بقلم: الدكتور دورسون علي أردم
نعلم أن مقولة “موت العالِم كموت العالم” والتي تتداول على ألسنة الناس أنها من أحاديث سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وتتكرر كثيرا بمناسبة وفاة العلماء. ومنها رثاء العالم الألماني المستشرق ريتير للعالم المتبحر بابان زاده أحمد نعيم ذي الأصل البغدادي قائلا: “أردت الكتابة عنه، وحاولت أن أمسك القلم ثلاث مرات، ولكن في كل مرة كان القلم يسقط من يدي؛ لأن الذي مات كان عالمًا، و”موت العالِم كموت العالَم”.
ولد فؤاد سزكين في 24 أكتوبر/ تشرين الأول عام 1924 ميلاديًا بمدينة بيتليس شرق تركيا. وما إن وصل إلى تعليمه في المرحلة الإعدادية انتقل إلى مدينة أرضروم، وهناك استكمل مسيرته التعليمية في المرحلة الإعدادية والتحق بثانوية أرضروم الشهيرة في ذلك الوقت. وانتقل بعد ذلك إلى عاصمة العلوم والأضواء إلى إسطنبول لدراسة الرياضيات عندما كان في التاسعة عشر من عمره. وفي يوم من الأيام شارك في إحدى الندوات العلمية للعالم الألماني المستشرق هيلموت ريتير في معهد الدراسات الشرقية بجامعة إسطنبول.
وتأثر به كثيرا، وكان ذلك سببا في تغيير فكره ودفة دراسته من الهندسة وعلوم الرياضيات إلى وجهة جديدة. وكان معهد الدراسات الشرقية هو الوجهة الجديدة التي قرر فؤاد سزكين الدراسة فيه، وأصبح طالبًا من طلاب هيلموت ريتير.
وفي الوقت الذي علت فيه أصوات قرع طبول الحرب العالمية الثانية، تباطأت مسيرته الدراسية في جامعة إسطنبول. وكانت الجامعات يحيط بها شبح توقف الدراسة عدة أشهر. وفي تلك اللحظة أوصى ريتير طلابه وبشكل خاص فؤاد سزكين بدراسة اللغة العربية وإتقانها.
بالفعل وضع فؤاد سزكين تلك النصيحة صوب عينيه وبدأ يقرأ تفسير بن جرير الطبري يوميا مدة تتفاوت بين 15-18 ساعة. وفي فترة وجيزة لا تتخطى 6 أشهر تمكن من قراءة تفسير الطبري بسهولة ويسر وكأنه يقرأ النصوص التركية. وبعدها وضع أستاذه مجلدا من كتاب إحياء علوم الدين للإمام أبي حامد الغزالي، أمام سزكين وطلب منه قراءته. ليقرأ سزكين دون أن يتعثر، ويشرح معانيه. ثم كلّف أستاذه سزكين بتعلم 5 لغات مختلفة، وفي كل عام يطلب منه تعلم لغة أخرى، إلى أن أتقن سزكين 27 لغة، بصورة أدهشت العالم.
كانت له العديد من الدراسات والأبحاث المثيرة للانتباه التي أجراها حول العالم الإسلامي بعد أن أنهى دراسته الجامعية. من أهمها ورقة بحثية بعنوان “مصادر البخاري”. ونعرف أنه نشر هذا البحث عام 1956. وأنا عرفته من خلال هذا الكتاب الذي أثار انتباهي وإعجابي به.
وفي 1960 من القرن الماضي، كان القائمون على الدولة التركية في ذلك الوقت يريدون الانتقام من الشعب التركي وقطعوا صلة 147 أكاديميا عن الحياة الأكاديمية، وألقوا بهم في السجون والمعتقلات. (ولا ننسى أن الفترة الممتدة من 1960 حتي يومنا كانت الأسوأ على الأكاديميين والعلماء إذ وصل هذا العدد إلى عشرات الآلاف داخل السجون). كان فؤاد سزكين بين هؤلاء الأكاديميين الذين ألقي بهم خلف قضبان السجون، إلا أنه تمكن من الذهاب إلى ألمانيا لينجو بحياته من ظلم وبطش الظالمين. وفي الوقت نفسه استمر في العمل وواصل مسيرته العلمية هناك. قدَّم رسالته الثانية في الدكتوراه عام 1965 عن جابر بن حيان في معهد تاريخ العلوم الطبيعية بجامعة فرانكفورت الألمانية. وفي السنة التالية رفعت درجته العلمية ليحصل على درجة برفيسور. ولكن لم يعد فؤاد سزكين إلى تركيا كي لا يخاطر بحياته في سجونها دون أن يعلم ما إذا كان سيخرج منها حيًا أو ميتًا، مما دفع السلطات التركية إلى إسقاط الجنسية التركية عنه.
