بقلم: محمد عبيد الله
(الزمان التركية) – لا يمضي يوم إلا ويظهر فيه دليل جديد يكشف خيوط المؤامرة الشيطانية التي حيكت ضد الشعب التركي وحركة الخدمة من خلال محاولة الانقلاب التي حدثت منتصف العام الماضي.
لقد زعم الرئيس رجب طيب أردوغان منذ اللحظة الأولى أن الأستاذ فتح الله كولن هو “العقل المدبر” لهذه المحاولة الانقلابية قبل إجراء أي نوع من التحقيق، أحدثها عبر امتدادات حركة الخدمة في المؤسسة العسكرية، ومن ثم أطلق عملية اعتقالات موسعة ضد العسكريين والمدنيين على أنهم منتمون إلى الحركة ومتهمون بالتخطيط والمشاركة في هذه المحاولة. وبعد ذلك شكل لجنة تحقيق برلمانية لتبحث وتقدم له الأدلة التي يحتاجها لملء فراغات اتهاماته ومزاعمه.
ومع أنه مر أكثر من نصف عام على الانقلاب، إلا أن أردوغان لم يقدم أي دليل مادي معتبر قانونا أو شرعا لإثبات هذا المدعى سوى اعترافات العسكريين المعتقلين ومزاعمه حول تطبيق بايلوك الذي ادعى أنه “الوسيلة السرية” لتواصل الانقلابيين فيما بينهم. لكن أساطير أردوغان سقطت بالتقرير الذي أعده جهاز مخابراته حول هذا التطبيق (http://www.zamanarabic.com/?p=139592)، كما أن ثلاثة تقارير استخباراتية صادرة من بريطانيا والاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي الناتو أظهرت زيف روايته الرسمية عن الانقلاب وأكدت دوره فيه واستعداده له قبل سنين.
أما لجنة التحقيق البرلمانية، فرغم أن أغلب أعضائها تكون من نواب الحزب الحاكم، إلا أن أردوغان لم يثق فيهم أيضا، ولم يمنح لهم الحرية اللازمة لإجراء تحقيقاتهم، بل منعهم من الاستماع لشهادة كل من رئيس الأركان العامة خلوصي أكار ورئيس المخابرات هاكان فيدان المفترض أنهما الأكثر اطلاعا على أحداث الانقلاب وخلفياتها بواقع منصبهما، دع عنك الاستماع لأقوال العسكريين المعتقلين بتهمة التورط في الانقلاب. ومن ثم طالب اللجنة بإعلان انتهاء أعمالها وتأجيل كتابة تقريرها النهائي حول النتائج التي توصلت إليها إلى ما بعد الاستفتاء.
بالله عليكم هل كل هذا تصرفات من وقع ضحية للانقلاب ويحاول الكشف عن الخونة الذين يقفون وراءه أم تصرفات شخص يسعى لإسدال ستار على “الدور” الذي لعبه في الأحداث التي عاشتها تركيا في تلك الليلة الظلماء؟!.
سر الفرق بين الإفادات في المحكمة والاعترافات في الأمن!
اعترافات الجنود المتهمين بالانقلاب كانت أهم الركائز التي اعتمد عليها أردوغان لتعبئة فراغات اتهاماته ومزاعمه ضد حركة الخدمة، لكن غني عن البيان أن هذه الاعترافات انتزعت من أفواه المتهمين تحت عمليات التعذيب في الغرف السرية المظلمة لمراكز الأمن، كما رأى العالم أجمع ذلك من خلال اللقطات والصور التي أذاعتها القنوات التلفزيونية والصحف. هناك مئات التقارير المحلية والدولية، منها التقرير الأخير الذي أعدته منظمة العفو الدولية، وثقت وجود التعذيب خلال عمليات الاعتقال والتحقيقات، وتكشف أن بعض مراكز الأمن شهدت تطبيق مختلف أساليب التعذيب المتبعة في سجن “جوانتانامو” الشهير بالولايات المتحدة (http://www.zamanarabic.com/?p=142393).
