أوضح البروفيسور باسكين أوران، أحد أهم خبراء السياسة في تركيا، أن هناك عجزًا في إدارة البلاد، قائلًا: “لم أرَ في حياتي السياسة الخارجية التركية تتعرض لهذا القدر من المأزق والإنغلاق من قبل، حتى في عهد الدولة العثمانية”.
فقد علق البروفيسور باسكين أوران على حديث الرئيس التركي أردوغان حول منظمة شنغهاي للتعاون في ظل التدهور المستمر لعلاقة تركيا بالاتحاد الأوروبي، قائلًا: “أتابع السياسة الخارجية التركية منذ زمن بعيد. لم أقرأ، ولم أسمع، ولم أر طيلة حياتي السياسة الخارجية التركية قد وقعت في مثل هذا المستنقع”.
وأوضح أوران أن تركيا “دولة استراتيجية متوسطة القامة”، وتابع: “إن الدول الاستراتيجية متوسطة القامة لا تريد لأي من القوى الكبيرة اللاعبة في المنطقة أن تكون المهيمن الوحيد فيها، وإنما تريد أن يكون بين تلك القوى توازن محسوب. هذه هي النقطة الأولى. أما الثانية فهذه الدول (الاستراتيجية متوسطة القامة) لن تدخل في صراع مع طرفين من تلك القوى الكبرى في آن واحد. لكن تركيا تصارع اليوم طرفين في الوقت نفسه للمرة الأولى في تاريخها. وعند النظر إلى التاريخ العثماني نجد أن الدولة العثمانية لم تصارع قطّ طرفين في آن واحد “.
العلاقات مع روسيا
وعلَّق أوران على العلاقت التركية الروسية قائلًا: “هل هناك تدهور في العلاقات الثنائية أكثر من مبادرة دولتين إلى إسقاط طائرات بعضهما البعض؟!” وعلَّق على واقعة استشهاد أربعة جنود أتراك في منطقة الباب السورية قائلًا: “لا توجد في سوريا إلا طائرات تابعة لسوريا وروسيا؛ فإن لم تضرب روسيا فذلك يعني أن الأسد هو من قتل الجنود الأتراك. ولكن كيف للأسد أن يتخطى حدوده ويقوم بذلك دون الحصول على إذن من روسيا؟ فضلاً عن أن الحادثة تقع في الذكرى السنوية لإسقاط تركيا الطائرة الروسية.
جهود ومساعٍ مثيرة للضحك ومحزنة في الوقت ذاته
وتطرق أوران إلى حديث الرئيس أردوغان عن منظمة شنغهاي للتعاون، مؤكدًا أنه لن تكون لتركيا أي رؤية مستقبلية ضمن شنغهاي، وأردف بقوله: “ذلك لأن هذه الآلة الخماسية لن تكون فيها تركيا إلا مجرد أداة للعزف عليها فقط. فكروا معي: روسيا تمنح منصب رئاسة دورة عام 2017 لنادي الطاقة التابع لمنظمة شنغهاي لدولة هي ليست عضوة ولا مرشحة. فهذه الخطوة رشوة صريحة تقول بشكل صارخ لتركيا ’إن استطعت فكّ وتقسيم المعسكر الغربي فأنا سأعطيك هدايا لا تخطر على بالك‘. انظروا إلى أعضاء شنغهاي الخماسية: الصين، روسيا، كازاخستان، قيرغيزستان، طاجيكستان، وأوزبكستان. فهذه الدول ستحلّ محل دول الاتحاد الأوروبي ودول حلف النيتو! فهذه جهود تبعث على الضحك والبكاء معًا. أنا متأكد من أن شيئًا من هذا القبيل سيستغربه ويرفضه حتى القاعدون من عامة الناس في مقاهي الشاي”.
نحن في حرب مع سوريا
وأوضح أوران أن السياسات الخارجية التي تتبعها تركيا ليست علامة “تركيا المستقلة تمامًا”، بل هي علامة “حُب السلطة” وواصل: “كان الشباب اليساريون قديمًا يطالبون باتخاذ موقف قوي في مواجهة الغرب حتى تكون تركيا مستقلة عن الخارج. تذكروا تلك الشعارات التي كانوا يرفعونها “لا أمريكا ولا روسيا”. أما الآن فأردوغان هو من يريد أن يتخذَّ موقفًا تجاه الغرب الذي يغضب عليه أردوغان بسبب مطالبته بـ”العودة إلى الديمقراطية”. لأن دول شنغهاي الخماسية لا علاقة لها بالديمقراطية من قريب أو من بعيد. وعلى الجانب الآخر، يلعب أردوغان على وتر “العثمانية الجديدة” التي باتت عقدة نفسية لدى الجماهير المضطهدة من خلال الإكثار من استخدام كلمات وعبارات من قبيل “القومية والمحلية” وغيرها من الخطابات الوطينة. فهذا الخطاب يأتي في مقدمة الخطابات الشعبوية التي يستخدمها أردوغان لدغدغة مشاعر أفراد الشعب وكسب قلوبهم ودعمهم ليغدو زعيمًا محبوبًا لديهم. في الحقيقة أحمد داود أوغلو هو من وضع أساس هذه الفلسفة، إلا أنه كان يتحدث عن “القوة الناعمة”؛ من تفعيل الثقافة، والمدارس، والتعامل مع الدول العربية بودٍ.. أمَّا أردوغان فهو قد دخل في حرب. وها نحن الآن نحارب في سوريا”.
أردوغان إما كان يتبني هذا النهج منذ ولادته أو تأثر بالبيئة المحيطة!
ويرى أوران أن أهداف تركيا في سوريا يمكن اختصارها تحت ثلاثة عناوين رئيسة؛ اضطهاد الأكراد السوريين، ومساعدة “الإسلاميين”، والإطاحة بالأسد، ثم عقب قائلًا: “إن هذا الهدف الثالث أمر وخيم جداً. لستُ أنا من يقول ذلك وإنما قاله أردوغان بالذات. فقد قال: ’نحن هناك من أجل هذا‘ أي إسقاط الأسد. ولكننا لسنا هناك لتحقيق هذا الهدف فقط، وإنما لتحقيق الأهداف التي قلتها قبل قليل. أردوغان يتمتع بثلاثة مميزات؛ هو غير واعٍ في أولاها، واجتماعي في ثانيها، وواعٍ في ثالثها، ألا وهي أنه شديدٌ قاسٍ للغاية، منتقم ومحب للثأر، لا ينسى، يسجّل كل الأخطاء المرتكبة ضده من وجهة نظره، حيث يهدّد دومًا بقوله: “لن أتركك دون عقاب”. إما هو مجبول على هذه الفطرة والطبيعة منذ ولادته أو كسبها متأثرًا ببيئته المحيطة”.
لا يمكن الاستمرار على هذا النهج
وأوضح أوران أن أردوغان يعاني مما يُعرف في الأدب السياسي بـ”العظمة/الكبرياء/الغطرسة”، بمعنى أن السلطة أو القوة سمّمته، وهذا قاد وساق أردوغان إلى طريق مسدود، واستمر قائلًا: “إن من يجلسون على كرسي السلطة لفترات طويلة يعانون من تسمم السلطة. فقد قال المؤرخ لورد أكتون في مقولته الشهيرة أواخر ثمانينات القرن التاسع عشر ’إن السلطة فسَّادة، والسلطة المطلقة فسَّادة بدرجة كبيرة‘. أمَّا عن الميزة الثالثة لأردوغان فهو واعٍ في ممارسته لهذه المزية كما قلت؛ إذ يعمل بشكل مستمر على استقطاب المجتمع وكهربة الأجواء متعمدًا. بالإضافة إلى أنه يعرف قاعدة مهمة للغاية: الأشخاص الذين أخفتهم بدرجة كافية يلجأون تلقائيًا إلى حضن السلطة. هذا ما يقوم به بالفعل من خلال إرهاب وتخويف المواطنين من أجل الحصول على السلطة المطلقة”.
مصيره الوحيد هو الاصطدام بالجدار
ويرى أوران أن هذا الوضع أو النهج لا يمكن أن يستمر طويلًا، قائلًا: “لأن أردوغان دخل في حارة ضيقة لا مخرج منها. لا يستطيع المناورة فيها، ولا يستطيع الرجوع إلى الوراء بسبب شخصيته وطبعه المذكور. لأن الكاريزما إذا ما تشوهت لا يمكن أن تنصلح بعد ذلك، بل تتحطم دون رجعة. وخاصة في ليلة الانقلاب في 15 يوليو/ تموز الماضي ظهر في صورة قائد قوي. لكن لا يبدو أمامه أي مصير سوى الاستمرار في طريقه المسدود والاصطدام بالجدار في نهاية المطاف… فهذا النهج لا يمكن الاستمرار عليه لمدة طويلة؛ فتركيا أصبحت في حالة لا يمكن إدارتها أو التحكم بها. ما الذي يسير على مايرام في تركيا بالله عليكم؟ السياسة الخارجية؟ أم الاقتصاد؟ أم السياسة الداخلية؟ أم الحالة الاجتماعية؟ أظهروا لي أمرًا واحدًا يسير على ما يرام في هذا البلد!”.
https://youtu.be/IS5f7wQyy8A