بقلم: نوزاد صواش
لن ينسى أحد يعيش في تركيا أو له أي ارتباطٍ بتركيا ما حدث فيها ليلة الخامس عشر من يوليو/ تموز ٢٠١٦ من وقائع عجيبة ومشاهد مثيرة لا تقل إثارة عن أفلام هوليوود، سيظل الجميع يتحدث عنها فترة طويلة لما كان لها من تأثير مباشر على حياة المجتمع والدولة سواء في الداخل التركيّ أو خارجه، ولن يعود المشهد في تركيا بعد تلك الليلة كما كان من قبل، ولن تعود الحياة إلى سابق عهدها بعد تلك الليلة، لأنها كانت مخاضًا جديدًا لولادات جديدة، فهل هذه الولادات تُبشّر بخير أم تنذر بشرّ؟ هذا ما ستكشف عنه الأشهر والسنوات المقبلة.
ما الذي حدث؟
ليلة ١٥ يوليو/ تموز يوم الجمعة، وفي الساعة التاسعة والنصف مساءً؛ فوجئ الناس بعبارات صادمة تجري على شاشات القنوات التلفزيونية تقول: إن هناك تحركًا عسكريًّا في إسطنبول، وأن مجموعة من العساكر أغلقوا الجسر المعلق على البوسفور وأوقفوا حركة السير، وأن كتيبة أخرى حاصرت قصر “بكلر بكي”، وأن بعض طائرات الهليكوبتر تحلق في الفضاء، إضافة إلى بعض التحركات في العاصمة أنقرة، بعد قليل تطايرت أنباءٌ بأن كتيبة عسكرية أخرى حاصرت مبنى القناة الحكومية “تي أر تي” تريد السيطرة عليها، تسمّرت الأعين على شاشات التلفزة تتابع كل ما يستجدّ بانفعال شديد، بعد قليل توقّف بث قناة “تي أر تي” الحكومية واسودّت شاشتها، ولكن قبل ذلك بدأ رئيس الوزراء “بِنْ عَلي يِلْدِرِيمْ” على شاشة قناة أخرى يتحدث على الهواء مباشرة، ويقول إن هناك تمرُّدًا لمجموعة صغيرة من العسكريين، وأنه سيتم اتخاذ كل التدابير اللازمة لإفشال محاولتها، عرف الناس جميعًا أنهم أمام محاولة انقلابية، في هذه الأثناء انتشرت على الشبكات الاجتماعية أنباء بأن رئيس الجمهورية أردوغان غادر بطائرته البلاد متجهًا إلى وجهة مجهولة، وشاعت أخبار بأنه اتجه صوب ألمانيا طالبًا اللجوء والحماية.
بعد قليل ظهر على شاشة قناة أخرى وزير العدل التركيّ يتحدث عن محاولة انقلابيّة وأن الوضع تحت السيطرة، وأنه سيتم اتخاذ كل الإجراءات اللازمة ومعاقبة جميع المتورطين في هذه العملية النكراء.
فجأة عادت قناة “تي أر تي” إلى البث، ظهرت المذيعة الشهيرة التي تقدم نشرة الأخبار الرئيسة لتقرأ على الناس أجمعين بيانًا يعلن أن القوات العسكرية وضعت يدها على حكم البلاد لما رأته من حياد عن القيم الوطنية والعلمانية التي قامت الجمهورية التركية على أساسها والتي أرسى قواعدها أتاتورك.. إلخ.
سادت الوجوهَ حالةٌ من الدهشة والقلق والتساؤل، إذًا هو انقلاب فعلًا، إذًا ها نحن نعيش الفيلم نفسه، عاد العسكر إلى الحكم من جديد، ولكن الغريب أن القنوات التلفزيونية الأخرى كانت تواصل بثها كأن لم يحصل شيء: شخصيات حكومية تظهر على شاشاتها، تطمئن الشعب، وتهدد بالويل لمن اقترف هذا العمل المشين؛ المشهدُ بدا غريبًا، إذ ما هذا الانقلاب الذي يتم على مرأى ومسمع من العالم، في ساعة الذروة، وسط حرية إعلامية كاملة لجميع رموز الحكومة ومؤيديها من الكتّاب والصحفيين والمعلقين، ما عدا قناة “تي أر تي” التي توقف بثها بعد قراءة بيان الانقلاب؟!
