عواصم العربية (الزمان التركية) الشيخ سليمان أبوحراز، ابن “قبيلة السواركة” وأحد اتباع الشيخ التيجاني شيخ الطريقة التيجانية الصوفية، وهي الطريقة التى ينتشر أتباعها فى مصر وليبيا وتونس والمغرب والجزائر، وعد من كبار مشايخ سيناء الذين يأخذ منهم الرأى والمشورة فهو الصوفي الزاهد الذي وصل به العمر إلى (98 عاما) وأصبح من أبرز القامات الصوفية، ليس في سيناء وحدها إنما على امتداد مصر بكاملها وربما يصل مريديه إلى شمال أفريقيا بأسرها حيث فضاء تمدد طريقته الصوفية، اعتبره أهالي سيناء علامة من علامات الطب الروحي والتدين، سكن منطقة المزرعة في جنوب مدينة العريش عاصمة شمال سيناء، وعرف عنه كلامه الطيب والبساطة مع أصحاب الحاجات الدنيوية ومن يسلكون الطريق إلى الله، جسد فكره الديني المتسامح النقي نموذجا للذين يقبلون عليه لمساعدتهم وإرشادهم لطرق العبادة والدعوة إلى الله، إلا أن فكره هذا فضلا عن هجومه الحاد على الفكر التكفيري الارهابي كان سببا لتكفيره من قبل التنظيمات المسلحة، وهذا أيضا ما جعل “الدعوة السلفية” تهاجمه وتكفره بسب فتاواه وخطبه التى كانت تهاجمهم بشكل دائم وبصورة كبيرة، حيث اعتبر الشيخ أبو حراز “إن الدعوة السلفية لا تعلم شيئا عن السلفية، وما هى إلا أسماء أطلقتها هذه الجماعات على نفسها لكى تتخفى فى زى الإسلام” .
كان الشيخ سليمان أبو حراز قليل الكلام واذا تكلم أوجز، يكره الدنيا والمتعلقين بها فأصبح أشهر زهاد عصره وهكذا اكتسب صيته ما بين أتباع الطرق الصوفية المختلفة، والزاهد ربما يختلف عن الصوفي وإن اتفق الاثنين على المبدأ وهو نقاء السريرة مع الله ورسوله، لذلك لم يحرص الشيخ أبو حراز أن يكون له اتباع مثل المتصوفة، بل ظل طوال سنوات عمره يعرف بالرجل العابد الزاهد عن الدنيا وملذاتها، يزوره الكثير من أصحاب الحاجات ليطمئنهم على فضل الله ورحمته ويدعو لهم، أشهر ما كان يحرص على توصية زواره به الاكثار من الصلاة على النبي ودوام الاستغفار إلى الله، وأشار مرات إلى أنه يحث الناس على الإكثار من الصلاة على النبي كطريقة للتقرب إلى الله، وهو ما اعتبرته الجماعات السلفية شرك بحجة أن كل سائل لغير الله هو مشرك، لذلك كفروه واختلفوا معه وقاطعوه بسبب طريقته في التعبد والتقرب إلى الله رغم أن جميع أهالي سيناء يعلمون يقينا، أنه تنبأ مسبقا بهزيمة 1967 وأعلن للأهالي وهم تحت الاحتلال بأن انتصار أكتوبر 1973م قادم في وقت لم يكن أحدا لا في سيناء ولا في مصر لديه يقين خوض مصر للحرب ضد إسرائيل، كما تنبأ منذ عشر سنوات أن سيناء ستغطى بالدماء، وأن مدينة العريش سوف تشهد أياما سوداء وسينتشر القتل في ربوع المدينة لكن إرادة الله سوف تنتصر على تخطيط المتآمرين، وكان يشدد دوما على أن إسرائيل وأمريكا هم من يقف وراء الفتن، وأن ما يحدث وراءه أمريكا التي تريد تقسيم المنطقة والتهام القدس وحق المسلمين في فلسطين .
