كرم سعيد (*)
شهدت العلاقات التركية الأوروبية فتوراً وصل إلى حد الجمود أحياناً خلال السنوات الثلاث الأخيرة، وزاد وضع هذه العلاقات توتراً عقب محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا منتصف يوليو 2016 بسبب عدم إبداء دول الاتحاد الأوروبي حماساً لتسليم أنصار غولن أو غلق المؤسسات التعليمية التابعة لحركة “الخدمة”.
وباتت ملاحقات أنقرة المؤسسات التعليمية وعناصر “حركة الخدمة” التابعة للداعية فتح الله غولن المقيم في ولاية بنسلفانيا الأمريكية منذ العام 1999، والذي تتهمه السلطات التركية بالوقوف وراء محاولة الانقلاب الفاشلة، عاملاً من عوامل التوتر مع الدول الأوروبية التي تتمسك بتقديم الأدلة القانونية اللازمة لتسليمهم.
ملامح الخلاف بشأن “أنصار غولن” ظهرت في اتهام ألمانيا أنقرة بالتجسس على مقيمين في ألمانيا منتمين إلى حركة “الخدمة” عبر أئمة الاتحاد التركي- الإسلامي للشئون الدينية ” ديتيب” في ألمانيا، بهدف جمع معلومات استخباراتية في شكل اعتبرته ألمانيا يسئ إلى وظيفتهم. وتعد “ديتيب” المنظمة الأكبر للجالية التركية المسلمة في ألمانيا وتتبع مباشرة أنقرة، وتدير شئون نحو 900 مسجد وجماعة دينية في ألمانيا. وعشية زيارة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل لتركيا في 2 فبراير 2017 انتقد رئيس الوزراء التركي ما اسماه بـ “سياسات ألمانيا الناعمة تجاه حركة الخدمة وحزب العمال الكردستاني”.
وتنتشر مدارس غولن في قطاع معتبر من دول الاتحاد الأوربي، فهناك 17 مدرسة خاصة في الدنمارك أنشأتها جمعيات تابعة لحركة الخدمة. ويجري تمويل هذه المدارس من خلال الدعم التعليمي الذي تقدمه الحكومة الدنماركية عن كل طالب، وتعتبر المدرسة التي أسست عام 1993 هي أقدم مدرسة تابعة لحركة الخدمة في أوروبا.
وفي ألمانيا يوجد 14 معهدا ومدرسة تديرها جماعة الداعية التركي “فتح الله غولن“، و تأسست أولى مدارس غولن في شتوتغارت بألمانيا في عام 1995 فضلا عن 11 مدرسة تخضع لإشراف الحركة في هولندا، ومدرستين في فرنسا، وفي بريطانيا نجحت حركة “الخدمة” منذ العام 1993 في تحقيق انطلاقة تعليمية ، مع تأسيس وقف Axis التعليمي، ويمتلك الوقف عددا كبيرا من المعاهد التعليمية، ومدرسة باسم Wisdom Primary and Secondary School، تقع بشمال لندن، حيث تنتشر الجالية التركية بكثافة، وتنتشر المعاهد في 15 منطقة، باسم Axis Tuition Center، ويدرس فيها نحو ألف طالب.
وتحظى الحركة ومؤسساتها التعليمية بصورة ايجابية، في الغرب والولايات المتحدة، وذلك لأنها تعتبر هناك بمثابة تيار إصلاحي داخل الإسلام يدعو إلى التعليم المدني والتعاون مع الكنائس، وكذلك إلى الحوار بين الأديان، خصوصا أنها خرجت في وقت تأسيس حزب “الرفاه”، الذي تزعمه نجم الدين أربكان، وكان يواجه اتهامات بمعاداة العلمانية.