لكن أين الرئيس أردوغان؟ أين طائرته؟ لا أحد يعلم، هناك أنباء متضاربة حول مكان الطائرة ومسارها، وبعد فترة قليلة ظهر أردوغان على شاشة “سي إن إن ترك” عبر الهاتف الذكيّ، يتوعد القائمين بمحاولة الانقلاب، ويدعو الشعب التركي إلى الشوارع لدحر الانقلاب والحفاظ على الديمقراطية.. أردوغان لوّح في كلمته إلى فزاعته المشهورة، “الكيان الموازي”، وأن هذا الكيان هو الذي يقف وراء هذه المحاولة.
بعد مكالمة أردوغان هذه برز المسؤولون الأتراك على شاشات جميع القنوات التليفزيونية يوجهون دعوة إلى الجماهير لكي يواجهوا الدبابات والكتائب العسكرية ويجهضوا الانقلاب مهما كان الثمن.
لم تمض ساعات قليلة حتى خرج الناس إلى الشوارع يواجهون الدبابات، ويحتجون على الجنود الذين أغلقوا جسر البوسفور وحاصروا بعض المباني الحكومية في إسطنبول، بعد قليل شاهد الناس عودة “تي أر تي” إلى بثها، شاهد الناس وزير العمل “سليمان سويلو” مع مجموعة من العمال في القناة وقد استعادوا المبنى من العسكر، يعلنون عن انتصارهم عليهم، ويدعون الناس إلى الشوارع كما فعل أردوغان.
بدا الموقف حرجًا بالنسبة للانقلابيين، فقد أفلت الموقع الذي أعلنوا منه قرار الانقلاب من أيديهم بسهولة غريبة. بعد قليل انتشرت أنباء بأن الانقلابيين بدؤوا يفقدون السيطرة على المواقع الأخرى التي تمكنوا منها وأن هناك تراجعًا في مواقفهم، لكن مع ذلك حصلت أحداث مأسوية، قتل فيها ما يقارب من مائتي مواطن تركي في مواجهات عشوائية مع العسكر، بعد قليل تناقلت وسائل الإعلام أنباء بأن طائرات تقصف مجلس الشعب التركيّ (البرلمان)، وكذلك سقطت بعض القنابل في حديقة القصر الجمهوري!! ما زاد المشهد احتقانًا ودموية.
بدا خلال ساعات قليلة بأن المحاولة الانقلابية فشلت.. وأعلنت القنوات التليفزيونية بأن طائرة الرئيس أردوغان حطت في مطار “أتاتورك” بإسطنبول ومقاتلات الانقلابيين تطير في سماء إسطنبول في ارتفاع منخفض وأنه سيعقد مؤتمرًا صحفيًّا بعد قليل.
من وراء الانقلاب؟
كان أردوغان هادئًا جدًّا، يجاوره صهره “برات أَلْبَايْرَاقْ”وزير الطاقة بوجه مبتسم، جلس على المنصّة، تركزت عليه عدسات الكاميرات المحلية والعالمية جميعًا تنتظر كلماته الأولى وتقييمه لما وقع، ذكر في بداية كلمته أن هذه المحاولة كانت “فضل من الله” وجاءت في وقتها لتصفية الجيش من عناصر “الكيان الموازي”، وألصق محاولة الانقلاب مباشرة بـ”الكيان الموازي”، واتهم المفكر والداعية فتح الله كولن المقيم في “بنسلفانيا” بالولايات المتحدة الأمريكية بتدبير هذا الانقلاب، وأضاف أنه كان يقول إن هؤلاء -ويقصد حركة الخدمة- منظمةٌ إرهابيةٌ، لكنه لم يستطع أن يقنع أحدًا بذلك، لكن مع هذه المحاولة ثبت بالدليل القاطع أنهم منظمة إرهابية ومسلحة كذلك!؟ وسيتم اجتثاثها من أجهزة الدولة تمامًا، إضافة إلى مصادرة كل ممتلكات المنتمين إليها في كل أنحاء تركيا، وإغلاق مؤسساتهم جميعًا، وملاحقتهم في كل أنحاء العالم حتى لا يبقي أحدٌ منهم على وجه الأرض.