بتاريخ 13 أكتوبر الماضي اختطفت عناصر إرهابية الشيخ سليمان أبو حراز من أمام منزله بحي المزرعة جنوب مدينة العريش، وحينها ذكر شهود العيان وجيران الشيخ أبو حراز أن مجموعة تكفيرية يرجح انتماؤها إلى “تنظيم أنصار بيت المقدس”، قد اقتادوا الشيخ المسن تحت تهديد الأسلحة النارية إلى جهة غير معلومة، وذكر حينها أنه الحادث الثاني الذي يجري فيه اختطاف رموز دينية صوفية بشمال سيناء، حيث اختطفت العناصر الإرهابية التكفيرية أوائل أكتوبر “أربعة رموز دينية متصوفة” من منازلهم بقرية “نجع شبانة” جنوب مدينة رفح، انتقاما منهم لتنديدهم في مساجد القري الجنوبية لمدينة رفح بالأعمال الإرهابية التي تنفذها العناصر التكفيرية ضد أهالي مدينتي رفح والشيخ زويد، وتأكيدهم على حرمة دم المسلم حيث تم الإفراج عنهم عقب ساعات من الاختطاف، وسادت حينئذ حالة واسعة من الغضب لدى قطاع كبير من أبناء شمال سيناء بمجرد سماع هذه الأخبار، فمشايخ الصوفية في تلك المناطق لديهم ظهير قبلي وشعبي لا يستهان به فأصل الهوى الديني بسيناء يجنح ناحية الطرق الصوفية، هذا كان الهوى الغالب التاريخي فيما قبل أن تغزوها الأفكار السلفية التكفيرية والتي منها انتقلت إلى ما سمي “السلفية الجهادية”، كما يطلق عليها في سيناء وقطاع غزة والأردن وبامتداتها في سوريا ولبنان والعراق ومنها خرجت المرجعيات القاعدية والداعشية بعدها، تدخلت أجهزة الاستخبارات والحربية منها على وجه الخصوص في عمليات البحث عن الشيخ سليمان أبو حراز، ويبدو أنه كان هناك تضييقا من نوع ما قد تم تنفيذه في منطقة قريبة من المكان الذي كان الشيخ المسن محتجزا فيه، مما دفع التنظيم الإرهابي والمختطفين إلى إطلاق سراح الشيخ بعد ثلاثة أيام من عملية الاختطاف، حيث فوجئ جيران الشيخ بوجوده بمنطقة قريبة من منزله معصوب العينين ومتروكا وحيدا في جنح الظلام يجلس هادئا في انتظار من يأتي ليحرر قيوده .
ليأتي بعدها اليوم المشؤوم في 19 نوفمبر الماضي حيث نشرت المواقع الجهادية التي تقوم بتغطية أخبار “تنظيم داعش” في مختلف الدول، بنشر مجموعة من الصور الاحترافية تحت عنوان “الشرطة الإسلامية في ولاية سيناء تنشر صورا لإقامة الحد الشرعي على كاهنين”، يحتوي على 8 صور توضح عملية الذبح وظهر فيها الشيخ سليمان أبو حراز ومرافقه الشيخ أقطيفان المنصوري بزي برتقالي اللون، وهو زي الإعدام في دستور الجماعات الإرهابية التي لم تداهم أحلام أهل سيناء وحدهم فهي نفس المجموعات التي ظهر أشباههم بالأردن وسوريا والعراق وليبيا.
القيادات الأمنية بمدينة العريش ذكرت أن الصور التي نشرها التنظيم ومعرفاته لكاهنين أثناء إعدامهما، هي لشيخين مسلمين من سيناء وليس لكاهنين، وإدعى التنظيم أنه قتل أبو حراز والمنصوري بدعوى أنهما ساحرين ودجالين، إلا أن حقيقة الأمر أن التنظيم الإرهابي يشعر بالقلق دائما من المشايخ المعتدلين ذوي الشعبية الكبيرة والمؤثرين لدى الأهالي، وأبو حراز كان ينبذ الفكر المتطرف ويعد اغتياله خسارة فادحة لسيناء وسبب اغتياله احتقانا كبيرا لدى أهالي سيناء، وخرجت في اليوم التالي مباشرة إدانة “الأزهر الشريف” لما وصفه بالجريمة النكراء التى ارتكبتها مجموعة إرهابية بشمال سيناء، بإعدام الشيخ سليمان أبو حراز أحد وجهاء سيناء والبالغ من العمر نحو 100 عام، وأكد الأزهر الشريف فى بيانه أن إعدام شيخ مسن ضرير هو دليل على أن مرتكبى هذه الجريمة الشنيعة مجرمون تجردوا من أدنى قيم الإنسانية وأبسط معانى الرحمة، كما أنه يبرهن على أن جرائم هذه الفئة الضالة لا تمت بأدنى صلة للإسلام الذى يحرم قتل الأبرياء، ويشدد أكثر على حرمة دماء العجزة والضعفاء وكبار السن، وتقدمت مشيخة الأزهر بخالص العزاء لأهل الفقيد وأسرته وأهالى سيناء والمصريين جميعا، سائلة الله تعالى أن يتغمده بواسع رحمته وأن يلهم ذويه الصبر والسلوان .