وفي الوقت الذي تشن فيه حكومة العدالة والتنمية حملة شرسة ضد أنصار حركة “الخدمة” ومؤسساتها التعليمية، قال الأمين العام لمجلس أوروبا في سبتمبر 2016 عشية لقاء وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو ممثلي دول مجلس أوروبا بمدينة ستراسبوج الفرنسية “إن على تركيا أن تقدم أدلة واضحة في ملاحقتها للمشاركين في محاولة الانقلاب وتتفادى استهداف المعلمين والصحفيين لمجرد أنهم يعملون في مؤسسات يديرها رجل الدين فتح الله غولن المتهم بتدبير الانقلاب”.
في ذات السياق أكدت وزارة الداخلية النمساوية دراسة ملفات رفعها نائب عن حزب “الخضر” بيتر بيلز، والذي اتهم الاتحاد التركي- الإسلامي “أتيب” فرع “ديتيب” في النمسا بالتجسس لصالح أنقرة. وأكد “بيلز” حيازته معلومات تثبت ضلوع ” أتيب” في مراقبة أنصار حركة “غولن وأكراد وصحافيين ومعارضين”.
وفي تماس من هذا النوع عاد التوتر للواجهة بين تركيا واليونان، بعد رفض القضاء اليوناني تسليم عسكريين أتراك فروا إلى اليونان ليلة محاولة الانقلاب، وتتهمهم أنقرة بالانضمام إلى “حركة الالخدمة” التي تصنفها تركيا منظمة إرهابية.
وعللت المحكمة اليونانية رفضها ترحيل العسكريين بأنهم يواجهون تهديدات ضد سلامتهم الشخصية في حال عودتهم إلى تركيا، وعدت المحكمة أن السلطات التركية لم توفر أدلة كافية تربط بينهم وبين المحاولة الانقلابية.
وفي سياق الأزمة مع الدول الأوروبية بشأن أتباع جماعة “غولن”، وافقت النرويج في 22 مارس 2017 هي الأخرى على طلبات لجوء قدمها ضباط وعسكريين أتراك موظفون في حلف شمال الأطلسي “الناتو” بالنرويج، وهو ما أثار امتعاض أنقرة التي تتهم “غولن” بتدبير محاولة الانقلاب الفاشلة.
على صعيد ذي شأن أشعل ملف حركة”الخدمة” من جديد التوتر بين تركيا وألمانيا التي تشهد العلاقات بينهما نوبات من الصعود والهبوط، على خلفية رفض السلطات الألمانية غلق مدارس تابعة للحركة، وكذلك رفض تسليم أتباع حركة “الخدمة”، وكان بارزاً، تأكيد وزير العدل الألماني هايكو ماس، إن بلاده لن تسمح “بإعادة أشخاص إلى تركيا في حال كانت طلبات إعادتهم لأسباب سياسية”.
وتصاعد منحنى التوتر بين برلين وأنقرة بعد تظاهرات في مدينة فرانكفورت الألمانية نظمها نحو 30 ألف كردي في 19 مارس 2017 ضد أردوغان والاستفتاء فضلا عن حديث رئيس جهاز الاستخبارات الألماني “برونو كال” مع مجلة “دير شبيجل” في 18 مارس 2017 بأن “الحكومة التركية لم تستطع إقناع جهازه بأن غولن وقف وراء محاولة الانقلاب”، كما رفض كال اتهامات تركيا جماعة غولن بأنها “حركة إسلامية متطرفة” أو “حركة إرهابية”، ووصفها بـ “جمعية مدنية للتخصص الديني والمدني”.
وأضاف كال ” إن المحاولة الانقلابية شكلت فرصة سانحة للرئيس التركي وحزب العدالة والتنمية لتنفيذ حملة تطهير في البلاد”، وتابع ” ما شاهدناه كمحصلة للمحاولة الانقلابية ما كان ليحتاج إلى كل هذا المقدار من رد الفعل الراديكالي في التعامل مع الوضع الداخلي”.