الانقلاب المضادّ وحجم التصفيات
وفي صباح اليوم التالي [(16 يوليو/تموز 2016] بدأ ما يمكن أن يسمى بـ”الانقلاب المضادّ”، لكن هذه المرة على يد مدنيّين منتخبين وبشراسة لا تقل عن شراسة الانقلابيّين العسكرييّن، بل ربما تفوقت عليهم في كثير من النواحي.
بدأت تصفيات واعتقالات وإقالات مروعة منذ فجر اليوم، سواء داخل أجهزة الدولة أو في المجال المدنيّ المجتمعيّ تجاوزت مائة ألف حالة خلال عشرة أيام نورد بعضها فيما يلي:
- ٦٠٣٨ جنديا وضابطا، ونحو ١٣٠ جنرالا
- ٤٥ ألف معلم
- ٩ آلاف موظف في وزارة الداخلية بينهم مدراء أمن
- ٣٠ حاكمًا إقليميًّا، وإداريون وبيروقراطيون من مستويات عالية
- ٥ آلاف موظف يعملون في قطاع الصحة من أطباء وممرضين
- نحو ٣ آلاف قاض ومدع عام
- ١٥٧٧ عميد كلية
- ١٥٠٠ موظف من مستويات مختلفة في وزارة المالية
- ٦٠٠ موظف في وزارة الأسرة
- ٣٧٠ موظفا في قناة “تي أر تي” الحكومية
إضافة إلى طرد وإيقاف الكثيرين من وزارات أخرى.
أما في الجانب المدني والمجتمعي فالصورة لا تختلف كثيرا؛ فقد أغلقت:
- ١٠٤٣ مدرسة خاصة
- ١٥ جامعة
- ١٢٢٩ جمعية خيرية
- ١٩ نقابة عمالية
- ٣٥ مؤسسة طبية ومستشفيات ومصحات
- ٣ وكالات أنباء
- ١٦ قناة تلفزيونية
- ٢٣ محطة إذاعية
- ٤٥ صحيفة
- ١٥ مجلة
- ٢٩ دار نشر
والقائمة تمتد يومًا بعد يوم ويضاف إليها تصفيات أخرى، أضف إلى ذلك اعتقال مئات من الشخصيات الأكاديمية وعشرات الإعلاميين والصحفيين ورجال الأعمال المعروفين في تركيا.
وسط هذا الجو الضبابيّ المحتقن تم إعلان “حالة الطوارئ” في تركيا لمدة ثلاثة أشهر، بالإضافة إلى “تعليق العمل بالاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان”. بدا -فعلًا- كما قال السيد أردوغان ورئيس الورزاء “بِنْ عَلي يِلْدِرِيمْ” كل شيء تحت السيطرة، بدا وكأن أردوغان وقياداته كانوا مستعدين سلفًا لما سيقومون به اليوم، فها هي قوائم التصفيات جاهزة وها هي الخطّة تُنفّذ باحترافية منقطعة النظير مصحوبة بحملة ضخمة من مناورات الحرب النفسية عبر وسائل الإعلام المكتوبة والمرئية والتي لا تقل خطورة في آثارها التخريبية عن أسلحة الدمار الشامل.
موقف فتح الله كولن
فتح الله كولن، العالِم والمفكر القابع في معتكفه في ولاية “بنسلفانيا”بأمريكا بادر إلى إدانة الانقلاب في لحظاته الأولى بشدة، كما أدانته جميع وسائل الإعلام الموالية لحركة الخدمة فور وقوعه، إضافة إلى جميع المؤسسات المدنية والشخصيات والرموز المحسوبة على الخدمة، ولكن هذه الإدانات المتوالية لم تنقذه وحركته من اتهام أردوغان وقيادات العدالة والتنمية له بأنه الرجل الأول الذي دبّر كل هذا الانقلاب الفاشل!؟ فهو المجرم الأعظم الذي أراد تدمير البلد من خلال رجالاته المتمركزين في الجيش على حد تعبير أردوغان.
