بقلم: يافوز أجار
يشير المحللون والمراقبون إلى أن الرئيس رجب طيب أردوغان بصدد حياكة مؤامرة جديدة ضد حركة الخدمة تتكون من عنصرين رئيسين؛ أولهما تدبير انقلاب مزيف جديد، وتقديم الخدمة كمسؤولٍ عنه لتبرير عملية الإبادة الجماعية التي يتحدث عنها مؤيدوه؛ وثانيهما تحريك آلة الدعاية السوداء من أجل تجريح الخدمة دينياً وعقائدياً في عرض العالم الإسلامي وطوله، وذلك من خلال توظيف رئاسة الشؤون الدينية بهذا الأمر.
لقد تمكّن نظام أردوغان من إغلاق جميع المؤسسات التعليمية والخيرية والاقتصادية التابعة لحركة الخدمة، وحظر كل أنشطتها في الداخل التركي، بفضل “الهدية الإلهية” (!) التي تمثلت في محاولة الانقلاب الأولى، التي دبرها بالتعاون مع أركان شبكة أرجينيكون أو الدولة العميقة في تركيا، والتي استطاع في ظلها أن يتخذ “خطوات لم يكن ليتخذها في ظل الظروف العادية”، كما عبر عن ذلك بنفسه. لكن يبدو أن كل هذه الأمور الفظيعة لم تروِ غليله ولم تشبع نهمه، فأخذ يخطّط لمحاولة انقلاب مزيفة جديدة، مثل الأولى، لكي يطلق الرصاصة الأخيرة على أبناء حركة الخدمة، ويتخلّص منهم نهائياً.
ولعلّ التصريحات التي تفلتت من لسان أردوغان، والتي قال فيها “كما تعلمون، فإننا وضعنا فاصلة، ولم نضع بعدُ النقطة، فاستعدوا للاستشهاد”، في إشارة منه إلى استمرار مكافحة ما يسميه “منظمة فتح الله غولن الإرهابية”، كانت الإشارات الأولى للشروع في هذه المحاولة الثانية.
الحاجة إلى محاولة انقلاب جديدة
قد يتساءل المتعجلون ويقولون “ما حاجة أردوغان إلى محاولة انقلاب مفبركة جديدة، بما أنه في الوقت الراهن قد حبس المعارضين كافة، وأغلق جميع وسائل الإعلام الحرة، وأحكم سيطرته على كل أجهزة الدولة ومفاصل الحياة الاجتماعية، ويستطيع القيام بما يريده دون حسيب أو رقيب”.
الواقع أن أردوغان بعد تورطه في فضائح الفساد والرشوة، وتعاونِه مع الإرهابيين، وممارسةِ كل أشكال الظلم والانتهاكات، سلك طريقاً بدراجة هوائية يقودها على خطٍّ ضيّقٍ جداً ومحفوفٍ بالمخاطر من جانبيه، لذلك يشعر بضرورة الضغط على دواستها بصورة مستمرة ومتزايدة حتى لا تتوقفَ عجلتها فيَقَع ويهلكَ.
إنه يحاول منذ فضائح الفساد والرشوة في 2013 إقناع الرأي العام في تركيا والعالم أجمع بأن حركة الخدمة “كيان موازٍ” تغلغل أعضاؤه في كل أجهزة الدولة، ويسعى بشتى الطرق لعرقلة عمل الحكومات المدنية. ثم دخل مرحلة جديدة بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة وراح يتهمها بالوقوف وراءها ويزعم بأنها “حركة إرهابية مسلّحة”.
ورغم أن الشعب التركي يبدو أنه بدأ يعتقد بصحة مزاعم أردوغان هذه بدرجة معينة، في ظل حملة الدعاية السوداء العملاقة، لكن “العالم الحر” لا يصدّق أياً منها، بل يرى ويعلن أنه مَنْ دبّر مؤامرة الانقلاب من أجل عسكرةِ الأجواء وتسميمِها واتخاذِها ذريعةً لتنفيذ مخططاته المشؤومة.
هذا من ناحيةٍ، ومن ناحيةٍ ثانية، فإن معظم أفراد الشعب التركي، بما فيهم الموالون لأردوغان، باتوا لا يرون معنىً ومبرّراً لتوسُّع دائرة الإقالات والاعتقالات لتشمل المسنّين والأمهات حتى الأطفال وأناساً أبرياء لا يمتّون بصلةٍ إلى حركة الخدمة، كما لا يسوِّغون عمليات التعذيب التي تمارس في السجون.
