيرها، راشدة بأطرها ومجددة لمناهجها ومطورة لبرامجها.
والمقصود هنا بمدارس الخدمة تلك المؤسسات التعليمية والتربوية والأكاديمية، التي تنطلق من روضة الأطفال إلى الجامعة، مرورا ببيوت الطلبة وصالونات القراءة إلى مراكز البحث العلمي ومعاهد الدراسات المتخصصة، والتي تستلهم رؤاها التربوية وآفاقها الإصلاحية من أفكار الأستاذ فتح الله كولن.
مدارس الخدمة مدارس سعادة:
أن تكون المدرسة فضاء للسعادة، يعنى ذلك بكل بساطة أنك ربحت الرهان البيداغوجي، ودخلت إلى مصنع بناء الانسان من أوسع أبوابه، فالمدرسة بهذا المعنى فضاء للعطاء والاخذ، فضاء للتواصل والتفاعل، فضاء لحل المشكلات التعليمية والاجتماعية، في ذات السياق أحكي لكم قصة عشتها في زيارة مباركة لمدارس الخدمة بتركيا سنة 2013،كنت ضمن لفيف مكون من أساتذة باحثين وأطر مشرفين على بعض المدارس الخاصة بالمغرب، ومما سجلته أن مشرفة على مدرسة خاصة بالمغرب – كلما زرنا مؤسسة إلا وطرحت السؤال الحارق :كيف تتعاملون مع المشاغبين والمستهترين؟ وتكاد تكون الاجابة موحدة من طرف المشرفين على مختلف مدارس الخدمة،- كانت هذه الاجابة من طرف مدير مدرسة” جوشكن” بإسطنبول” بأن المؤسسة التعليمية فضاء لتحرير طاقات المتعلم وميدان للتدرب على فلسفة الحياة ،ومجال لترشيد المدركات، وعندما تقع مشكلة ما، فإن الحوار البناء والهادئ والهادف هو السبيل لحل المشكلات والمنهج الأصيل في التعليم والتربية، بحيث يفتح المدرس حوارا أخويا ووديا بينه وبينه المتعلم بحضور أحد الأطر الادارية، وتقدم في هذه الجلسة الحوارية كؤوس الشاي وبعض الحلويات، ولا يتوقف الحوار في هذه اللحظة بل يمتد إلى البيت والأسرة، حيث يتطوع المدرس خارج حصة الدوام ليزور التلميذ في بيته ويتواصل مع والديه.
ومن القصص الجميلة –التي سمعتها من مدير أحد المدارس- والتي تفتح باب الأمل ما حكاه عن مواطنة أمريكية تتابع ابنتها الدراسة في مدرسة من مدارس الخدمة، وكيف أنها كانت لا تحب الرجوع إلى البيت من شدة توتر علاقتها ببنتها، ولكن بعد التحاقها بمدرسة الخدمة، لاحظت الأم تحسن معاملة البنت ،وعندما سألتها قالت لها بأن الفضل يرجع إلى معلمي مدرسة الخدمة، فأصبحت أمنيتها متى تنهي ساعات العمل لتذهب إلى البيت وتلتقي ببنتها.؟
مدارس الخدمة مدارس تعاون:
في كثير من الأحيان تجد المناخ السائد داخل المؤسسات التعليمية مناخ صراع وتوتر بين الأطر الإدارية والتربوية، غير أن المناخ السائد داخل مدارس الخدمة هو التعاون وخفض الجناح والتواصل والبحث عن القواعد المشتركة، وإيجاد الحلول لكل المشكلات، وقد أبدعوا لضمان هذا التعاون نظاما، أطلقوا عليه: “نظام الزمر“، فلكل تخصص زمرته ومجموعته، فللرياضيات زمرة، وللفن زمرة، وللرياضة زمرة ،وللغة زمرة وهكذا دواليك، فتكون لهم لقاءات أسبوعية خارج الدوام للتقاسم والتشارك، وتكون لهم لقاءات شهرية على مستوى المقاطعة أو الاقليم، ودوارات تكوينية مغلقة سنوية.
ومما أذكره ولا أنساه كيف يتعاون كل الأطر الإدارية والتربوية ب”مدرسة قهرمان رأفت “بمدينة بورصة في تطوير أدائهم الديداكتيكي عبر استدماج تكنولوجيا الاعلام والتواصل في التدريس والتقويم، وأثناء شرح مدير المدرسة للوفد المغربي كيفية الاستعمال الأمثل للحاسوب اللوحي من طرف الأساتذة والتلاميذ، بالإضافة إلى تجهيز جميع القاعات بالسبورة الذكية أو السبورة التفاعلية.
هذا التعاون يمتد إلى كل المؤسسات والفاعلين التي تحيط بالمدرسة، بشكل عمودي وأفقي.
مدارس الخدمة مدارس ذكاءات متعددة:
مجرد ما تضع قدمك اليمنى بالبهو البهيج “لمدرسة العزيزية” بمدينة أرضروم، حتى ينشرح صدرك لما تجده من نظافة ونظام، وبشاشة وابتسام، وسكينة واحترام، وجمالية وانسجام، ولكن ما أدهشني صدقا وحقا، ذلكم الكم الهائل من الجوائز والميداليات والشهادات والنياشين التي تحصل عليها وفاز بها الطلاب المنتسبون إلى “مدرسة العزيزية”، في مختلف المجالات والتخصصات ،على المستوى المحلي أو الوطني أو الاقليمي أو الدولي، فمن أولمبياد الرياضيات الدولية، إلى رياضية الكاراتيه، إلى لعبة الشطرنج إلى مسابقات الاختراعات في شتى العلوم، إلى بطولة اللغات والآداب شعرا ونثرا، رواية وقصة،و….
قلت ما وصلت إليه مدارس الخدمة فاق وتجاوز ما نظر إليه هوارد جاردينر Howard Gardner من ضرورة اعتبار مفهوم الذكاءات المتعددة والتخلي عن مفهوم الذكاء التقليدي في عملية التعليم والتعلم، باعتبار الذكاء ملكلة لحل المشاكل أو انتاج أمور ذات قيمة بالنسبة لثقافة أو جماعة ما، وقد بوب هذه الذكاءات إلى سبعة:(1-الذكاء اللغوي/2-الذكاء المنطقي االرياضي/3-الذكاء الفضائي/4-الذكاء الموسيقي/5-الذكاء الحركي/6-الذكاء البيشخصني/7-الذكاء الذاتي) مجلة سيكو تربوية العدد2 السنة2001 ص223 وما بعدها.
لقد استطاعت مدارس الخدمة أن تبني إنسان المستقبل بناء شموليا تكامليا، تجمع فيه بين الروح والعقل، بين العلم والإيمان، بين الابداع والاتباع، بين الفكر والفعل، كل ذلك في تناغم مع متطلبات العصر وتوجيهات مجدد العصر الأستاذ فتح الله كولن، الذي يقول في كتابه الموازين: “مستقبل كل انسان متعلق بما تأثر به وانطبع عليه في طفولته وشبابه من دروس التربية والسلوك. فإن كان قد قضى طفولته وشبابه في جو إيجابي يربي المشاعر العلوية توقعنا كونه إنسانا يحتذى به من الناحية الفكرية والخلقية”. ص77.
https://youtu.be/Dm2L4-jrFk0