هذه لم تكن المرة الأولى التي يتعرض فيها كولن لمثل هذه الاتهامات من قِبل الرئيس أردوغان، بل منذ سبتمبر 2013 وأردوغان يُمطره بسيلٍ من الاتهامات المماثلة عبر كافة وسائل الإعلام الموالية له وفي جميع اللقاءات الجماهيرية، إنه يتعرّض لهذه الهجمة الشرسة منذ أن اندلعت فضائح الفساد في سبتمبر (٢٠١٣) وتورّط فيها بعض وزرائه وأبناء وزرائه وبعض أقاربه.. منذ ذلك الوقت وكولن “رجلٌ انقلابيٌّ”، و”زعيم الإرهابيين”، ومحبوه “منظمة إرهابية”، والمؤسّسات المدنية والتربوية التي أسّسوها داخل تركيا وخارجها “معاقل للإرهابيين”!؟
أردوغان يحاول منذ ثلاث سنوات أن يقنع المجتمع التركي والرأي العامّ العالمي بأن كولن ومشروعه ومؤسساته ومحبيه عين “الإرهاب” دون أيّ جدوى.. فالعالم كله يشهد للأستاذ كولن بأنه داعية سلام، ويشهد للمؤسسات التربوية التي حثّ على بنائها بالتألق والنجاح، بل ويعتبرها فرصة تاريخية ينبغي الاستفادة منها لنشر روح السلام والأخوة الإنسانية والتعايش السلميّ في الأرض.. لكن ها هو أردوغان يجد فرصة ذهبية لكي يثبت للعالم ادّعاءه، ها هو أردوغان تسنح له لحظة تاريخية ليصيب خصمه في مقتل؛ “فتح الله كولن هو زعيم الانقلابيين”!
التقى الأستاذ كولن مع كبرى وسائل الإعلام العالمية في مؤتمر صحفي وأجاب على جميع التساؤلات.. بدا هادئًا مطمئنًّا واثقًا من نفسه.. كان واضحًا في إدانته للانقلاب، كيف لا وهو الذي كان المستهدف دائمًا في الانقلابات الأربع التي وقعت في تركيا سابقًا.. فهو يعرف ما تخلّفه الانقلابات من دمار نفسيّ ومادي ومجتمعيّ وسياسيّ.. في لقائه أكد على الخط الذي انتهجه منذ بداية حياته، وهو البناء والعمل الإيجابيّ والابتعاد عن العنف والإرهاب تمامًا.. تحدث عن الثمن الباهظ الذي دفعه جراء التزامه بهذه المنهج في الرؤية والحركة.. ورَفَضَ جميع التهم، ولم يكتف بذلك بل وتحدى الاتهامات الموجهة إليه بثقة في النفس عالية، ودعا إلى التعامل مع الحدث بشفافية مطلقة، وطالب بتشكيل لجنة تحقيق دولية تكشف حقيقة ما وقع في تركيا، وأكد بأنه سيرضى بالقرار الذي تتخذه تلك اللجنة مهما كان، مؤكدًا أنه سيمد عنقه إلى حبل المشنقة طوعًا إن استطاعوا أن يثبتوا ضلوعه في الانقلاب الفاشل.. منذ تلك التصريحات والأنظار موجهة إلى جبهة الادعاء، جبهة أردوغان في انتظار تجاوب ما.. إلى حد اللحظة لم يتم أيّ تجاوب من أردوغان وقياداته مع هذا الطلب رغم إلحاح الأستاذ كولن على ذلك في حواراته مع وسائل الإعلام العالمية الأخرى.
