مراد يتكين
يبدو أنه من الصعب أن نكون رابطي الجأش إزاء واقعة مقتل المدعي العام محمد سليم كيراز، غير أننا إذا حلّلنا ما شهدته تركيا أول من أمس بطريقة هادئة سنجد أنفسنا أمام مشهد مغاير لما يبدو في الظاهر تمامًا، مشهد يزداد تعقيده بمرور الوقت.
بينما كنا نستعد للاجتماع الإخباري في الصباح كانت أبرز الأخبار التي وردت إلينا هي انخفاض معدل النمو الاقتصادي إلى ما دون 3%، وأن 70% من الديون الخارجية لتركيا مصدرها القطاع الخاص.
وعندما كنا على وشك عقْد الاجتماع جاءنا خبر توقف حركة المترو والقطارات في إسطنبول بسبب انقطاع الكهرباء، فأدركنا أن انقطاع التيار الكهربائي، الذي كان قد انقطع عدة مرات منذ الصباح، سيكون أكبر مما توقعنا.
وبعد مرور وقت قصير فهمنا أن انقطاع الكهرباء لم يحدث في إسطنبول وحدها، تلك المدينة التي يبلغ تعداد سكانها 15 مليون نسمة، وهو رقم أكبر من سكان معظم الدول الأوروبية، بل إنه حدث في معظم المدن التركية.
كانت هذه هي أكبر أزمة طاقة تواجهها تركيا منذ زلزال مرمرة الكبير الذي حصد أرواح 17 ألف شخص صيف عام 1999؛ إذ كانت المواصلات في حالة سيئة للغاية لتوقف نظام الإشارات بالسكك الحديدية وأنوار إشارات المرور بالمدن. كما بدأ الأطباء يشعرون بالقلق بشأن مخزون اللقاح في المستشفيات بسبب توقف أنظمة التبريد عن العمل.
أدلى وزير الطاقة تانر يلديز بتصريح قال فيه “إن شبكة الكهرباء في تركيا توقفت عن العمل”. (ولقد بدأت مواقع التواصل الاجتماعي على شبكة الإنترنت بنشر أخبار ساخرة على شاكلة التصريح الذي أدلى به يلديز إبان الانتخابات المحلية عندما انقطعت الكهرباء في أثناء فرز الأصوات حيث قال “لن تصدقوني، لكن سبب انقطاع الكهرباء هو قطة تسللت إلى داخل محولات الطاقة”).
يرى يلديز أن أصل المشكلة ناجم عن توقف إحدى محطات توليد الكهرباء في ساعات الذروة في الصباح، وما ترتب على ذلك من تشكيل حمل كبير على سائر المحطات الأخرى بتأثير الدومينو. ربما يكون الأمر كذلك، لا أحد يعرف الحقيقة إلى الآن.
لم تتأثر مدينة وان الواقعة في أقصى شرق تركيا إطلاقًا بانقطاع الكهرباء، ذلك أن شبكة الطاقة بها تحصل على دعم من الإمداد الكهربائي من إيران القريبة منها. أما شبكة الكهرباء المدعومة من الاتحاد الأوروبي فقد توقفت عن العمل بانهيار شبكة الطاقة في تركيا.
وبحسب ما تراه غرفة مهندسي الكهرباء في تركيا فإن هذه الواقعة كان لها بوادر منذ فترة. ووفق هذه الادعاءات، فإن شبكات إنتاج الكهرباء وتوزيعها، التي استحوذت الشركات المقربة من الحكومة على عدد كبير منها، بادرت إلى التظاهر بحدوث انقطاع التيار الكهربائي لأمور طارئة لتقليل خسائرها بسبب عدم قدرتها على تحصيل فواتير استهلاك الكهرباء منذ فترة وانخفاض قيمة الليرة التركية.
أي أنه في الوقت الذي لا توجد فيه أية حادثة صاغوا بلاغًا بوجود حادث وقطعوا الكهرباء في ساعات معينة من اليوم، لا سيما في الساعات التي يصل فيها الاستهلاك إلى ذروته. فهل يا ترى كان مصدر المشكلة هو تحميل أعباء كبيرة على الشبكة مع توقف عدد من الشبكات المحلية فجأة بشكل متزامن؟ وقد صرح وزير الطاقة يلديز بأن المشكلة وقعت في تمام الساعة 10:36 صباحًا بالتوقيت المحلي، وهو وقت يصل فيه الاستهلاك إلى ذروته.
آثر يلديز عدم التخمين والرد على أسئلة وجّهَت إليه حول ما إذا كان انقطاع الكهرباء كان حادثة عادية أم هجومًا إرهابيًا في شكل قرصنة.
غير أن رئيس الوزراء أحمد داود أوغلو، الذي ألقى خطابًا أمام كتلة حزب العدالة والتنمية البرلمانية بفضل مولدات الكهرباء القوية في البرلمان، قال إنهم يبحثون كل الاحتمالات بما في ذلك “الهجوم الإرهابي”.
وللأسف فعقب ساعة واحدة من انقطاع الكهرباء شهدت تركيا عملية إرهابية بالفعل، إذ انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي صورة لمسلح يغطي وجهه بشعار تنظيم إرهابي يسمي نفسه ب”حزب جبهة التحرير الشعبي الثوري” وهو يوجه مسدسه نحو المدعي العام محمد سليم كيراز ويغلق فمه بعدما احتجزه كرهينة.