مثل العسكريون المتهمون بالانقلاب في الأسبوع الماضي أمام المحكمة لأول مرة، وأدلوا بإفاداتهم في أجواء حرة نسبيا بعيدا عن مراكز الأمن وممارسات التعذيب. والتصريحات التي أدلوا بها للمحكمة أربكت كثيرا أردوغان وجماعته، حيث أزاحوا الستار عن وجوهم السوداء ومسرحيتهم الانقلابية وما حاكوه من قصص خيالية حولها. إذ أكدوا أن الانقلاب أجرى بموجب أوامر قادة رئاسة الأركان العامة جميعا وفق أعراف وتقاليد المؤسسة العسكرية، وليس لهم أي علاقة مع حركة الخدمة، وإنما ينتمون للتيار الأتاتوركي القومي السائد في الجيش، كما كشفوا مبادرات السلطات إلى تلفيق أدلة لإثبات صلتهم بحركة الخدمة عبر وضع أدوات مختلفة في منازلهم ومكاتب عملهم. كما أسقطوا أسطورة نجاة أردوغان بصعوبة وبفارق دقائق معدودات من محاولة اغتيال في الفندق الذي كان يقيم فيه ليلة الانقلاب.
إفادات الجنود المتهمين بالانقلاب للمحكمة
فقد أعلن الرائد تانير بربر المتهم بمحاولة اغتيال الرئيس أردوغان أثناء الانقلاب أنه وزملاءه من التيار الأتاتوركي القومي، ولا علاقة لهم بحركة الخدمة من بعيد أو قريب. ونظرا لأن عامة الناس في تركيا يطلقون على المتطوعين الذين يتولون مهام في أنشطة حركة الخدمة التعليمية والخيرية “الأئمة”، أجاب بربر على سؤال حول ما إذا كان له علاقة بحركة الخدمة أم لا بقوله: “لا أعرف أحدا ممن تسمونه أئمة حركة الخدمة، ولا أعرف كيفية التكوين الداخلي لهذا التنظيم، إني أعرف إماما واحدا فقط وهو إمام الجامع الذي يعرفه الجميع. إننا جميعا كعسكريين نمر بعديد من مراحل البحث والتحري اعتبارا من انضمامنا إلى الكلية العسكرية، ولو كانت لنا أي علاقة بهذه الحركة لظهرت منذ البداية، ليست لنا أي علاقة بهذا التنظيم، وقد تعرفت على تطبيق بايلوك (Bylock) (المزعوم بأنه الوسيلة السرية لتواصل الانقلابيين فيما بينهم) أثناء التحقيقات معي أمام الشرطة، ولم أذهب حتى لمدارسهم ولا أمتلك حسابا في بنوكهم، فأنا ضابط محب لوطنه وقومي يسير على خطى مبادئ وأفكار مصطفى كمال أتاتورك، لا علاقة لي بهذه الحركة”.
فيما تطرق القائد موتلو سركان فوردم إلى مزاعم العثور على نسخة من جريدة “زمان” بتاريخ 23/12/2016 في غرفة عمله كتب تضم مجموعة أدعية، وشدد على أنه لم ير طوال فترة عمله صحيفة زمان في غرفته ولا تلك الأدعية أبدا، ورجح أن مجهولين وضعوا هذه الأشياء في غرفته لكي يتم تصنيفه من أنصار حركة الخدمة.
بينما قال العميد جوكهان سونماز أتش الذي كان قائد الفريق المتوجه إلى فندق أردوغان ليلة الانقلاب إنه وزملاءه نفذوا الأوامر الصادرة من رئاسة الأركان، وليس لهم أدنى علاقة مع حركة الخدمة. فضلا عن ذلك، فإنه أعلن أنهم لم يتوجهوا إلى مرماريس لاغتيال أردوغان، بل لاصطحابه إلى أنقرة تنفيذا لأوامر رئاسة الأركان، لكنهم تعرضوا للخداع والخيانة حيث أمرهم قادتهم بالانتظار 4 ساعات قبل إقلاع طائرتهم نحو فندق أردوغان لكي يعطوا الفرصة له حتى يتمكن من الوصول إلى إسطنبول. صرح سونماز أتش في المحكمة قائلا: “في الوقت الذي كان العالم بأسره يعلم أن أردوغان متجه إلى إسطنبول، أرسلونا إلى مرماريس لإيقاعنا في الفخ، لم أتواصل مع المساعد العسكري لأردوغان، لو كنت أنا من خططت لهذه العملية، لكنت نجحت في إتمامها أو ألغيتها، لا أؤمن أن فتح الله كولن هو “المسيح” أو “الرسول” كما تدعي السلطات، فهذا اعتقاد ضال باطل، ما أفكر فيه حاليا هو العثور على جواب لسؤال “من الذي ضللنا وخدعنا وجعلنا ننتظر أربع ساعات؟”.