تساؤلات مثيرة
حجم التصفيات التي قام بها أردوغان سواء في جهاز الدولة أو المجتمع المدنيّ أثار العديد من التساؤلات لدى الرأي العام العالمي، منها على سبيل المثال:
- هل يمكن أن يكون الرئيس أردوغان هو من دبر المحاولة الانقلابية الفاشلة حتى يحصل على الذريعة التي يحتاج إليها للانقضاض على الجيش والقضاء بالأخص، ومؤسسات الدولة الأخرى يصفي منها من لا يروق له ويعيد هيكلتها من جديد كما يريد؟
- هل يمكن أن يدبر أردوغان هذا الانقلاب الفاشل لينقض على جميع مؤسسات الخدمة، يغلقها وينكل بها، ويعتقل جميع من ينتمي إليها، ويلاحقهم ويطاردهم ويرهبهم ويقحمهم في حرب نفسية لا هوادة فيها؟
- هل يمكن أن يكون أردوغان قد دبر الانقلاب ليقنع العالم فيما فشل فيه سابقًا من أن حركة الخدمة منظمة إرهابية خطيرة، فينجح في إغلاق مؤسساتها من مدارس وجامعات ومؤسسات خيرية وثقافية في أكثر من مائة وخمسين بلد؟
- هل يمكن أن يكون أردوغان دبر هذا الانقلاب ليغلق مجموعة من الملفات التي كادت تخنقه، ويُنسي الجماهير بعض القضايا التي مست كاريزمته الشعبية مؤخّرًا، منها مثلًا:
- ملف فضائح الفساد التي تورط فيها بعض وزرائه وأقربائه في ١٧-٢٥ ديسمبر (٢٠١٣).
- ملف دعمه لبعض التنظيمات الإرهابية في سوريا والعراق وعلى رأسها داعش.
- ملف تطبيع العلاقات مع إسرائيل.
- موضوع الاعتذار إلى “بوتين” والمصالحة مع روسيا.
- موضوع التفاوض مع بشار الأسد في حل الأزمة السورية.
- الفشل في تسوية الصراع مع حزب العمال الكردستاني وتحويل مدن جنوب شرق تركيا إلى ساحة حرب دموية.
- العلاقات التجارية والسياسية المثيرة للتساؤلات مع “إيران”.
- الفشل الأمني في مكافحة الأعمال والتفجيرات الإرهابية التي زعزعت أمن البلد ووضعت قيادة أردوغان في موضع النقاش.
- الأزمة الاقتصادية التي بات المواطن العادي يشعر بلفحاتها والتي باتت تنذر بقدومها.
- ملف “رضا ضراب” الذي أصبح بين يدي المحاكم الأمريكية والذي يمس أقارب أردوغان مباشرة.
- الشكوك التي أثيرت حول شهادة أردوغان الجامعية والنقاشات التي دارت حولها.
هذه وأمثالها من الملفات والقضايا تبخرت في الهواء فجأة بعد محاولة الانقلاب الفاشلة، وعاد أردوغان بطل الشعب العظيم، هل يمكن أن يكون الانقلاب تم تدبيره للتعتيم على كل هذه الملفات وترسيخ مكانة أردوغان في تركيا، وتعبيد الطريق أمامه لكي يحقق مآربه بأريحية منقطعة النظير؟
تلك تساؤلات في محلها طرحتها وسائل إعلام غربية وعربية وعالمية أخرى، وسألها سياسيون ومفكرون وصحفيون من كل أنحاء العالم.. تلك أسئلة سيظل العالم يسأل عنها إلى أن يجد لها إجابات مقنعة شافية:
- كيف تم إعداد قوائم التصفيات والاعتقالات بهذه السرعة الفائقة؟
- هل كانت تلك القوائم جاهزة سلفًا وتنتظر فرصة سانحة للإجهاز عليها؟
- ثم هناك سؤال آخر ملح، لقد سبق أن قال رئيس الوزراء “بِنْ عَلي يِلْدِرِيمْ” ووزير العدل “بكير بُوزْدَاغْ” والرئيس أردوغان نفسه بأن المتمردين مجموعة محدودة من الجنود، إذن ما الداعي لإقالة نصف جنرالات الجيش وآلاف من الضباط؟
- ثم ما علاقة ٣ آلاف قاض ومدع عام بالانقلاب؟ كيف عرفتم صلتهم بالانقلاب بهذه السرعة؟
- ما علاقة ما يقارب من ٥٠ ألف معلم طُردوا من وظائفهم بالانقلاب؟
- ما علاقة ٦ آلاف موظف صحي وطبيب؟
- بل ما علاقة ٩٤ حَكَم كرة قدم بالانقلاب؟
- ما علاقة ألف مدرسة خاصة مع مدرسيها وتلاميذها وأولياء أمورها بالانقلاب؟
- ما علاقة أكثر من ألف جمعية خيرية بالانقلاب؟
أسئلة كثيرة لا تجد لها إجابات مقنعة.