ومن ناحيةٍ ثالثة، يلاحظ أردوغان أن الناس الذين اغتصبت حقوقهم، وفي مقدمتهم أبناء الخدمة، يلجؤون إلى المحاكم المحلية والدولية لاستراداد حقوقهم المسلوبة، ما يجعل “وجودهم” مشكلة مستمرة بالنسبة له يجب حلّها بـ”شكل نهائي”.
فهذه الأسباب الثلاثة تدفع أردوغان إلى حياكة سيناريو انقلاب جديد مع حلفائه من الدولة العميقة، لكي يخلق “المبرر”، ويقدمه للشعب التركي والمجتمع الدولي، إلى أن يستكملَ الإبادة الجماعية التي يمارسها ضد أفراد حركة الخدمة ويضعَ “النقطة النهائية” لهذا الأمر.
دلائل التحضير لموجة انقلابية مفبركة جديدة
إن ما أشار إليه المحللون من تفكير الحكومة في صناعة محاولة انقلابية جديدة واتخاذها ذريعة للتخلص من الخدمة بشكل نهائي يسنده على مسرح الأحداث عديدٌ من الإشارات والدلائل، منها:
– مطالبة وزارة العدل التركية الولايات المتحدة الأمريكية باعتقال الأستاذ فتح الله كولن بحجة أنه يجهّز لمحاولة انقلاب ثانية!
– كذلك التصريحات المريبة التي أدلى بها العقيد المتقاعد حسن آتيلا أوغور، وهو الشخص ذاته الذي أخبر عن وقوع محاولة الانقلاب الأولى قبلها بأسبوعين لصحيفة يني شفق؛ إحدى الصحف التابعة لأردوغان: “استعدوا لمحاولة انقلاب ثانية ستقودها منظمة فتح الله كولن أيضاً. في وقتٍ قريب جداً. وأقول استناداً إلى معلومات صحيحة جداً: هذه المحاولة الثانية ستكون أكثر دموية من سابقتها. وستنطلق خلال مدة أقصاها شهر نوفمبر / تشرين الثاني المقبل”. وأعطى بعد ذلك تفاصيل مذهلة عن خطة الانقلاب وكأنه هو من وضعها بحذافيرها! ومن ثم اقترح طريقةً لإفشال هذه المحاولة ألا وهي: عملية تطهير شاملة جديدة في أجهزة المخابرات والأمن والجيش وحتى بين الحراس المشرفين على حماية السجون!
– دعوة إبراهيم كاراجول، رئيس تحرير صحيفة يني شفق إلى شنّ “معركة كبرى قاسية دون رحمة”، ومطالبة أنصار الحزب الحاكم بتصيُّد الناس في الشوارع من خلال “تشكيل جبهات الدفاع فرداً فرداً وبيتاً بيتاً وشارعاً شارعاً وحياً حياً وزقاقاً زقاقاً”. وهو ما يعيد إلى الأذهان تصريحات العقيد القذافي أثناء تحريضه على إبادة شعبه.
– تهديدات فاتح تزجان؛ الصحفي الشهير بأخباره المفبركة وشتائمه البذيئة التي يقول فيها: “قسماً بالله القهار! إن ما حدث ليلة الانقلاب الفاشل سيتكرر مجدداً، لكن لن تكون هذه المرة تلك الرحمة التي أبديناها لهم في هذه الليلة!”
– تحريض أحمد أوستون، أحد أنصار أردوغان عبر جسابه في تويتر على الإبادة الجماعية للمعتقلين من أبناء الخدمة في السجون التركية حيث قال: “لكي يمكن قتْلُ جميع المعتقلين المنتمين إلى منظمة فتح الله كولن فورًا، في أثناء محاولة الانقلاب الثانية، لا بد من عزلهم عن غيرهم من المسجونين الآخرين ونشرِ فرق اغتيال من القوات الخاصة في هذه السجون”.
بكل هذا الصخب والضوضاء وهذه التصريحات التهديدية يمهد أنصار أردوغان عبر وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي لانقلاب جديد ينفذون فيه مخططاتهم.