وكان المسلحون يرغبون في الاعتقال الفوري لرجال الشرطة الذين وردت أسماؤهم في واقعة مقتل الطفل بركين إلوان خلال مظاهرات متنزه جيزي بارك التي شهدتها إسطنبول صيف عام 2013.
أما الجانب الأكثر إيلامًا في هذه المسألة فهو أن المدعي العام كيراز، الذي تولى التحقيق في قضية مقتل الطفل إلوان، كان هو الشخص الوحيد الذي أقدم على خطوة ملموسة حتى اليوم بما في ذلك استجواب رجال الشرطة في إطار التحقيق للكشف عن تفاصيل هذه الواقعة.
فما الهدف الذي كان يريد تحقيقه أصحاب العنف الأعمى. كان الأهم هو تحويل أجندة الرأي العام، وبالفعل جرى تحويل انتباه الشعب التركي كله من أكبر أزمة كهرباء شهدتها البلاد إلى أزمة احتجاز المدعي العام كيراز كرهينة.
في الوقت الذي بدأ فيه داود أوغلو يعقد جلسة طارئة لحل الأزمة الثانية في اليوم نفسه من أجل مناقشة احتجاز كيراز كرهينة خلال وقت وجيز من انهيار شبكة الكهرباء، بدأ كمال كيليتشدار أوغلو، رئيس حزب الشعب الجمهوري، أكبر أحزاب المعارضة، بإطلاق التصريحات النارية.
كيف استطاع المسلحون دخول القصر العدلي في إسطنبول، والصعود إلى الطابق السادس الذي يقع به مكتب المدعي العام وهم يحملون الأسلحة والرايات والصور وسائر الأشياء الأخرى التي كانت بحوزتهم؟
أم أن كل هذا حدث في الوقت الذي انقطع فيه التيار الكهربائي؟ كان حزب الشعب الجمهوري يبحث في هذه الواقعة عن آثار للتحريض أو الإثارة أو تغيير أجندة اهتمامات الرأي العام.
بدأت الأخبار تزداد سوءًا في الساعات التالية، فبالرغم من محاولات الشرطة للتحاور مع مهاجمي القصر العدلي بإسطنبول ووساطة رئيس نقابة محاميي إسطنبول أوميت كوجا صاكال، سُمعت أصوات إطلاق نيران من داخل غرفة النائب العام كيراز، فاقتحمت القوات الأمنية الغرفة لتشتبك بالأسلحة مع المسلحين وتقتلهما.
وصلت فرق الإسعاف ونقلت المدعي العام كيراز الذي أصيب بإصابات خطيرة إلى أحد المستشفيات الخاصة المجاورة للقصر العدلي. غير أن الأطباء لم يستطيعوا إنقاذ حياته بالرغم من التدخلات التي قاموا بها.
لم يكن هناك فارق بين صورة المسلحين اللذين وجها أسلحتهما إلى جبهة المدعي العام كيراز وبين الصور التي ينشرها التنظيم الإرهابي داعش وعناصره يحملون السكاكين استعدادًا لذبح أسراهم، لا يمكن أن ينسى أحد الخوف والهلع الذي كان في عينيه.
قال رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان إن المسلحين دخلا المبنى وهما يرتديان روب المحاماة. فهل أجيب على السؤال الذي وجهه كيليتشدار أوغلو؟ ربما سنفهم ذلك اليوم بشكل أحسن.
وقبيل الساعة التي بدأت فيها أزمة الرهينة كان قد وصل خبر بأن المدعي العام الذي ينظر في قضية محاولة انقلاب المطرقة التي أعيد النظر فيها من خلال تقديم أصل البيانات الرقمية، أصدر قرارا بأن المعطيات المتعلقة بالقضية لا يمكن قبولها كأدلة لأنها ليست لها نسخ أصليه.
وجاء خبر تبرئة 236 متهمًا في قضية المطرقة الثقيلة” باليوز” بينما كانت أزمة الرهينة في ذروتها. بيد أن قضية المطرقة كانت تقدَّم كدليل على سعي المؤسسة العسكرية لإسقاط حكومة حزب العدالة والتنمية التي كان يرأسها أردوغان عن طريق الانقلاب، وكانت تقدَّم على هذا النحو طوال عامين ماضيين.
وإذا أردنا أن نتحدث بصدق فإن قضيتي أرجيكينون والمطرقة الانقلابيتين كانتا رمزًا لسير حكومات أردوغان المتعاقبة مع جماعة الخدمة في طريق السلطة. غير أنهما أصبحتا اليوم رمزًا لوسيلة تصفية الحساب بينهما.
فاليوم يسير كل واحد منهما في طريقه المنفصل عن الآخر. وفي الوقت الذي تتغير فيه التوازنات في تركيا بسرعة مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية يوم 7 يونيو/ حزيران المقبل، فإذن هذا يذكرنا بأن الشيء الوحيد الذي لم يتغير هو ظاهرة التغيير نفسه.
ألا تلاحظون أن الأزمات في تركيا تأتي تباعًا مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية. فلاشك في أن التوازنات التي يبذل بعضهم قصارى جهدهم ويسخّرون كل ما لديهم من إمكانات حتى لا تتغير، ستتغير حتما، أليس كذلك؟
جريدة راديكال 1/4/2015