سعاد يلديريم
أدلى رئيس هيئة الشؤون الدينية التركية السيد محمد جورماز الأسبوع الماضي بتصريحات صحفية في حوار له مع إحدى القنوات التليفزيونية قدم خلاله عدداً من النقاط والتوضيحات حول رئاسة هيئة الشؤون الدينية في البلاد.
أود في هذه المقال أن أتناول ما قاله السيد محمد جورماز في حواره ، وبخاصة ما يتعلق بحركة الخدمة التركية، نظرًا لضيق المساحة، التي قد لا تتسع لتناول كل الموضوعات التي تطرق لها. وهنا أقول يا ليته التزم الصمت في هذا الصدد! لأنني سمعت منه شخصيا نظرته الإيجابية لحركة الخدمة. وكنت أنظر إليه باحترام وتقدير لحرصه البالغ على عدم اقحام المساجد والدين في الخلافات السياسية، واهتمامه بصياغة خطب الجمعة. ولم يكن خفيا أن أساتذة دين كبار كانوا لا يعبرون عما يرونه صوابا، مثلهم مثل غيرهم من المناصب والمؤسسات التابعة لرئاسة الوزراء؛ وعلى الرغم من ذلك، لم يقولوا شيئا مخالفا للدين. ولم يتخذوا جبهة مهاجمة للجماعات الدينية المختلفة. وقد كان المنتظر منه أن يسير على نهجهم.
إلا أنه ومع الأسف، لم يلتزم الصمت وشرع في الهجوم على الكيان الاجتماعي الذي ينتشر بشكل كبير في ربوع تركيا، بقيادة الأستاذ محمد فتح الله كولن. وعندما بدأ حواره، وقال إنه سيتناول واحدا من أكبر الانقلابات التي تعرض لها بلدنا في الأربعين سنة الماضية، كنت أحسبه سيتحدث عن يد الإرهاب الباطشة التي راح ضحيتها ما يقرب من 40 ألفا من الأبرياء، أو عن تراجع متوسط تعاطي المخدرات بين المواطنين إلى مراحل التعليم المتوسط (الإعدادي)، أو عن الكذب، أو حتى الرشوة، أو تفشي الزنا في المجتمع في الآونة الأخيرة. إلا أنه اتضح أن شغله الشاغل” حركة الخدمة” التابعة للأستاذ فتح الله كولن! وكأن هذا الرجل كان يخفي أغراضا سياسية يخطط لها من وراء عمله لدى هيئة الشؤون الدينية! وأنا أقول هذا الآن، بموجب الأمانة ومسؤولية الشهادة الملقاة على عاتقي، فأنا أعرفه –الأستاذ فتح الله كولن- شخصيا منذ 51 عاما؛ وأؤكد أنه لم يكن له أي مقصد أو غرض سوى إعطاء هذا المنصب القيم قيمته وحقه. وأكبر دليل على بهتان الافتراءات الملقاة جزافا عليه، أنه طوال فترة تواجده في رئاسة هيئة الشؤون الدينية، لم يصدر اتهام واحد في حقه، بل ولم يتعرض لأي عقاب. ولم تكن له أية دعوة سوى القرآن الكريم، والسنة النبوية، وسير الصحابة رضوان الله عليهم، وما ألقي على عاتقه من مهام تتعلق بالدين الإسلامي، بموجب هذا المنصب. حتى في فترة تقاعده التي تجاوزت 30 عاما، كان ينظر لرئاسة هيئة الشؤون الدينية باحترام وتقدير. فضلا عن دوره الذي يعرفه الجميع، لتشجيع مدارس الأئمة والخطباء الثانوية، وما قدَّمه لها من دعم حقيقي على أرض الواقع.