أما المقدم شكري سيمان، قائد فرقة القوات الخاصة قال أمام المحكمة: “أعترف بأنني شاركت في الانقلاب، ولا أخاف من أي شيء، حتى لو كنت أعلم أن إسقاط كرسي المشنقة من تحت أرجلي ليس انتحارا لفعلت ذلك بنفسي، لكنني لم أفعل سوى تنفيذ المهمة التي كلفني بها قائدي الجنرالين جوكهان وسميح، ألا وهى نقل الرئيس أردوغان إلى أنقرة سالما”.
انهيار صورة البطل!
إن دلت هذه الاعترافات على شيء فإنها تدل على زيف القصة المنسوجة حول نجاة أردوغان من هجمات الانقلابيين على فندقه كالأبطال، وتمكن طائرته من الإقلاع، ووصولها إلى مطار إسطنبول بسلام وسط مخاطر عديدة، إذ توجهت طائرة الفريق العسكري إلى مدينة موغلا بعد وصول طائرة أردوغان إلى إسطنبول، وهو ما يعني أن العسكريين عندما وصلوا إلى الفندق كان أردوغان قد وصل إسطنبول.
على الرغم من أنه لم يخرج أحد من المتهمين العسكريين حتى اللحظة معترفا بأنه منتم إلى حركة الخدمة ونفذ الانقلاب بأمر صادر من الأستاذ كولن، لكن أردوغان يصر على ذلك لكي يتستر على دوره في هذا الانقلاب. لكن إفادات العسكريين في “المحكمة” أسقطت حكم “الاعترافات” المنتزعة منهم في غرف التعذيب بمراكز الأمن من جانب؛ ومن جانب آخر أثبتت مرة أخرى أن أردوغان اتفق مع بعض القادة العسكريين ودبروا انقلابا تحت سيطرتهم من خلال استغلال سذاجة بعض الجنود، وصمموه على الفشل، ومن ثم ألصقوه بحركة الخدمة، لكي يحصلوا على الذريعة اللازمة لتصفية الكوادر غير المرغوبة فيها بالمؤسسة العسكرية.
اعتراف باتفاق أردوغان مع أرجنكون ضد الخدمة
شهدت تركيا خلال الأسبوع الأخير حادثتان مهمتان جدا، أولاها إفادات الجنود المتهمين بالانقلاب والانتماء إلى حركة الخدمة التي فرغنا من تناولها أعلاه، والأخرى التصريحات التي أدلى بها عبد القدير أوزكان؛ كبير مستشاري رئيس الوزراء بن علي يلدريم. إذ اعترف أوزكان خلال لقائه مع قناة “خبرترك” بأن أردوغان اتفق مع رئيس الأركان آنذاك ياشار بويوك آنيط في اللقاء الشهير بـ”لقاء قصر دولمة بهشة” في 5 مايو 2007 على إنهاء حركة الخدمة، حيث قال “إن بويوك آنيط أقنع أردوغان خلال اللقاء بخطورة حركة الخدمة وضرورة القضاء عليها، وخطط لبدء العمليات في 2007، لكن لما انطلقت الحملات الأمنية ضد بعض الضباط والجنرالات في إطار قضية أرجنكون بعد شهر من هذا اللقاء، تأجلت الحملات الأمنية المخطط إطلاقها ضد حركة الخدمة إلى وقت لاحق”.
