بقلم: أ. د. عبد المجيد بوشبكة (*)
لقد رأينا جانبا لمواقف الشيخ النورسي من السياسة والسياسيين، فكيف ستكون مواقف من تعلق بمنهجه ومن آمن بعدالة قضيته، ثم اكتوى بلفحات السياسيين من بعده؟ كيف يستقيم حال المؤمنين بكون المجال السياسي لا زال مدخلا معقولا للإصلاح والتغيير في عالمنا؟
يستمر أنين الإنسان المعاصر تحت وطأة نتائج سياسات الأنظمة الدولية المتبعة في جل أصقاع العالم، بما في ذلك جل الدول الإسلامية التقليدية، لذلك آمن بعض الناس بأن الحكومات المحسوبة على الإسلاميين اليوم قد تشكل أملا للتخفيف من وطأة المظالم والاعتداء على الحقوق، وعليه فإن هذه الحكومات تعيش تحديا وامتحانا حقيقيين في هذا الصدد، حيث تتناسل أسئلة الخبراء حول مدى قدرة الحكومات الجديدة على تحقيق آمال الجماهير في التنمية والحقوق والحريات العامة.
فإذا كان الشيخ النورسي عاش ألم مطرقة الظلم وقهر مطرقة التدخلات الأجنبية ومرارة مطرقة غياب الإيمان، فإن وجود حكومة تدعي أنها ديمقراطية مستقلة فضلا عن كونها إسلامية، قد يشي بذهاب كل هذه الأمراض أو التخفيف من آلامها، و ينعم من سار على درب الأستاذ النورسي ومن آمن بدعوته بالحقوق التي طال ما ناضل من أجلها، ويأمن مظالم وآلام المطارق التي تجرعها رحمه الله تعالى. وليس هذا خاص ببلد دون آخر بل كل البلاد التي تصدرتها حكومات “الإسلاميين” حيث أثيرت موجة من التساؤلات من طرف الحكومات كما الشعوب.
هذا ما دفع عددا من العلماء المقتدرين لإماطة اللثام عن تلك التساؤلات المشروعة، كصنيع العالم المغربي الجليل أحمد الريسوني مجيبا بعض القائلين: ” هل علينا الآن أن نُرضيَ الجماهير التي صوتت علينا، ونعطي الأولوية لطلباتها ورغباتها ومصالحها، أم علينا أن نرضي الشرع ونعطي الأولوية والكلمة العليا لأحكامه وطلباته؟ … و هل سيبقى الإسلاميون أوفياء لشعاراتهم ومواقفهم…؟” وذلك حين قال:
” أحكام الشريعة هي عين المصلحة الحقيقية للناس أفرادا وجماعة، وأن المصلحة الحقيقية هي أيضا شريعة ويجب أن تُتخذ شريعة. و أنه لا تعارض بين الشريعة الحقيقية والمصلحة الحقيقية، ولا تضاد بين ما تريده الشريعة الإسلامية وما تريده الشعوب الإسلامية…”
لكن الذي حصل يصعب فهمه أو تصديقه، فقد التبست على الناس الأمور حتى اختلط الحابل بالنابل، وتعالت الأصوات المنادية بالإنصاف والتصدي للفساد والمطالبة بالحقوق والحريات. أي أن بعض هذه الحكومات التي آمن بها الناس وصوتوا لها لم تف بتعهداتها في تحقيق الحقوق وتأمين الحريات ولا في محاربة الفساد، بل هي بلغة الأستاذ الريسوني لم تحقق المصالح التي جاءت من أجلها في الدنيا، وتبعا لمعنى المصلحة الحقيقية، فهي لم تحققها بالمعنى الشرعي أيضا.
وإذا كان حفظ المال أحد أركان هذه المصلحة كما قال الريسوني في الفتوى السالفة الذكر “…فشريعة الإسلام دين ودنيا معا، وحفظ المال هو أحد مقاصدها الضرورية الخمسة…”، فإن تعارض ذلك مع الشريعة الإسلامية أمر في غاية الخطورة بالنسبة لحكومة تدعي أنها إسلامية، الشيء الذي يضيف ظلم الفساد المالي إلى الظلم في الحقوق و الظلم في الحريات. وهكذا يرجع الذين آمنوا بمشروع الشيخ النورسي – وأمثالهم في كل العالم- إلى نقطة الصفر، وذلك لوجودهم بين مطرقة حكومة “إسلامية” وسندان الفساد و ظلم هضم الحقوق والحريات من جديد.