إذا علمنا أن كل الانقلابات التي دُبِّرت في الظاهر ضد أردوغان طوال سني حكمه 15 عاماً قد عادت كلها بالإيجاب لصالحه، يتبين لنا سر اعتماده على هذا النوع من الألعاب تحديداً. لقد وجد أردوغان في تجييش الشعب خلفه باتهام الخدمة بكل هذه الافتراءات لعبة ناجحة في التغطية على فساده وجرائمه.
مساعي الطعن في الاتجاه العقدي والقيمي للخدمة في العالم الإسلامي
أما العنصر الثاني في مؤامرة أردوغان الجديدة فيتمثل في توظيف مؤسسة الشؤون الدينية في زعزعة “الشرعية الدينية” لحركة الخدمة والأستاذ فتح الله كولن، والطعن في اتجاهها العقدي والقيمي، من خلال الدعاية بأنها نسخة حديثة للفرق الضالة والحركات الباطنية التي عرفها المسلمون طيلة تاريخهم، وذلك من أجل الضغط على الدول التي تستضيف مؤسسات الخدمة حتى يغلقوها، مثلما حدث في الداخل التركي، بعد فشله في إقناع العالم بإرهابية هذه الحركة. إنه يريد من رئيس هذه المؤسسة محمد جورماز و”علماء السلطة” أن يصنّفوا حركة الخدمة ضمن الفرق الضالة، ثم يقدموا للعالم الإسلامي “أدلة مفبركة” تثبت هذا المدعى، بدلاً من تصوير الحقيقة التي عليها الخدمة فعلاً.
إن المحققين من علماء الأمة الإسلامية يعلمون مدى تمسّك الأستاذ فتح الله كولن بمعايير الكتاب والسنة من خلال مؤلفاته المترجمة إلى العربية ومقالاته التي يكتبها في مجلة حراء الناطقة بالعربية وغيرها من الوسائل، لكن عامة الناس المفتقرين إلى النظرة الكلية الشاملة قد ينجرفون وراء رجال أردوغان الذين سيتوجهون حتمياً لاقتطاع واجتزاء أقوال الأستاذ، وإخراجها من سياقها وسباقها، وإفراغها في صياغة جديدة بحيث تخدم هذا الهدف البغيض، الأمر الذي يكشف عن مدى الحاجة إلى المحققين والمدققين من الباحثين والعلماء ليرسموا الصورة الحقيقية للخدمة والأستاذ كولن لدفع وردع هذه المؤامرة والفتنة الجديدة.
وإذا كان من مهمة الشؤون الدينية، وعلى رأسها محمد جورماز، البحث عن الأباطيل والضلالات، على حد زعمهم، في فكر حركة الخدمة، فأولى بهم أن يبينوا للناس آراءهم في هذه الضلالات التي تمارسها الحكومة والتي يسكتون عنها حتى الآن. ولذلك من حقنا أن نتساءل عمّا يأتي:
– لماذا تسكت رئاسة الشؤون الدينية عن سماح الحكومة التركية لإيران بنشر وترويج التشيّع في المجتمع التركي السني وفتح الباب واسعاً أمام كل الأنشطة التي تسهم في ذلك، وخاصة نشر المذهب الجعفري وجعله واحداً من المذاهب الإسلامية المعتبرة عند أهل السنة. والأدهى من ذلك إدراج مفاهيم ومصطلحات هذه الفرق في مناهج أبنائنا الدراسية، مما يفتح الأذهان على تقبلها، ومن ثم استساغتها، ومن ذلك نكاح المتعة وفرض الخمس وحق الإمامة والطعن في بعض الصحابة. وهذا كله يؤدي إلى تمزيق نسيج المجتمع السني المتآلف ووضع فخاخ مذهبية داخل المجتمع لم تكن موجودة من قبلُ. هذا فضلاً عن مئات الطلبة والطالبات الذين ترسلهم إيران إلى تركيا للدراسة في جامعاتها وتكلفهم بمهام أخرى.
– لماذا لم تندد رئاسة الشؤون الدينية بتدخُّل السلطة التنفيذية، وعلى رأسها الرئيس أردوغان في عمل المؤسسة القضائية، وإغلاقِ كل ملفات الفساد والرشوة التي تورط فيها نجل أردوغان ورجل الأعمال الإيراني الأصل رضا ضراب الذي سعى لكسر الحصار الاقتصادي المفروض على إيران من خلال عمليات غسيل الأموال.