وهنا لا بد أن نتذكر أن إدريس بال؛ النائب السابق من حزب أردوغان العدالة والتنمية الحاكم، كان قد ادعى في 2015 أن الجنرال بويوك آنيط أظهر لأردوغان عديدا من الملفات الخاصة به في هذا اللقاء الثنائي الموسوم بالتاريخي، ثم هدده وطالبه بتنفيذ “المشروع” الذي سيطرحه، تحت إشراف “فريق خاص” مكون من الخبراء. وكان بويوك آنيط سبق أن اعترف بأنه من أعد نصوص ما عرف في تركيا بـ”التحذير العسكري الإلكتروني” الموجه لحكومة أردوغان في 23 أبريل من 2007، أي قبل شهر من هذا اللقاء الموسوم بالتاريخي الذي أحدث تغييرا كاملا في مواقف أردوغان والذي قال عن مضمونه “إنه سر سيدفن معي في القبر”، على حد تعبيره.
بينما يسقط الغصن الأخير لأردوغان
وإذا أخذنا بنظر الاعتبار أن الرئيس أردوغان كان بين الموقعين على “قرار القضاء على حركة الخدمة” الذي اتخذ في اجتماع لمجلس الأمن القومي عام 2004، فإنه كان يتحين الفرصة للانقضاض على الخدمة بعد “التمكن” من السلطة، وتوجه لتصفية بعض الكوادر البيروقراطية المزعوم انتماؤها إلى الخدمة سرا بعد لقائه مع الجنرال بويوك آنيط عام 2007. ثم بدأ ينفذ حركة التصفية هذه علنا مع ظهور فضائح الفساد إلى السطح في 2013. والملفت أنه اعتبر تحقيقات الفساد “محاولة انقلاب” يقف وراءها الأستاذ كولن. مرت على 5 سنوات من دون أن يثبت أردوغان هذا الادعاء بالدليل، حتى إنه لم يستجب لدعوات فتح تحقيق دولي، بل عمد إلى عزل وسجن جميع الشرطيين والقضاه المشرفين على تلك التحقيقات، وإغلاق كل الملفات الخاصة بها، بفضل المحاكم التي أسسها بذاته. ثم شهدت تركيا محاولة انقلاب في 15 تموز من العام الماضي واتهم أردوغان كذلك الأستاذ كولن بالوقوف ورائها، ومن ثم هب لتنفيذ حركة استئصالية لكل من له صلة، من قريب أو بعيد، مع الخدمة. ونظرا لأن كل أجهزة الدولة التركية باتت بين “شفتي أردوغان” وأن الأستاذ كولن لا يمتلك ما يدفع به هذه الاتهامات عن نفسه، طالب بتشكيل لجنة دولية للتحقيق في الانقلاب، معلنا استعدادها الكامل للعودة إلى تركيا والقتل شنقا لو أثبتت تلك اللجنة صحة واحد من اتهامات أردوغان، إلا أن الأخير فر من ذلك كأنه يفر من قسورة!
فماذا عساه أن يفعل أكثر من ذلك للكشف عن حقيقة الأمر في كلتا المحاولتين يا ترى؟ أليس الدليل على من ادعى واليمين على من أنكر؟ لماذا يهرب أردوغان من تحقيق دولي؟ أليس من الأجدر أن يطلب مثل هذا التحقيق أردوغان بدلا من الأستاذ كولن. هل هناك من تفسير منطقي لتهربه من التحقيق الدولي سوى خوفه من تكشف خيوط المؤامرة التي دبرها من خلال الانقلابيين المفبركين من أجل إعادة تصميم وهيكلة الحياة السياسية أولا، والمدنية ثانيا، والعسكرية أخيرا، لكي يتمكن من التستر على جرائمه في الفساد والإرهاب الدوليين وضمان بقائه في السلطة حتى الأبد؟
إلى متى سيخدع أردوغان جمهوره ويخفي عنه الحقيقة التي يعلمها العالم الحر بعدما سقط غصنه الأخير بفضل إفادات الجنود المتهمين بـالانتماء إلى حركة الخدمة والمشاركة في محاولة الانقلاب؟ فهل سيستمر أردوغان في استغلال “الفرصة” التي لمسها في مكافحة المحاولة الانقلابية الأولى (تحقيقات الفساد) و”النعمة الإلهية” التي وجدها في التصدي للمحاولة الانقلابية الثانية أم سيخرجه حلفاؤه من جماعة أرجنكون من اللعبة وسيستغنون عنه بعد أن استهلكوا كل طاقاته في القضاء على الخدمة؟