بقلم: أحمد فريد، كاتب صحفي
نتابع ما يحصل في تركيا بقلق شديد. نتابع النموذج التركي وهو ينهار محطمًا معه آمالنا وأحلامنا. كم كان لذيذا، كم كان جميلا! تلاشت العدالة، ثم تلاشت التنمية، ثم تلاشى الحزب، لم يبق شيء اسمه حزب العدالة والتنمية، وبقي أردوغان ميزانًا للحق والباطل. إذا نطق فهو الحق مهما كان كلامه معوجًا، وإذا انتهك فهو العدل مهما كان الانتهاك فظيعًا، وإذا صرخ فهو الزئير يصدر من أسد شجاع مهما كان فظيعًا. فهو الميزان في تقييم الأشياء والأحداث، هو الوحدة المعيارية.
مرة أخرى نقع في الشخصنة بأبشع صورها. مرة أخرى يظهر الفكر الماكيفيلي في عالمنا على يد تيار إسلامي كنا نتوقع منه أن يمثل قيم الخير والفضيلة والعدالة. مرة أخرى تنتصر القوة على قيم العدل. إذا كنت قويًا فأنت الحق المطلق. هذه هي فلسفة القيادة الحالية في تركيا.
الإسلاميون والقيم
عندما تقترف الأيدولوجيات العلمانية والاشتراكية والقومية جريمة اغتيال قيم الحرية والعدالة والحرية أتفهمها بعض الشيء، لكن عندما يقترف من يسمي نفسه إسلاميا ويعلن عن نفسه رمزًا للقيم الأخلاقية العالية جريمة اغتيال في حق تلك القيم السامية لا أجد تفسيرًا معقولًا لذلك. كيف، وقد اكتسب ذلك الإسلامي مشروعيته من تلك القيم؟ كيف وتنزيل تلك القيم على أرض الواقع وتحويلها إلى كيانات حية تمشي على الأرض هي غاية وجوده.
أردوغان ومن معه من الحلفاء يملكون اليوم في تركيا جميع السلطات. السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية والسلطة الإعلامية. لا يوجد اليوم في تركيا ما يعرف في الأنظمة الديمقراطية من انفصال السلطات. دعونا من الضحك على الذقون. السلطة كلها مجتمعة في يد رجل واحد، ويا ويل من يعارض هذا الرجل أو يجرؤ على انتقاده، فليعدّ نفسه لأفظع النتائج. قد يستيقظ فيجد صورته في مانشتات الصحف خائنًا للوطن أو إرهابيا أو مرتدا عن الملة، أو انقلابيا، ثم يجد نفسه معتقلا في زنزانة مظلمة دون أن يعثر على أدنى فرصة للدفاع عن نفسه أو التعبير عن ذاته.
استغلال الإمكانات
إن أراد أردوغان الليلة أن يختلق مسرحية انقلابية مع مجموعة من الضباط والجنود، من يمنعه من ذلك؟ لو افتعل تمثيلية انقلابية وألصق التهمة بالجماعة الفلانية أو العلانية من يمنعه من ذلك؟ لو أمر باعتقال تلك الجماعة وأغلق مؤسساتها وصادر ممتلكاتها، من يمنعه من ذلك؟ لا أحد. إذا شنت وسائله الإعلامية حملة دعائية ضد تلك الجماعة، ولفقت ألوانا من الأكاذيب والافتراءات، أنى لهؤلاء الأبرياء أن يدافعوا عن أنفسهم ويثبتوا براءتهم؟ شبه مستحيل. أهذا ما حصل لحركة الخدمة وجماعة الداعية فتح الله كولن بالتحديد؟ غالبًا.
أردوغان وحلفاؤه في ظل الإمكانات التي يملكونها يمكنهم أن يختلقوا كل يوم سيناريو جديدًا، ويغتالوا شريحة اجتماعية أو سياسية أو ثقافية جديدة، يعتقلون رجالاتها ويغلقون مؤسساتها ويصادرون ممتلكاتها ويدمرون سمعتها.
بالمقابل ماذا يمكن أن يفعل من يتعرض لمثل هذه العمليات؟ بالتأكيد سيرفض التهمة، بالتأكيد سيندد بالجرائم التي ارتكبت ونسبت إليه، وسيفعل ذلك على الملأ، لكن من يصدقه وقد قامت وسائل الإعلام، أي أسلحة الدمار الشامل المعاصرة بنقش تلك التهمة على جبينه؟ أهذا ما يحصل يوميا في تركيا ضد أتباع فتح الله كولن والمتعاطفين مع أفكاره؟ غالبًا.
انقلب واتهم
منذ سنتين وأردوغان يملك أن يصف من يشاء بما يشاء دون أن يجد أي اعتراض، لأنه يمسك بزمام كل السلطات. وقد ازداد سلطانه بعد محاولة الانقلاب (أو سيناريو؟) ليلة ١٥ يوليو بصورة لا مثيل لها. بعد هذا التاريخ امتلك عصا سحرية يحول بها من يشاء إلى ما يشاء. فتح الله كولن إرهابي، عصابة أرجينيكون طاهرة نظيفة نقية، قضية باليوز-المطرقة قضية مصطنعة لا أصل لها، القضاة الشرفاء انقلابيون، المحسنون لصوص، المدارس خلايا إرهابية.. إلخ، وتمتد القائمة.. من يسميه أردوغان مجرمًا فهو مجرم، ومن يبرئ ذمته فهو بريء.
في مثل هذه الظروف بإمكان أردوغان أن يختلق كل يوم انقلابًا، ويتهم مجموعة ما لا تروق له بالتدبير له، ثم يشرع في تصفية تلك المجموعة دون أن يرده أحد. قد يفعل ذلك كل يوم، عنده الإمكانات.
اليوم قد يخدع مَن في الداخل، إما لأنهم سذج، أو أنهم خائفون، أو يتظاهرون بالقبول، لكن من يرى الصورة المكبرة من الخارج بالتأكيد لا تنطلي عليه هذه الألاعيب.
في الختام، احذروا، قد تكونون غدا أنتم الضحية.. قد تستيقظون صباحًا، فتجدون أنفسكم متلبسين بجريمة لا صلة لكم بها. لكن من يصدقكم؟ فلا إعلام معكم، ولا شرطة، ولا قضاء، ولا ساسة… قد تمسون وطنيين وتصبحون انقلابيين، من يدري؟