(الزمان التركية)- يعد كتاب «من الأدب التركي المعاصر: مختارات من القصة القصيرة» بمثابة إطلالة على واقع المجتمع التركي المعاصر قام بها المترجم د. محمد عبداللطيف هريدي، من خلال انتقائه نماذج من القصة القصيرة علّها تُقدم صورة بانورامية للحياة الاجتماعية في تركيا المعاصرة.
أول القصص
يظهر بجلاء في أول القصص التي اختارها المترجم وهي بعنوان «قص ولصق» -تدور بالكامل داخل بيئة بحرية تخيلها بطل الرواية- عالما كاملا من الشخصيات الوهمية القائمة على قطع الورق الملونة في يديه، وهذا ما نكتشفه في نهاية القصة حين يخاطب البطل نفسه قائلا: «طويت البحر و(كرمشته) وكذا القوارب الثلاثة، والقارب ذا الشراع ونزعتهم من مكانهم وكرمشتهم مرة أخرى، ثم مزقتهم فألقى البحار بنفسه على الأرض، وأخذ يدق رأسه على الصخور ويبكي، ويتأوه بيد أنني لم أعره انتباها، وكان الطفل منزوع الرأس يبكي أيضا فنزعته من الناحية الأخرى، وكرمشت البحّار والطفل ومزقتهما، لكن لم يصدر عنهما أي صوت، لقد كانا صامتين. وهذا ما أغضبني جدا، كل ما كنت أفعله أنني مزقتهم جميعا مثل المجنون، ولكن ارتحت قليلا وسرت بداخل سكينة وكنت انتهيت توا من الإتيان بفعل مبهج».
قصة «المحجبات»
في قصة «المحجبات» لآفت ايلجاز، نجدها تعبر عن الواقع المسلم لتركيا رغم أنها تعيش في محيط أوروبي، وتدور أحداث القصة في شهر رمضان في حوار بين أم وابنتها التي يتنازعها اتجاهان أحدهما الميل إلى الدين والآخر الميل إلى الحياة العصرية، وسعيها إلى المزج بينهما بالشكل الذي لا يطغى في أحدهما على الآخر. ومن بين طيات القصة أيضا نستشف إعجاب المؤلفة وزهوها بالنزعة الدينية الإسلامية وهو ما نجده في وصفها لمجموعة من النسوة المحجبات، فتقول: «كون النسوة يرتدين هذه الطرحة ويدخلن غرفة «المقرأة» لينتثرن ما بين جلوس على المقاعد أو الأرائك أو يفترشن الأرض، تراهن في هذا الرداء يختلفن عما رأيتهن في الشارع، ولم تعجبك هيئتهن، هنا تبدو الواحدة منهن سيدة بكل معاني الكلمة التي تبدو ملاكا طاهرا».
من أجمل القصص
من أعذب وأجمل القصص التي تتناول الاغتراب والهجرة، وهي مسألة شائعة في المجتمع التركي الذي ينتشر الملايين من أبنائه في هجرات دائمة وسفرات طويلة في البلدان الأوروبية المختلفة، اختار المترجم قصة «العودة» للمؤلف نديم جورسك الذي قضى القسم الأكبر من حياته في فرنسا حتى أنه فاز بوسام عام 2004. يخاطب بطل القصة أمه حين تواجهه أحلام العودة بعد مرور السنين، وذلك في حوار داخلي معها فيقول: يبدو أن الفرحة التي كانت تشع من نظراتك حين كنت تراقبين ابنك عبر النافذة قد غابت. ضاعت تلك النظرات التي كانت تشع دفئا وحنانا لأول مرة أراها جامدة بلا حياة، هلا ابتسمت قليلا حتى يعود إلى الجدران بياضها الناصع، وتعود دقات الساعة لتملأ أرجاء الصالة، وينداح التراب من على الكنبة وتسري المياه في عروق الشجر، ولكنك لا تبتسمين. – لقد انتظرتك طويلا وطال انتظاري أياما وليالي. – ولكن ها أنا قد جئت، أخيرا عدت. – نعم جئت ولكنك لست الرجل الذي كنت أنتظره.
الطائر الأخير
أما قصة «الطائر الأخير» للمؤلف بكير ييلديز، فتنقل صورة حية من داخل أحد البيوت التركية في مدينة ديار بكر التي ضربها الفقر، فنجد العم هاشم وقد طرد من عمله وأصبح وضعه المادي مترديا، لكن أخيه أرسل إليه ابنه ليتم تعليمه هناك في ضيافته، وبالطبع لم يكن بوسعه سوى قبول ابن أخيه ورعايته له رغم الأحوال الاقتصادية السيئة التي يعيشها لتعطله عن العمل. سعى المؤلف بطريقة غير مباشرة إلى الحديث عن الرأسمالية الجشعة وما تفعله ببسطاء الناس دونما تفكير في عواقب السعي المستمر لتحقيق الأرباح على حساب أقوات الناس وأرزاقهم، وهي قضية وإن خص بها المؤلف المجتمع التركي، إلا أنها قضية عامة تشغل بال كثير من المجتمعات، ويتبقى للأدب والأدباء تسليط الضوء عليها، علّ ذلك يؤكد أن أعمالهم الأدبية المختلفة ولاسيما في مجال القصة، تعد أفضل معبر عن الحياة الاجتماعية في كافة مظاهرها وأشكالها.