كما يعتبر موضوع التطبيع مع إسرائيل أحد القضايا الشائكة لدى المسلمين فضلا عن الإسلاميين، بله التجارة معها، وهذا يعيد قضية الإيمان التي يناضل من أجلها كثير من العلماء أمثال الشيخ النورسي، إلى واجهة الأحداث، ثم إن ذلك بالتبع يضع مسألة المصلحة الشرعية على الطاولة. وفي ظل الاتهامات المتزايدة لبعضهم، تحتل الحكومة التركية الحالية قصب السبق في هذا المجال. كما تبقى تبريرات الجهات الموالية لها متعددة وغير مفهومة، نظرا للتطور الكبير والمثير الذي تعرفه العلاقات تركية الإسرائيلية في عهد حكومة محسوبة على الإسلاميين. وفي هذا السياق فوجئ الرأي العام بالفتوى الجريئة التي نشرها الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين للشيخ الريسوني في الموضوع بعنوان “حق العودة للفلسطينيين وواجبنا تجاهه” حيث قطع الشك باليقين حين قال: “…إن استيراد أو بيع أو شراء أو الترويج للبضائع الإسرائيلية “محرم” لاعتبار أنها “دعم للاحتلال والعدوان” و”مغتصبة أو ناتجة عن اغتصاب حقوق اللاجئين والمشردين الفلسطينيين… إن البضائع الصناعية والزراعية التي ينتجها العدو الصهيوني على الأراضي الفلسطينية المغتصبة، وفي مزارع مغتصبة، وبمياه مغتصبة، إنما هي بضائع مغتصبة من أصحابها المهجرين اللاجئين. فلا يحل لأحد استيرادها ولا بيعها ولا شراؤها…”
إن المتتبع اليوم للشأن الاقتصادي في الشرق الأوسط سيهوله المستوى المتصاعد للعلاقة التركية الإسرائيلية في هذا المجال بشكل خاص، وذلك يطرح تساؤلات مشروعة حول المصالح وعلاقتها بقضية الإيمان التي ناضل من أجلها علماء كثيرون أمثال الشيخ النورسي رحمه الله تعالى.
و من ثمة يطرح السؤال القديم الجديد:
كيف يتعامل الذين أمنوا بما دعا ويدعوا إليه علماء الأمة ومنهم الشيخ النورسي؟
هل يباركوا المسير ويتخلوا عن المبادئ التي طال ما ناضلوا من أجلها؟
هل يستنكروا ويرفضوا وفق ما تسمح به القوانين؟
هل يفروا من الواقع إلى زاوية معينة ويغرقوا في عالم الأحزاب و الأوراد؟
هل يحتجوا ويعارضوا وفق فقه حركة داعش ؟
هذا جانب من واقع وحال فئات عريضة من المسلمين الذين يفهمون أن المصلحة الحقيقية هي عين الشريعة، وأن حديث بعض الحكومات عن المصالح وهي غارقة في الفساد المالي والتجارة مع إسرائيل ومنتشية بهضم الحقوق والحريات ومغرورة بنتائج الصناديق. كل ذلك وأضرابه يعد مصالح مزيفة وباطلة لأنها تتعارض مع المصالح الشرعية نصا وروحا وفق رأي المعتد به من علماء الأمة.
فما أحوج أمتنا إلى رأي العلماء لمعرفة سعة و رحمة هذا الدين العظيم. وما أحوجنا إلى الإيمان الصادق الذي يبصرنا بالمصالح الحقيقية في العاجل والآجل. وما أحوجنا إلى الاعتبار بالتاريخ.
بعدما سلطنا الضوء على قضية شائكة وعبر الاستئناس برأي أحد العلماء الأجلاء وهو الشيخ أحمد الريسوني، شيخ علم المقاصد و نائب رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، سنحاول بإذن الله تعالى في الحلقة المقبلة أن نتوقف عند قضية أكثر حرقة وإيلاما، أخذت من مكتوبات الشيخ النورسي وغيره من علماء الأمة، حيزا معتبرا ألا وهي قضية الحقوق والحريات وبالله التوفيق…
(*) د. عبد المجيد بوشبكة/ “مختبر الدراسات الإسلامية والتنمية المجتمعية”
جامعة شعيب الدكالي/ المغرب.
( يتبع)