– أين كانت رئاسة الشؤون الدينية عند إصدار البرلمان التركي الذي أغلبيته من حزب العدالة والتنمية “الإسلامي” الحاكم قانوناً عام 2005 يقضي بعدم تجريم جريمة الزنا إذا صدرت بالإرادة الحرة من قبل الطرفين. وبموجبه ليس من حق الزوج أو الزوجة إبلاغ الشرطة عن جريمة الزنا التي تتم في فراش الزوجية إذا ارتكبت بإرادة الزانيين.
– ما الذي تقوم به الشؤون الدينية للقضاء على تفشّي الرذيلة والانحلال الخلقي حتى وصل بحسب التقارير إلى ما نسبته %220. وما إجراءاتها للحد من انتشار نكاح المتعة والزواج العرفي بين الشباب والطلبة، ولا سيما “الإسلاميين” منهم، وفتوى البعض بأنه حلال على غرار ما يفتي به ملالي الشيعة.
– ما حكم الاستعانة بالتنظيمات الإرهابية مثل داعش والقاعدة وغيرهما في سبيل تحقيق أهداف السلطة في الداخل التركي وسوريا وعموم المنطقة، وإطلاق سراح عناصره، بما فيهم مسؤول التنظيم في تركيا المدعو حركياً بأبي حنظلة؟
– ولماذا لم نسمع لرئاسة الشؤون الدينية صوتاً عقب تباهي رئيس وزراء حكومة حزب العدالة والتنمية الحالي بن علي يلدريم بازدياد عدد مصانع الخمور من واحد إلى سبعة في مدينة واحدة مثل تكيرداغ إبان حكم العدالة والتنمية؟
وأخيراً وليس آخراً: نطلب من علماء مؤسسة الشؤون الدينية، وعلى رأسهم الرئيس الحالي محمد جورماز أن يفتونا في حكم هذه الأقوال عقدياً.
– “إن رحمتنا ستسبق غضبنا” (أردوغان 3 مارس/ آذار 2014)
– “أردوغان بالنسبة لنا الرسول الثاني”. (رئيس فرع حزب العدالة والتنمية بمدينة آيدين، إسماعيل حقي أسين، 14 نوفمبر/ تشرين الثاني 2009)
– “أردوغان هو زعيم استجمع كل الصفات الإلهية في شخصه”. (نائب حزب العدالة والتنمية عن مدينة دوزجه، فوائي أصلان، 16 يناير/ كانون الثاني 2014)
– (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ) هذه الآية استشهد بها نائب حزب العدالة والتنمية عن مدينة أدييمان، محمد متينار (2 يناير/ كانون الثاني 2015) أثناء ردّه على سؤال يتعلق بتوظيف أقاربه ومعارفه ومحاباتهم على ذوي الكفاءة من المواطنين الآخرين.
– “من المحتمل أن يكون الرسول (صلى الله عليه وسلم) قد أصيب بالغرور أثناء فتحه لمكة، لكننا لم يصبنا الغرور عندما ألغينا الحظر المفروض على الحجاب في الجامعات”. (وزير الداخلية السابق أفكان علاء، 14 يوليو/ تموز 2014).
وغير ذلك من الأقوال الخطيرة التي لم نسمع تعليقاً عليها حتى الآن من القائمين على الشؤون الدينية في البلاد.
إن جهود حركة الخدمة في تربية الشباب وتنشئة الأجيال على الاعتقاد الصحيح لأهل السنة والجماعة، ومنعهم من التردي في مزالق الإلحاد والوقوع فريسةً سهلة في براثن الجماعات الإرهابية المتطرفة، والعمل على تعزيز القيم الأخلاقية والإنسانية في نفوسهم، أمرٌ تشهد له أدبيات الخدمة المدونة، ويشهد له أيضاً نخبة من علماء العالم الإسلامي المعتبرين الذين اطلعوا من كثب على هذه الجهود، بل شهد له بالأمس هؤلاء السياسيون وعلماء الشؤون الدينية، وعلى رأسهم محمد جورماز الرئيس الحالي لها، قبل أن يشنّوا حملتهم التحريضية هذه ضد الخدمة بدافعٍ من الانتقام وتصفية الحسابات السياسية التي يشارك فيها للأسف هؤلاء العلماء تلبية لإرادة ورغبات السلطة. ولو كانوا منصفين حقاً لشهدوا بما علموه، بل ولاستعانوا بأبناء الخدمة للقضاء على المشاكل الأخلاقية والتربوية التي تواجهها البلاد.