إسطنبول (الزمان التركية) – تنص المادة الأولى في كل دساتير العالم على أن الدولة هي صاحبة السيادة على أرضها وقراراتها ولا تقبل التدخل في شأنها الداخلي.
هذا هو المكتوب في جميع الدساتير حول العالم. والأصل هو أن تلتزم جميع الدول بما يرد في دساتيرها وأن تطبقه حرفيا، غالبية الدول التي تفعل ذلك ويكون الدستور مصدر انطلاقها، فلا تقبل أن تخالف مادة من مواده، لكن هناك البعض الذي يتعامل مع الدساتير كمجرد حبر على ورق ونصوص يجري ترديدها على الألسنة فقط.
واللافت أن دول العالم الثالث هي أكثر الدول مخالفة لنصوص دساتيرها، نسمع كثيرًا من رؤساء هذه الدول، ما يصدعون به روؤسنا من كلمات رنانة وعبارات قوية عن السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لأية دولة، وقوة الدولة في اتخاذ قرارها، إلا أن هذه العبارات تذهب هباء منثوراً أمام حفنة من الدولارات، أو مشروع عملاق ستقوم به الدولة الأخرى، أو حتى مجرد وعود لم تنفذ وربما لن تنفذ.
تركيا، على سبيل المثال، كدولة تقوم بفرض سيطرتها على بعض الدول من خلال المال أو من خلال الوعود التي تعطيها لهذه الدول، وليس هذا سيئا، ففي علم السياسة الدولة التي تستطيع أن تخضع بعض الدول لما تريد، هي دولة تتمتع بتأثير ودولة صاحبة قوة، هذا إذا كان الذي تفعله في صالح بلدها، أما أن تستغل هذه البلاد قوتها من أجل إجبار دول أخرى على قبول ما تريد واعتناق الرؤية التي تراها فهذا شيئ مخالف للأعراف والقوانين الدولية في كل العالم ولا تقبل به إلا دول ليس لها سيادة.
لكن في بلادنا، بلاد العالم الثالث، المال يصنع المستحيل، وجدنا أن الرئيس رجب طيب أردوغان يفرض رؤيته على بعض الدول وبعض المنظمات؛ بل ويطالب هذه الدول وهذه المنظمات بأن تقول وتتبنى ما يراه هو وليس العكس فمثلا:
– عقد مجلس شورى هيئة الشؤون الدينية التركية اجتماعا طارئًا في الرابع من أغسطس / آب الماضي، واتخذ بعض القرارات ضد “حركة الخدمة” ثم أُمليت تلك القرارات لاحقًا على المشاركين في اجتماع مجلس الشورى الإسلامي الأورو-الأسيوي التاسع الذي عقد في إسطنبول في الفترة ما بين 11 و14 أكتوبر / تشرين الأول الماضي، وتنص هذه القرارات على أن حركة الخدمة حركة إرهابية، إلا أن اللافت للنظر هو أن بعض العلماء الذين لم يقرأوا عن حركة الخدمة شيئًا وافقوا على هذه القرارت من غير بينة أو دليل.
– سعى أردوغان لاستخراج قرار من مجلس التعاون الخليجي وطبعا كان قرارًا مسيسا بتصنيف حركة الخدمة حركة إرهابية، ففي يوم الأربعاء 15 من أكتوبر/ تشرين الأول وفي أعمال “مؤتمر وزراء خارجية منظمة التعاون الإسلامي الـ 43″، التي انطلقت في العاصمة الأوزبكية طشقند آنذاك حرص وزير الخارجية التركية مولود جاويش أوغلو على استصدار هذا القرار وتصينف الخدمة باعتبارها حركة إرهابية مع اعتراض بعض الدول على ذلك، وأتساءل أي عمل إرهابي قامت به الخدمة حتى اضطر مجلس التعاون الإسلامي إل إصدار هذا القرار!؟
– استطاع أردوغان إقناع دول مجلس التعاون الخليجي في 13 من أكتوبر بأن حركة الخدمة حركة إرهابية واستصدار إعلان منها بهذا الصدد، وأن مدارس الخدمة تصدر الإرهاب، على الرغم من أن الخدمة ليست لها مدارس أصلاً في هذه الدول الخليجية.