تصريحات رئيس الاستخبارات الألماني إضافة إلى رفض ألمانيا 11 طلباً تركيا خلال خمسة أشهر – في الفترة من نوفمبر 2016 وحتى مارس 2017- إرسال سلاح ومعدات عسكرية لتركيا، دفع أنقرة إلى اتهام ألمانيا بأنها أصبحت “ملاذا للإرهابيين”، خصوصاً بعد رفض القضاء الألماني تسليم بعض أنصار الداعية التركي “فتح الله غولن”، غير أن هذا الاتهام لم يكن الأول من نوعه، فقد سبق أن صب الرئيس التركي غضبه على برلين في كلمة له عشية احتفال عام في القصر الجمهوري في أنقرة في 3 نوفمبر 2016 ” نحن قلقون من أن تكون ألمانيا التي حمت حزب العمال الكردستاني وجبهة حزب التحرير الشعبي الثورية على مدى سنوات هي الساحة الخلفية لمنظمة غولن”.
وامتد الجدل حول مدارس غولن إلى هولندا، حيث عبر نواب في البرلمان الهولندي عن غضبهم بعدما أعلنت وكالة أنباء “الأناضول” الرسمية التركية أسماء ثماني مدارس في هولندا قالت إنها على علاقة بـ”منظمة إرهابية”.
وفي رومانيا نددت نقابتان كبيرتان للمعلمين بضغوط يمارسها النظام التركي على رومانيا لإغلاق مدارس يدعي أنها ممولة من جانب الداعية فتح الله غولن الذي تتهمه أنقرة بالتخطيط لمحاولة الانقلاب، وفي رسالة مفتوحة لحكومة رومانيا قالت النقابتين “اطلبوا من السفير التركي في بوخارست أن يكف عن الضغوط التي تستهدف المدارس التي يمولها مواطنون أتراك في رومانيا”.
وتدير الحركة أكثر من 1500 مؤسسة بمختلف مراحل التعليم، إضافة إلى 15 جامعة، منتشرة في أكثر من 140 دولة في مختلف أنحاء العالم. وأهم ملامح هذه المؤسسات التعليمية أنها تتفق مع علمانية تركيا، ولا تطبق برامج تحمل مواصفات دينية.
وكما فشلت أنقرة في إقناع الاتحاد الأوروبي بتورط غولن في المحاولة الانقلابية ضد السلطة الشرعية، عجزت في المقابل عن استصدار قرار رئاسي أمريكي يؤثر على سلوك القضاء في قضية غولن، وترفض الولايات المتحدة التي يوجد بها نحو 200 مدرسة ومركز تعليمي وثقافي للحركة، طلب تركي ملح ومتكرر بتسليم فتح الله غولن زعيم حركة “الخدمة”، والذي يتهمه أردوغان بتنفيذ محاولة الانقلاب، ورغم الاتفاقية الموقعة في العام 1979 بين البلدين – اتفاقية تسليم المجرمين والمساعدة القانونية في الجرائم الجنائية، ورؤية أنقرة شقاً جنائياً في إدانة غولن، تعتقد واشنطن غولن “متهماً سياسياً”، ولا يجوز تسليمه وفقاً لنص المادة الثالثة من الاتفاقية التي لا تجيز تسليم المطلوبين بين البلدين بسبب آرائهم السياسية أو بسبب ارتكابهم جريمة سياسية أو عسكرية بحتة!.
وتعول أنقرة على ضغط سياسي على أوروبا والولايات المتحدة يجبر “غولن” وأنصاره إلى مغادرة دول الاتحاد و الولايات المتحدة لجهة يسهل تعقبهم فيها.
وتكتسب حركة “الخدمة” التي أسسها فتح الله غولن في العام 1971 زخماً قوياً في أوروبا، كما عادت “الخدمة” لتكون محط الأنظار منذ كشفت النقاب عما بات يعرف بقضية الفساد والرشوة في 17 ديسمبر 2013 بعد اعتقال الشرطة التركية 52 شخصا، بينهم أبناء ثلاثة وزراء ورجال أعمال بارزون ومقربون من دوائر الحكم، واتهم أردوغان غولن حليفه السابق بالتآمر مع أطراف داخلية وخارجية لزعزعة استقرار تركيا وقلب نظام الحكم.
وتعد حركة “الخدمة” امتداداً لـ ”جماعة النور” المنتسبة للشيخ سعيد النورسي، وقام بتشكيل نواتها الأولى أوائل عام 1970 الداعية التركي فتح الله غولن بمدينة إزمير، قبل أن تتوسع لتصبح حركة لها أتباعها داخل تركيا وخارجها، ولم يلتق غولن النورسي في حياته أبدا، لكنه تأثر بـ”رسائل النور” التي ألفها والتي لا تحدد مواقف أو أهدافا سياسية واضحة لكنها تدعو إلى ضرورة الارتباط الوثيق بالله، وتؤكد على البعد التربوي.
وتحظى “الخدمة” بصورة نمطية جيدة في الذهنية الأوروبية، فهي تتبنى مفهوماً غير مسيس للدين، وترى أن “الإسلام ليس أيديولوجية سياسية أو نظام حكم أو شكلاً للدولة” كما يصر على وصف جماعته أنها ”فوق السياسة”. هذه الرؤية لعلاقة الدين بالسياسة صاغتها الجماعة في شعار “أعوذ بالله من الشيطان الرجيم والسياسة” مبتعدة عن العمل السياسي الحزبي، مكتفية بالتحالف مع الأحزاب السياسية الموجودة على الساحة.
وتضع حركة غولن الإسلام والقومية والليبرالية في بوتقة واحدة، كما ترى أن أوروبا وأمريكا عموما قوى عالمية لابد من التعاون معها. ويؤيد المشاركون في الحركة الانضمام للاتحاد الأوروبي باعتبار أن ذلك يعزز مسار الديمقراطية على حساب التلاعب السياسي غير الديمقراطي، و يزيد الشفافية و يقلل الفساد، و يحسن المنافسة الاقتصادية ويحسن مستوى المعيشة.
وفي الوقت الذي رفضت أوروبا غلق مدارس حركة “الخدمة” وبخ الاتحاد الإجراءات التركية ضد مؤسسات “غولن”، والتي امتدت إلى فرض الوصاية على جميع مدارسه وجامعاته ومؤسساته الإعلامية والاقتصادية المرتبطة بشكل مباشر أو غير مباشر بحركة “الخدمة”. وبحسب ما أعلنه وزير التعليم التركي عصمت يلماز في نهاية أغسطس 2016 ألغت حكومة العدالة والتنمية تصاريح عمل 27 ألفاً و 242 من العاملين في قطاع التعليم من بينهم 21 ألف معلم كانوا يعملون في مدارس تابعة لـ حركة “الخدمة”، كما أعلن مجلس التعليم العالي إبعاد 5 آلاف و 342 أكاديمياً وإدارياً عن العمل بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة، كانوا يعملون بالجامعات التابعة لحركة “غولن”.
ولا تعد الحملة على مدارس وجامعات حركة “الخدمة” والمؤسسات التابعة لها وليدة محاولة الانقلاب، لكنها بدأت مع تفجر فضائح الفساد التي كُشف النقاب عنها في تركيا في ديسمبر 2013، والتي طالت حكومة رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان قبل انتخابه رئيساً للجمهورية في أغسطس 2014، والتي وصفها آنذاك بأنها محاولة من الكيان الموازي للإطاحة بحكومته.
في هذا السياق تبقى مدارس غولن إضافة إلى إشكاليات أخرى محور خلاف تركي- أوروبي قد ينال من لحاق أنقرة بالعائلة الأوروبية.
(*) الباحث المتخصص في شئون تركيا بجريدة الأهرام