جعفر گوانی
حينما كنت أتحرّق ألما ممّا يجري في تركيا من قصف المدن وهدم المنازل في جنوب شرق تركيا ونزوح أهاليها ونشوء شرخ اجتماعي لا يسد، سمعت بنشر تقرير مؤسّسة الشّؤون الدّينية التركية خلال اجتماع ردّد فيه العلماء الحاضرون كلمات رجال السيّاسة بثوب ديني.
واطّلعت على التّقرير الصادر بحقّ حركة الخدمة وملهمها الداعية فتح الله كولن، وشعرت بصدمة مقيتة، إذ الإنسان يشمئزّ من مجرّد الحديث عمّا حواه التّقرير من التكفير والرمي بالضّلال والرّدّة ووصف الأستاذ كولن باتّهامات مسيّسة من الكفر والرّدّة والعمالة، وهذا كان أكثر ما أخاف منه، فقد لجأت هذه المؤسّسة إلى سلاح الحركات المتطرّفة من التّكفير ورمي المخالفين بالضّلال والرّدّة، واستغلال أهل العمائم لذلك، وبمعنى آخر توظيف الدّين ومؤسّساته لأغراض سياسية، وكان توقّعي أن يرفض رئيس الشّؤون الدّينية مثل هذا الطلب الخطير ويثبت أنّ مؤسّسته مستقلّة وليست بيدقا بيد السّلطة، ولاسيّما بعد استجابة كولن لمحاكمة دولية مستقلّة، وتصريحه أنّه مستعدّ للذّهاب إلى المشنقة في حال إثبات مجرّد علمه المسبق بالانقلاب؟ّ! وفَتَحَ الباب أمام اللجنة البرلمانية التركية كي تحقّق معه مباشرة.
ولست هنا في موقع الدّفاع عن أحد، لكنّني ممّن قرأوا جميع الكتب المترجمة إلى العربيّة للأستاذ كولن، وطالعتها بتمعّنٍ ودقّة ووقفة، فهي مليئة بالمعرفة والسّلوك والأخلاق الفاضلة، وكلّ من يقرؤها بقلب صافٍ لا يسعه أن يفكّر في إيذاء نملة، ولايسمح لنفسه بأن يفرّق بين إنسان وآخر ناهيك عن أن يلجأ إلى الإرهاب وقتل النّاس والتّخريب، ومن نشأ في ظلال هذا الفكر يكون متعلّماً لا يعرف إلاّ الإيجابيّة، ولايرى إلاّ المحبّة والأخوّة والتّفاني في العمل.
أمّا الأستاذ كولن فاتّهامه بالإرهاب والتّكفير والمهدوية يجعل العاقل حيرانا، إذ الباحث عن الحقيقة لا يحتاج إلى البحث عن محاضرات قيلت في سبعينيات القرن الماضي، ثمّ تمزيقها بما يوافق طلب السّلطة، فالكتب موجودة بشتّى اللّغات، (وأتمنّى أن يقرأها القارئ العربي)، فهو أكثر النّاس بعدا عن الإرهاب، لأنّه بعزمه المضي قدما على درب سعيد النّورسي تحت نور الإسلام اتّخذ لنفسه منهجاً واضحاً يبتغي فيه لنفسه والنّاس الهداية لا غير، وإذا كان عدد من حاملي الفكر الإسلامي متردّدين في إدانة الإرهاب والإرهابيين في بداية ظهور الحركات المتشدّدة فقد كان موقفه واضحا منذ اللحظات الأولى ولم يتغيّر، والعالم بفكره لايمكن ان يتقبّل هذه الإدّعاءات.
ووالله إنّ قلبي يعتصر ألما وحزنا لقدومكم أهلَ العلم والعمائم إلى درب التّكفيريّين والحركات المتطرّفة، وإحناء رؤوسكم لتوظيف الدّين جسراً للمطامع السّياسية، وإهداركم أرواح آلاف الأبرياء، واستباحتكم الدّماء والأموال والأعراض دون محاكمة، ومغالاتكم في ذلك، ووضعكم بذلك لَبِنَات الحقد والكراهية، وبهذا أعاد التّاريخ نفسه، انظروا إلى كلام المودودي رحمه الله متحدّثا عن بدايات الخلاف بين المسلمين: (نتيجة لهذه الأسئلة ولدت بعض النظريات المستقلة بذاتها، كانت في أصلها نظريات سياسية خالصة، ثم ما لبث دعاتها أن اضطروا شيئاً فشيئاً لأن يرتبوا لها بعض الأسس الدينية، كي يقووا جانبهم ويحصنوا موقفهم، فتبدلت الفرق السياسية رويداً رويداً إلى فرق مذهبية، وما حصل في البداية من قتل وسفك دماء، واستمر بعد ذلك في عهد بني أمية وبني العباس فلم تبق القضية قاصرة على مجالات العقيدة والفكر وإنّما ظهرت فيها الشّدّة والحدّة الّتي عرضت وحدة المسلمين الدّينيّة للخطر الشّديد.. وظهرت الفرق ويا ليت الأمر اقتصر على ظهور التّعصّبات بين هذه الفرق وبعضها وإنّما وصلت الطّامّة إلى حدّ المعارك والاقتتال.. حتّى استخدموا أشدّ أنواع التّنكيل ضد مخالفيهم).
رجاء لا تقحموا المؤسّسات الدّينية في هذه الصراعات واجتنبوا مستنقعات التكّفيريّين، واتّقوا الله من تكفير المسلمين، أما سمعتم قول الرّسول الأكرم: (أَيُّمَا رَجُلٍ قالَ لأَخِيهِ: يا كافِرُ؛ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُما)، (وَمَنْ دَعَا رَجُلًا بِالْكُفْرِ أَوْ قَالَ عَدُوَّ اللَّهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِلَّا حَارَ عَلَيْهِ).