كان يتم اختيار 10 أكاديميين من 10 دول مختلفة من أجل تطوير وتنمية كتاب تاريخ الأدب العربي للكاتب والمؤرخ المستشرق الألماني كارل بروكلمان، الذي كان يتداوله جميع المستشرقين ويحرصون على اقتنائه. وأصدرت الهيئة المشرفة على هذا العمل قرارا بأن البروفيسور دكتور فؤاد سزكين سيكون أفضل من يقوم بهذا العمل حول العالم. وعلق أستاذ سزكين على كتابه الذي شهد منه المجلد الأول وتُرجم إلى اللغة العربية أيضا تحت عنوان “تاريخ التراث العربي”، قائلًا: “لم يسبق إعداد كتاب كهذا ولا أظن أن مثله يعد مستقبلا”، وهنأه على هذا العمل. نشر من هذا العمل حتى الآن المجلد السابع عشر، وليس هناك مثال أخر على هذا الكتاب. والفضل يعود في هذا العمل إلى سعي سزكين مستخدما الإمكانات التي وفرتها له دولة ألمانيا لجلب أي كتاب يسمع بوجوده في أي مكان من بقاع العالم من خلال ذهابه بنفسه إلى مكانه والحصول عليه أو على نسخة منه. تمكن فؤاد سزكين من تكوين مكتبة ضخمة من الكتب والعلوم، في فرانكفورت، في المكان الذي يضم في الوقت نفسه أكثر من 800 آلة كانت تستخدم في المجالات الفنية والتكنولوجية والطبية؛ وتعتبر تلك المكتبة لا مثيل لها حول العالم إذ إنه جمع فيها 45 ألف مجلد أغلبها من المخطوطات، بالإضافة إلى أكثر من 10 آلاف ميكروفيلم لأعمال فريدة من نوعها. كان يهتم بنفسه بتلك المكتبة، وكتب بنفسه عن تاريخ تلك الآلات التي صنع لها نماذج طبق الأصل. ونشر كتابا متكونا من 5 مجلدات بعنوان “العلوم والتقنية في العالم الإسلامي”.
وخلال لقاء أجريناه معه في منتزه “جولهانه” في إسطنبول قلت له: “أستاذي المحترم، حمدًا لله أننا (تركيا) نفيناك إلى ألمانيا وأسقطنا عنك الجنسية التركية. وإلا فإنك ما استطعت أن تكون اليوم فؤاد سزكين الذي نعرفه. لم يكن لدولة أن تقدم لك هذا الدعم وتلك الإمكانات الكبيرة سوى دولة ألمانيا”، ضحك فؤاد سزكين وقال: “صحيح ما تقوله يا دكتور علي!”
وبحلول 30 يونيو/ حزيران 2018 توفي فؤاد سزكين عن عمر 94 عاما، وترك خلفه عالمًا قد خسر قمة وقامة من قامات العلم. توفي أثناء كتابته للمجلد الثامن عشر لكتابه “تاريخ العلوم العربية الإسلامية” الذي شرَّف العالم الإسلامي أمام الأمم الأخرى.
نسأل الله الصبر والسلوان لزوجته السيدة أورسوله، وابنته السيدة هلال، وجميع محبيه والمجتمع العلمي أجمع. أسكنه الله فسيح جناته.
لقد طرد سزكين من وطنه بالأمس وأسقطوا عنه جنسيته التركية لذلك فإن التفافهم حوله اليوم علامة حقيقية للنفاق.
لقراءة الخبر باللغة التركية اضغط على الرابط التالي: