تقرير: يافوز أجار
أنقرة (الزمان التركية) – عندما بدأت وسائل إعلام روسية في نشر الأخبار حول سعي تركيا لتحقيق بعض الأهداف الخاصة في سوريا، قلت في نفسي إن الأمور بين الجانبين التركي والروسي لا تمشي على ما يرام، ولم يمض وقت حتى ولّى الرئيس رجب طيب أردوغان وجهه شطر الولايات المتحدة الأمريكية مجددًا، في ضوء حكم الرئيس الجديد دونالد ترامب، بعد برودة في العلاقات عقب اختلافات بل اتهامات متبادلة بين الطرفين.
ثم اشتعلت الأحداث، حيث قصفت مقاتلة تابعة للجيش الروسي عددًا من الجنود الأتراك “عن طريق الخطأ” في الأسبوع الماضي، بزعم أنهم كانوا ضمن نطاق الإحداثيات الخاصة بـ”الإرهابيين”، وذلك عندما كان رئيس المخابرات المركزية الأمريكية الجديد مايك بومبيو على متن طائرته المتجهة إلى العاصمة التركية أنقرة يوم الأربعاء الماضي كأول محطة خارجية له بعد تسلم منصبه.
وأعلنت رئاسة الأركان التركية في بيانها الصادر عقب الحادثة أن الغارة أسفرت عن استشهاد ثلاثة جنود وإصابة 11 آخرين، وسبقت نظيرتها الروسية في إعلان وقوع الحادثة “عن طريق الخطأ”، حتى إن وكالة الأنباء الروسية “سبوتنك” اعتمدت على مصادر تركية في خبرها المتعلق بالقصف الروسي “الخاطئ”.
وفي البيان نفسه، أعلنت رئاسة الأركان التركية أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اتصل هاتفيا بنظيره التركي أردوغان وقدم له “تعزيته” في ضحايا الواقعة، بعدها أدلى المسؤولون الروس بتصريحات تؤيد هذه المعلومة، أعقبها تصريح المستشار الإعلامي للرئيس الروسي ديمتري بيسكوف الذي أثار مزيدًا من التساؤلات، حيث أعلن أن الأهداف التي قصفتها القوات الروسية حُدِّدت وفقا للإحداثيات التي منحها إياها الجيش التركي، وكان يتوجب عدم وجود الجنود الأتراك في تلك المنطقة، على حد تعبيره، بمعنى أن السلطات الروسية تدعي أنها قصفت هذه المنطقة انطلاقًا من المعلومات التي أعطتها إياها السلطات التركية على أنها أهداف تابعة للإرهابيين وينبغي أن لا يوجد بينهم جنود تابعون للجيش التركي.
لم أفهم دلالة هذا التصريح تمامًا، هل هو اتهام للجانب التركي أم دفاع عن النفس؟!
التصريحات المتضاربة
قبل مرور 24 ساعة على التصريح الأخير، أصدرت رئاسة الأركان التركية بيانًا جديدًا في إطار ردها على تصريح نظيرتها الروسية، حيث ذكرت أنها زودت الجهات العسكرية الروسية بالمعلومات الخاصة بإحداثيات مكان وجود الجنود الأتراك عدة مرات، وأنهم كانوا متمركزين في النقطة عينها منذ عشرة أيام، ثم بادر الإعلام الروسي إلى تحميل تركيا مسؤولية الحادث، زاعمًا أن الجنود الأتراك غيروا نقطة تمركزهم خلال الفترة التي حدّدت فيها المقاتلة الروسية أهدافها والفترة التي نفذت فيها الغارة الجوية، وأن الجانب التركي لم يبلغ السلطات العسكرية الروسية بتغيير الجنود الأتراك موقعهم قبل الغارة.
هذه التصريحات والمعلومات المتضاربة إن دلت عل شيء فإنها تدل على الضعف الذي تعاني منه أجهزة الدولة التركية في ضوء حكومة حزب العدالة والتنمية وقيادة الرئيس أردوغان.
عزاء بدلاً من الاعتذار!
والغريب في الأمر، هو تأكيد زعيم المعارضة التركية كمال كيليتشدار أوغلو على ضرورة عدم تمرير روسيا الأمر بمجرد اعتذار (!)، لكن الواقع هو أنه لا توجد هناك أية اعتذارات روسية أصلاً، بل قدم الرئيس بوتين لنظيره التركي أردوغان “عزاء” فقط، الأمر الذي يكشف الفرق الشاسع بين أسلوب بوتين لما أسقطت تركيا الطائرة الروسية عام 2015، مسفرًا عن مقتل أحد طياريها، حيث فرض عليها عقوبات اقتصادية حتى انتزع من الرئيس أردوغان الاعتذار، وأسلوب أردوغان عندما قتلت الطائرات الروسية ثلاثة جنود أتراك، حيث لم نسمع منه شيئًا حتى اللحظة، بل هبّت وسائل الإعلام الواقعة تحت سيطرته تنشر أخبارًا تسعى لإزالة صورة العجز والضعف المرتسمة في وجهه.
من زوّد روسيا بإحداثيات موقع الجنود الأتراك؟
إذا افترضنا صحة أطروحة روسيا حول تزويدها بالإحداثيات الخاصة بمواقع الجنود الأتراك، يتبادر إلى الأذهان سؤال “من” أو “أي جهة زودتها بهذه المعلومات يا ترى؟، أهي الحكومة أم المخابرات أم السلطات العسكرية أم مجموعة أو بؤرة معينة داخل المؤسسة العسكرية؟”. ومع أنه ليس لدينا معلومات مؤكدة، لكن نظرًا لأن الجهاز العسكري بات “مزرعة خاصة” لمجموعتين رئيستين بعد تصفية الكوادر العسكرية غير المرغوبة فيها بذريعة مشاركتها في “الانقلاب المسرحي”، ألا وهما المجموعة الداعمة للرئيس أردوغان والمجموعة المؤيدة لزعيم حزب الوطن اليساري العلماني دوغو برينتشيك المحكوم عليه في السابق بقضية أرجنكون، فإنه ليس من المستبعد أن تكون هذه المجموعة مَنْ أعطت روسيا هذه المعلومات في إطار الحرب التي اندلعت بينها ومجموعة أردوغان بسبب المخاوف المتبادلة بينهما من التعرض للتصفية، بعد أن قضت كل مجموعة حاجتها من الأخرى في القضاء على “العدو المشترك”؛ حركة الخدمة، خلال فترتي تحقيقات الفساد والرشوة وما سمي بالانقلاب الفاشل؛ وذلك سعيًا لوضع خصمها الجديد أردوغان في موقف محرج جدًا، علمًا بأن مجموعة برينتشيك هي من تقود أشرس الدعاية الرافضة للنظام الرئاسي، بسبب أنها تعلم جيدًا أن أردوغان لو حقق حلمه هذا سينقضّ عليها قبل أي مجموعة أخرى.
وليس خفيًّا على الملمّ بالشأن التركي أن مجموعة برينتشيك تصنَّف ضمن مجموعة “أوراسيا” الداعمة لمنظمة شنغهاي بقيادة الصين وروسيا داخل المؤسسة العسكرية، بحيث كان برينتشيك أجرى زيارة إلى روسيا قبيل الانقلاب المسرحي، وأخرى إلى الصين قبل أيام قلائل من وقوع حادثة استشهاد الجنود الأتراك في الغارة الجوية الروسية.
ونتساءل بشكل أكثر صراحة، هل راح الجنود الأتراك ضحايا السياسات المتقلبة للرئيس أردوغان؟ هل تركيا دفعت ثمن تحول أردوغان من المعسكر الروسي إلى المعسكر الغربي بقيادة أمريكا مرة ثانية؟!