تساؤلات عن الانقلاب
ثم هناك تساؤلات عن محاولة الانقلاب نفسها، هل كانت محاولة حقيقية أم مسرحية مصطنعة تمهد لانقلاب حقيقيّ ينطلق صبيحة يوم ١٦ يوليو/تموز (٢٠١٦)؟ إذ عوَّدَنا الانقلابيون في عرفِ الانقلابات حيثما وقعت في شتى أنحاء العالم:
- أن يقوموا بالانقلاب قرابة الفجر حيث الناس نيام، وليس في التاسعة والنصف مساء حيث ساعة الذروة كما حصل في تركيا.
- أن يبادروا أولًا إلى اعتقال قيادات الدولة مثل الرئيس ورئيس الوزراء والوزارء… إلخ، بينما في المحاولة المريبة كان الرئيس حرًّا طليقًا، ورئيس الوزراء في استوديو إحدى القنوات الإخبارية على الهواء مباشرة، إضافة إلى وزراء آخرين برزوا في قنوات تلفزيونية متعددة أثناء المحاولة، يشحنون الشعب ويعبئونه كما يريدون.
- أن يغلقوا المحطات التلفزيونية ويحكموا سيطرتهم عليها، بينما في المحاولة التركية ظلت جميع القنوات الموالية للحكومة تواصل نشاطها بحرية كاملة ما عدا قناة تي أر تي الحكومية.
- أن يغلقوا شبكات الاتصال والهواتف والإنترنت حتى يمنعوا جميع أنواع التواصل في البلد، لكنهم لم يفعلوا ذلك أيضًا.
- أن يملؤوا الشوارع والساحات الكبرى بالدبابات والمعدات العسكرية والجنود قبل أن يصحوَ الناس من نومهم، فإذا استيقظوا وجدوا أن الانقلاب قد تم فعلًا؛ وليس كما حصل ليلة ١٥ يوليو في ساعة الذورة مع خروج عدد قليل من الجنود لم يتجاوز ثلاثة آلاف جندي لا يعرفون أصلًا أنهم يقومون بانقلاب، بل ظنوا أنهم خرجوا في مناورات عسكرية، إضافة إلى عدد صغير من الدبابات والمقاتلات الحربية التي شاركت في المحاولة.. وإذا ما قورن هذا العدد بحجم القيادات التي تمت تصفيتها من الجيش فيحق للسائل أن يسأل: “إن كان نصف جنرالات الجيش متورطين في محاولة الانقلاب، فأين جيوشهم وأين دباباتهم وأين طائراتهم أثناء الانقلاب؟” أم نحن أمام سيناريو آخر.
نعم تساؤلات كثيرة تُطرح للنقاش.. على سبيل المثال هل كان المسؤولون على علم بمحاولة الانقلاب؟ إن كانت الإجابة “لا” فهي كارثة تدل على عجز استخباراتي ذريع.. وإن كانت الإجابة “نعم”، فتلك كارثة أخرى، إذ لماذا لم يقبضوا على المسؤولين الانقلابيين قبل وقوع المحاولة حقنًا لدماء الأبرياء؟
ثم تناقضت تصريحات السيد أردوغان في هذه النقطة بالتحديد، ما أثار شكوكًا وأسئلة عديدة، حيث صرّح في إحدى القنوات بأنه كان على علم بتحرك عسكريّ في الساعة الرابعة مساء، ثم صرح في قناة أخرى بأنه علم بالمحاولة في الساعة التاسعة والنصف، ثم قال بأن رئيس المخابرات لم يخبره، ثم قال بأنه علم بالانقلاب من صهره.
أيّا كان ما وقع، سواء كانت مسرحية تم أداؤها باحترافية عالية، أو كانت أغبى محاولة انقلاب في التاريخ، فالمؤكد أنها منحت أردوغان فرصة ذهبية لينقضّ على جميع معارضيه -وعلى رأسهم حركة الخدمة- بقبضة من حديد، ينكّل بهم ويصفّي حساباته معهم دون أن يجرؤ أحد على مساءلته، وكذلك تمكن من قطف “الفواكه المحرمة” التي يستحيل عليه لمسها في مناخ ديمقراطي مثل مؤسسة الجيش والقضاء بمنتهى الحرية، ويعيد هيكلتها من جديد؛ بل عثر أردوغان على فرصة ذهبية ليعيد هيكلة بنية الدولة بكل مؤسساتها كما يريد.
وهل يمكن لأحد أن ينتقده أو يعترض عليه في مثل هذا الظرف؟ بالتأكيد لا، إذ من تُسول له نفسه ذلك، فسوف يجد نفسه موصومًا بتهمة “الكيان الموازي” أو “الانقلابي” وبالتالي يتعرض للإقالة والطرد من الوظيفة والاعتقال لمدة لا يعلم مداها إلا الله.
علاقة الانقلابيين السابقين
ثم ما علاقة الانقلابيين السابقين من جماعة ” أَرْجَينَكُونْ”[1] وجنرالات و”بَالْيُوزْ (المِطرقة)”[2] الذين حوكموا ما بين (٢٠٠٧م) إلى (٢٠١٠م) ثم ثبتت جرائمهم وحُكم عليهم بالسجن، ثم تم إطلاق سراحهم من قِبل أردوغان عقب اندلاع فضائح الفساد التي تورط فيها بعض وزرائه والمقربين منه بناء على تحالف جديد تم بينهم وبين أردوغان؟
ما دور تلك العصابات العميقة والكيانات الموازية الحقيقية؟ هل لهم يد فيما وقع؟
الغريب أنه عندما أُعلن عن قائمة القادة الذين اعتُقلوا عقب محاولة الانقلاب تبيّن أن معظمهم من رجالات جماعة أرجينكون الانقلابية، ولم يثبت انتماء أحد من المعتقلين لحركة فتح الله كولن إلا أربعة أسماء انتزعت منهم الاعترافات بعد تعرضهم لعملية تعذيب مروعة، فما قيمة تلك الاعترافات وما مدى صحتها؟ والأغرب من ذلك أن الأسماء الجديدة التي احتلت مناصب القيادات العسكرية المطرودة هم من منظمة أرجينكون كذلك؟ فما تفسير ذلك؟
من جانب آخر فإنك تلاحظ القصة نفسها في القضاة الذين تم اعتقالهم والزجّ بهم في السجون، تلاحظ أنهم هم القضاة الذين حاكموا جنرالات أرجينكون سابقًا وحكموا عليهم بالسجن.. كما تلاحظ أن القضاة والمدعين العموم الذين أبعدوا من وظائفهم سابقًا لصلتهم بجماعة أرجينكون وجنرالات المطرقة تمت إعادتهم -بعد التصفيات الأخيرة- إلى وظائف عالية في القضاء، فما معنى ذلك؟
وسط الصخب المتعالي والغبار الثائر يبدو أن الصورة ستبقى غائمة بعض الشيء فترة أخرى، لكن كلما انقشع الغبار ستظهر الحقيقة أكثر جلاء، ويتمكن الرأي العامّ التركيّ والعالميّ من معرفة ما حصل في ليلة ١٥ يوليو/ تموز المشؤومة ورؤية الصورة المكبّرة لما حدث.
رِهان أردوغان
يبقى السؤال الكبير وسط هذا المعركة المحتدمة “هل حركة الخدمة حركة إرهابية فعلاً؟ وهل الأستاذ فتح الله كولن زعيم إرهابي؟” أسئلة تحتاج إلى إثبات. ولا يبدو ذلك سهلا أبدا.
أردوغان يدعي ذلك منذ اندلاع فضائح الفساد في سبتمبر (٢٠١٣). أمّا قبل ذلك التاريخ فالأستاذ كولن في نظر أردوغان وقيادات العدالة والتنمية هو العالم المربي والمفكر الحكيم، أما حركة الخدمة فهي التجربة الرائدة في العمل الاجتماعي الحضاريّ.