وحتى لا تقلب الحقائق…
كان الاتهام الثاني الموجه للاستاذ كولن، استخدام أموال الزكاة والتبرعات والأضاحي في غير الغرض المخصص لها. كيف هذا والأستاذ كولن لم يأكل الطعام الذي كان يقدم مجاناً من قبل إدارة المدرسة الداخلية وكان يقيم فيها ويضحي ليله ونهاره لخدمة الطلبة، وكان يقف بالمرصاد لكل من حمل هذه الأمانة وكان ينبههم دائما إلى أنهم سيلقون عاقبة استخدام أي شيء في غير مقصده، ولو كان حبة من خردل. فقد كان من الضروري ألا يتهم شخص يؤمن بالحساب يوم القيامة بمثل تلك التهمة. وحتى لا ننسى فالشعب بنفسه يقوم بعملية مراقبة صارمة لكل قرش دفعه، من أجل التأكد من استخدامه في الغرض المخصص له. وفي حال ثبوت عكس ذلك، يسارع بقطع المساعدة على الفور. فالمنح والمساعدات التي كانت تقدم من أجل استمرارية الخدمات التي يدعمها الأستاذ فتح الله كولن، زادت ولم تقل، ومنهم من قرر مضاعفة تبرعاته أضعافا مضاعفة. ولم يكن لائقا بهيئة الشؤون الدينية التركية أن تتورط في تلك الادعاءات التي لم يستطع مطلقوها إثباتها أو حتى إظهار الأدلة على صحتها.
أما الاتهام الثالث؛ فكان أن الأستاذ كولن يستغل شعبيته وطبقة محبي الحركة العريضة في تحقيق أغراضه السياسية. فقد نظروا إلى قادة الفكر والمتنورين والطبقة العريضة المنتمية للحركات المدنية ممن لا يشغلون وظائف حكومية، بنظرات الشك والريبة التي تنتاب من يسيطرون على أنظمة قمعية استبدادية في فترات التاريخ المختلفة.
هل هناك مجال لسوء الظن؟
إن الأستاذ محمد فتح الله كولن، الملهم الروحي لحركة الخدمة، في السنة السابعة بعد السبعين من عمره. وبحسب متوسط الأعمار السائد الآن في العالم، يعبر كل يوم عن اشتياقه إلى الوصلة بالله، لذلك فإن إلقاء مثل تلك الاتهامات عليه ظلم بيّن. وهنا يطرح السؤال نفسه: هل هناك مجال لسوء الظن الذي تعرض له إنسان كان شغله الشاغل تنمية المجتمع وتوعيته، ورفض كل المناصب السياسية التي عرضت عليه مرارا وتكرارا بسبب الحب الذي يحظى به بين الناس؟ ما الذي قد تفيده المناصب السياسية له بعد أن بلغ من العمر أرذله؟ وعلى الرغم من كل ذلك، فإن من حقه بل يجب عليه كعالم ومفكر ديني، وزعيم فكري، وكمواطن تركي أن يعبر عن أفكاره وآرائه ويكتبها، سواء من الناحية الدينية أو حتى السياسية. وأي محاولات لإظهار ذلك على أنه مساعي للبحث عن أغراض سياسية، يعتبر تزييفا للحقائق. فقد كانت حركة الخدمة محط أنظار الكثير من المواطنين ولاقت إعجاب قطاع عريض منهم، بسبب المشروعات الدينية التي عملوا على تنفيذها، في الوقت الذي عجز آخرون من المتدينين عن القيام بها.
وخلاصة القول، أن أساتذة الدين وعلماءه بذلوا جهودا مضنية فيما يتعلق بتوضيح أن الدين الإسلامي يشجع الفن والعلوم والتعليم. إلا أن هذه الندوات والجلسات الحوارية كانت هباءً عندما عجزوا عن تطبيق ذلك على أرض الواقع. وعلى الجانب الآخر نجد أن حركة الخدمة المفترى عليها الآن، نجحت وببراعة في تنشئة أجيال تتمتع بدرجات تعليمية عالية، وأسسوا صروحا تعليمية ومدارس وجامعات ومساكن للطلاب يتحاكى بها كل قاص ودان. ولا يخفى على الجميع أن النصيب الأكبر من جوائز أكبر وأفضل المراكز العلمية في البلاد كانت من نصيب طلاب تلك المدارس والمؤسسات التعليمية التي تبنتها الحركة. فضلا عن التمثيل المشرف لطلابها في المسابقات الدولية المختلفة للعلوم. وقد بدأت ثمار ما زرعه متطوعو حركة الخدمة من بذور تلمع في أعين الجميع، في الوقت الذي كان يسطير على عقلية المجتمع في ذلك الوقت أنه لن يكون من الأتراك عالم أو مفكر(!) وتجدر الإشارة إلى أن هذا النموذج التعليمي الذي نجح في تركيا، نجح كذلك في إثبات جودته وجدارته في 160 دولة حول العالم. وجعلت تلك المدارس اسم تركيا يحلق عاليا في المحافل الدولية، بعد جفاف طال لعصور مضت. وقد حظوا بإعجاب وتقدير المئات من وزراء التعليم، ورؤساء الوزراء والرؤساء وحتى متخصصي التعليم حول العالم. حتى أن الآباء والأمهات قرروا إئتمان تلك المدارس على أولادهم بعد ما رأوه من خدمات تعليمية جيدة، وكانوا سعداء وراضين دائما.