وليس هذا فحسب بل طلب السيد أردوغان من بعض الدول غلق مدارس الخدمة في بلادها أو نقل ملكيتها لوقف “المعارف” التابع له، ففعل هذا في الصومال والسودان وفي باكستان وموريتانيا وأخيراً في السنغال، ودعوني أقف عند السنغال وقفة لأنني زرت هذه المدارس واطلعت على الأنشطة الاجتماعية التي تقوم بها حركة الخدمة ومدارسها هناك، والتي يشهد لها كل أهل السنغال، حتى إن الرئيس السنغالي ماكي صال كرم مدارس “ياووز سليم” للخدمة وعددها 9 مدارس هذا العام لحصولها على المركز الأول على مستوى المدارس الخاصة في السنغال، وكرم عشرة من طلابها الذين حصولوا على المراكز الأولى، وأثنى على المدرسة ودورها في نشر العلم، إلا أنهم اتخذوا قراراً مؤخرًا بنقل ملكية هذه المدارس إلى وقف “المعارف”، من غير إيضاح السبب.
فالسيد أردوغان بعد أن فشل في إقناع الدول الكبرى صاحبة السيادة برؤيته، اتجه إلى دول العالم الثالث، ظنًّا منه أنه إذا استطاع أن يأخذ اعترافا من هذه الدول بأن حركة الخدمة حركة إرهابية عن طريق غلق مدارسها، فإنه سيلزم المجتمع الدولي ومجلس الأمن بهذا الأمر.
ما هي خطوة أردوغان القادمة؟
يبدو أن أردوغان سيسعى في الفترة القادمة لدى جامعة الدول العربية حتى تصنف حركة الخدمة تنظيما إرهابيا، ليستطيع بعد ذلك أن يضع كل هذه الأوراق أمام المجتمع الدولي ويقول له “كل هذه المنظمات والمؤسسات والدول اعترفت بإرهابية الخدمة لكنك ما زلت تصر على عدم القبول بذلك، ولكن هل فعلا ستنصاع الدول العربية وستصدر مثل هذا القرار أم لا؟”.
كما أن السيد رجب طيب أردوغان والمسؤولين في حكومة تركيا يعملون دائمًا وفي كل خطاباته على ذكر اسم حركة الخدمة بجوار الحركات الإرهابية، فمثلا حدث التفجير الإرهابي أول من أمس في إسطنبول وأكدت الحكومة أن الذي قام به هو حزب العمال الكردستاني، إلا أن أردوغان أعلن أنهم سيحاربون الحركات الإرهابية من أمثال داعش والعمال الكردستاني والخدمة، رغم أن الخدمة لم يثبت في حقها يوما أنها استخدمت السلاح.
هل سينجح أردوغان في إقناع العالم بإرهابية الخدمة؟
أعتقد أن نشوة الفرح البادية في تعليق وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو لن تستمر طويلاً، لأن أردوغان ومسؤولي حكومته عجزوا حتى الآن عن تقديم دليل مادي معتبر يثبت تورط الخدمة في عمل إرهابي بل حتى المشاركة فيه، وإن كانت حكومات بعض الدول انصاعت للحكومة التركية، فإن الخدمة قد تركت بصمة في هذه الدول جعلت القاصي والداني يقف بجوارها ويدعو لها، لذا لن تستمر وسيرى المجتمع الدولي بأسره مدى كذب أردوغان وستكون الحكومات هذه عاجزة عن تقديم أي مبرارت أمام الخدمة، وكما يقولون الحال أبلغ من المقال.