الأكثر إيلاما أيضا أن التنظيم الإرهابي أخفى جثمان الشيخ سليمان ومرافقه بعد تنفيذ عملية الذبح بالسيف بحقهم وتصوير العملية، وهو ما أشار له الشيخ عبدالخالق الشبراوى في نعيه المهم الذي ذكر فيه: “إن السادة مشايخ الطرق الصوفية أغضبهم وأحزنهم ما حدث للشيخ أبو حراز شيخ الصوفية بسيناء، ويؤكدون لأبناء الصوفية أن الانتقام الإلهى من داعش سينفذ إن آجلا أو عاجلا، والصوفية تترك أمر الانتقام من داعش للجيش المصرى الذى سيثأر للشيخ أبو حراز ولغيره من أتباع الصوفية، الذين قتلوا على يد التنظيم الإرهابى سواء فى مصر أو خارجها”، وتابع الشبراوي: “أبو حراز كان ينتمى للسادة التجانية، وكان من تلاميذ مشايخ التجانية الكبار، ومقتله على يد داعش سيحزن الملايين حول العالم الإسلامي من الصوفية وغيرهم أيضا، حيث إن هذا الشعب كان يجمع بين الطرق الصوفية ولا يفرق، فيعتقد الجالس معه أنه يتبع كل الطرق الصوفية وليس التجانية فقط، وعلى ذلك نطالب أبناء الصوفية بالصبر والانتظار حتى يكون الرد قريبا من خير أجناد الأرض، وإن إخفاء تنظيم داعش الإرهابى جثمان الشيخ سليمان أبوحراز الذي قتلته خلال الأيام الماضية بسيناء، الغرض منه منع قيام مريدي الصوفية بإنشاء ضريحا ومسجدا له بسيناء، وخاصة أن الشيخ أصبح “شهيد الصوفية الأول” في العصر الحالي مما سيجعل ضريحه مزارا عالميا” .
قيام تنظيم داعش الإرهابى بقتل الشيخ سليمان أبوحراز جريمة كبرى تضع مرتكبيها فى مواجهة جديدة مع الطرق الصوفية، وهم الذين أعلنوا مرارا وتكرارا كفر هذه العصابات الإجرامية، وربما رسالة الاغتيال تهديد لأتباع الصوفية من أجل التراجع عن منهجهم الصوفي والانضمام لصفوف السلفية، فعداء التنظيم للعلم والعلماء واضح منذ الوهلة الأولى لظهوره على مسرح الأحداث، فقد طالب “داعش” أنصاره بالرد على ما وصفهم بشيوخ الطواغيت وكشف تعاونهم مع الدول الغربية، مطالبا بتصفيتهم والتخلص منهم زاعما أن ذلك سيصب في صالح الإسلام والمسلمين، حيث وصف التنظيم الإرهابي العلماء بأحذية الطواغيت والغرب الصليبيين المؤمنين بالديمقراطية، ولذلك نتوقع أن تشهد ساحة المدن السيناوية فصلا جديدا من التهديد الإرهابي الذي ربما يعجز اليوم عن مواجهة القوات المسلحة والأمن، فيذهب بعناصره لتنفيذ نمطا مغايرا للجرائم لكنها من دون شك أكثر خطورة وأوسع مدى في تأثيراتها السلبية على معنويات الأهالي، وأيضا على القوات الموجودة على الأرض تخوض المعركة الشرسة ذات الرؤوس المتعددة التي لازال بها فصولا قادمة حتى تتطهر تلك الأرض التي هي بالأساس أرض مقدسة كما أسماها رب العالمين .
خالد عكاشه
مدير المركز الوطني للدراسات الأمنية