ومثال آخر، للتوضيح وليس الحصر: ما تقدمه الحركة من خدمات ومساعدات للمحتاجين.
يوجد العديد من المؤسسات الخيرية التي تعمل من أجل هذا الهدف. وقد نجحت حركة الخدمة في تقديم مساعداتها للفقراء والمحتاجين حول العالم من خلال جمعية “كيمسا يوكمو” (هل من مغيث) الخيرية التابعة لها، من خلال فروعها المنتشرة في جميع بقاع العالم. حتى أن منظمة الأمم المتحدة ارتأت أن تضم الجمعية كعضو استشاري وحيد ممثل عن تركيا.
في الصلح خير!
هذه كانت السيرة الذاتية لنشأة ونمو ذلك الكيان الاجتماعي. والجميع يعلم أنهم لا يسعون وراء غنيمة سياسية. ولو كان لديهم أغراض وأهداف سياسية، هل كان من الممكن أن تنتظر كل هذا حتى تظهر بعد 40 عاما كاملة؟ فنحن الآن أمام مؤسسة مجتمع مدني تمكنت خلال 20 عاما فقط من أن تحصل على تقدير وتكريم مؤسسات الإشراف والمراقبة في 160 دولة حولة العالم، تتعرض لحملات “مطاردة الساحرات”، ولحملات افتراء مهولة منذ عام ونصف العام تقريبا. فالحكومة تشن حربا نفسية، وحملات دعاية سوداء وتشويه وتستغل قوة الدولة بصورة مفرطة، لا يمكن تخيلها، للقضاء على حركة الخدمة. وهذا الانقلاب الهمجي لو كان في وجه مؤسسة أو حزب ممتد الجذور لما استطاع الصمود أكثر من شهر. إلا أن فضل صمود حركة الخدمة في وجه تلك الإجراءات التعسفية التي تتعرض لها من عمليات عقاب غير قانونية، وحملات تشويه سوداء، يعود لمشيئة الله عز وجل ولطفه، ثم لمكانة الحركة لدى طبقات عريضة من المجتمع.
أما الاتهام الآخر الموجه للأستاذ فتح الله كولن أنه يعمل بالرؤيا، الأستاذ يعلم الدين الإسلامي جيداً ويعلم مكانة الرؤيا الصالحة فيه، فذكر في كتاباته وموعظته أنه لا يجوز العمل بالرؤيا.
ومن ينظر لحركة الخدمة نظرة المشتري، الباحث عن العيوب والأخطاء، يمكنه أن يوجه لها الانتقادات من نواحٍ مختلفة. يمكنهم أن يزيحوا ستار الحياء ويفعلوا ما يشاؤون. وأنا،بصفتي أعرف الإسلام جيدا، وأعرف ما تقوم به الحركة منذ 40 عاما- يقع على عاتقي مهمة الإفصاح عما أعرف وإعلام الجميع به. فحركة الخدمة لا هدف لها ولا مصلحة سياسية. ولا أحد يجهل هؤلاء الأشخاص ممن تطوعوا ووهبوا حياتهم من أجل السلام والإسلام. وهم حتى الآن، لا يفعلون شيئا سوى الدفاع عن أنفسم، وتصحيح ما قيل عنهم من افتراءات وأكاذيب. وكان السيد رئيس الشؤون الدينية قد قال في وقتٍ سابق في السؤال عما إذا كانت الأخوة بين الطرفين قد انتهت، قال إنه من الممكن أن يتم التصالح بين الطرفين. وأنا أيضًا أود أن أنقل هذا للجميع. فالرجوع عن أية مرحلة من مراحل الخطأ، يحمل في طياته مكسبا مؤكدا. وبالتأكيد في الصلح خير!