أردوغان اختار أن يراهن على فكرة “أرهبة” الخدمة، فرتب كل أوراقه وفق هذا الرهان بعد فضائح الفساد حيث غير خطابه، وبدل إستراتيجياته، وجدد حلفاءه، ونظم صفوف أنصاره وعبأهم طبقًا لتلك المقولة.. لا شك أن ورقة “أرهبة الخصم” ورقة رابحة وسهم قاتل إذا أصاب هدفه.. ولكنه سهم خطير في الوقت نفسه، إذ من طبيعة هذا السهم أن يرتد إلى صاحبه ويرديه قتيلًا إذا أخطأ الهدف.. فأردوغان إذا أراد أن ينتصر في معركته الخطيرة تلك، يجب أن يثبت أن الأستاذ فتح الله كولن إرهابي وأن حركة الخدمة إرهابية، وإلا فسوف يتكبد خسارة كبيرة سواء في الداخل أو في الخارج، ولن يجد أرضًا تقله أو سماء تظله.. فهو اختار أن يخفي جميع انتهاكاته وجرائمه تحت غطاء “أرهبة” الأستاذ كولن وحركة الخدمة.. فإما أن يقنع الشعب التركي والمجتمع الدولي بذلك، أو يفقد مصداقيته تمامًا وتتناثر كل جرائمه هنا وهناك، فيُفضح أمام العالمين.
- فهل تمثيلية الانقلاب -إذا صح أنها تمثيلية وليست انقلابًا فاشلًا- هي السهم الأخير الذي تبقى في جعبة السيد أردوغان فرمى به قائلا “ليكن ما يكون”؟
- هل سيصيب السهمُ خصمه أم يرتد إلى صاحبه؟
- هل الأستاذ فتح الله كولن زعيم عصابة إرهابية خطيرة؟
- وهل أبناء الخدمة إرهابيون؟
- هل سيتمكن أردوغان من إقناع العالم بذلك؟
- إلى أين تسير تركيا؟ إلى أين يسير أردوغان بتركيا؟
- ما تأثير ذلك على المنطقة العربية، سوريا، العراق، اليمن، ليبيا، مصر، إسرائيل وفلسطين؟
- ما تأثير ذلك على علاقة تركيا بالاتحاد الأوربي وأمريكا وروسيا؟
- هل تعود تركيا ديمقراطية كما كانت؟
- هل يمكن أن تكون نموذجًا كما كانت في السابق؟
- ما مستقبل حركة الخدمة؟
- ماذا ستفعل في ظل الضغوطات التي تتعرض لها؟
أسئلة صعبة لا شك في ذلك، وهي أسئلة لا تزال عالقة، ولكن يبدو أن الزمان كفيل بأن يزيل اللثام عن إجاباتها.
[1] أَرْجَنَكُونْ (Ergenekon)”: وهي منظمة سرية تُتَّهم بقيامها بعمليات إرهابية وباغتيالات وتفجيرات وزرع عبوات ناسفة في المدن التركية ومحاولة تنظيم انقلاب على الحكومة وتتعاون مع منظمات ودول خارجية لزعزعة النظام في تركيا، تطلق عليها الدولة العميقة، وبدأ أول تحقيق مع أعضاء المنظمة عندما ضُبِطوا وفي حوزتهم (27) قنبلة يدوية في أحد المناطق العشوائية في إسطنبول يوم 12 حزيران/يونيو (2007م).
[2] “بَالْيُوزْ (Balyoz) (المِطرقة): هو خطة انقلاب عسكري مزعومة لجماعات علمانية في الجيش التركي، وقيل أن التخطيط له بدأ في (2003م) أول ما ظهرت التقارير عن خطة الانقلاب في جريدة “طرف ( Taraf)” التركية -ذات التوجه الليبرالي- التي قالت إنها اكتشفت وثائق فيها تفاصيل خطة لتفجير مسجدين في إسطنبول واتهام اليونان بإسقاط طائرة تركية فوق بحر “إيجه” بهدف خلق البلبلة وتبرير الانقلاب العسكري، وقيل إنها سيناريوهات تدريبية للجيش ضمن عرض عسكري.
https://www.youtube.com/watch?v=l-FOg0jgwMs