القاهرة (زمان التركية)ــ يسلط الدكتور حسن أبو طالب في مقاله بصحيفة (الأهرام العربي) الضوء على اختلاف وجهات النظر الدولية حول توقيت بدء عملية إعادة الإعمار في سوريا، والسجال الدائر حول هذه المسألة، ويرى “أبو طالب” مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، أن البداية في هذا الملف يجب تكون سورية وأن تتسم بالشفافية والنزاهة.
وجاء في المقال: بينما تقترب الحرب السورية من نهايتها كأعمال عسكرية، تظل عملية التسوية السياسية شبه معلقة فى الهواء. وعلى الرغم من الجهود التى تبذلها روسيا مع كل من إيران وأنقرة، لوضع أساس لعملية تسوية سياسية تشمل وضع الدستور وانتخابات وتشكيل حكومة جديدة، وإعادة اللاجئين السوريين إلى مناطقهم الأصلية، وتوفير أموال من الدول المانحة لإعادة إعمار المناطق المنكوبة بالدمار والخراب، فإن النتائج حتى اللحظة تبدو غير مبشرة وتواجه العديد من العقبات.
وهنا نلاحظ أمرين مترابطين؛ أولهما أن مفهوم إعادة الإعمار كإستراتيجية بعيدة المدى فى مرحلة ما بعد نهاية الحرب الأهلية فى دولة ما ليس موحدا بين الأطراف الأساسية فى الأمم المتحدة فيما يتعلق بالحالة السورية. والثانى أن تعدد المسارات السياسية تحت مظلة الأمم المتحدة من جانب، والمظلة الروسية الثلاثية من جانب آخر تؤدى عمليا إلى عدم وضوح الرؤية فيما يجب عمله. وذلك على الرغم من أن هناك اتفاقا مبدئيا على أن الجهود الروسية كما فى اتفاقيات سوتشى، وأستانة ليست بديلة لجهود المبعوث الدولى واجتماعات جنيف، بل هى مكملة لها. إضافة إلى أن الفصل بين ما هو سياسى وما هو إنسانى، يبدو غير كاف للبدء فى عملية جادة لبناء سوريا من جديد.
إحدى لجان المنظمة الدولية التابعة لمكتب الأمين العام للأمم المتحدة، خلصت الشهر الماضى إلى ورقة خاصة بالمعايير والمبادئ المستقاة من ميثاق الأمم المتحدة التى سيتم الاسترشاد بها فى أى عملية أممية، تخص إعادة الإعمار فى سوريا، وأهم تلك المبادئ أن تتوافر ضمانات لتوفير الدعم والمساعدة للمستحقين، فى كل المناطق السورية بما ينسجم مع مبادئ ميثاق الأمم المتحدة، وقرارات مجلس الأمن الدولى ذات الصلة، وأن تُطبق المبادئ الإنسانية على الاحتياجات الإنسانية المتعلقة بإنقاذ الحياة للسوريين، لا سيما اللاجئين والمهجرين والواقعين تحت خط الفقر، وألا تكون هناك اعتراضات أو تدخلات فى عمليات الأمم المتحدة الخاصة بخطة الاستجابة الإنسانية، والأهم تأكيد استعداد الأمم المتحدة لتوفير الأموال المطلوبة وتسهيل جهود الإعمار، بمجرد بدء الانتقال السياسى الحقيقى والشامل بين الأطراف المتفاوضة.
وتأمل هذه المعايير يعنى أننا أمام فصل بين مرحلتين؛ الأولى مرحلة ذات طابع إنسانى تتعلق بتوفير المساعدات الإنسانية العاجلة الخاصة بإنقاذ الحياة، وهى تعنى الحد الأدنى من مستلزمات البقاء واستمرار الحياة، لا سيما المياه النقية والطعام والأدوية الضرورية، على أن تتوافر ضمانات أن تصل تلك المعونات إلى كل المناطق السورية، سواء كانت تحت سيطرة الحكومة أم تحت سيطرة جماعات معارضة ومسلحة. والعنصر الأخير وإن كان يهتم بحياة المواطنين الواقعين تحت سيطرة جماعات مسلحة فى بعض المناطق، فمن الصعب تصور أن المجموعات المسلحة ستكون ملتزمة بمعايير الأمم المتحدة، وأنها ستسهل عمل المنظمات الإنسانية.
أما المرحلة الثانية فتتعلق بإعادة الإعمار الشامل، بما فى ذلك البنية الأساسية كالطرق والمدارس والمشافى والاتصالات، وإعادة بناء المدن والأحياء التى دمرت تماما أو جزئيا، وهى مرحلة معلقة إلى حين التوصل إلى صيغة شاملة للتسوية السياسية وتشكيل حكومة جديدة تضم جميع الأطياف السورية.
وتثير الرؤية الأممية الخاصة بإعمار سوريا على النحو السابق الكثير من الإشكاليات؛ أبرزها إشكالية نقطة البداية الزمنية التى يفترض عندها البدء فى مشروع أممى كبير لبناء سوريا جديدة، أو على الأقل استعادة أوضاع ما قبل العام 2011. أما الإشكالية الثانية فتتعلق بالتقديرات المالية المطلوبة لإعادة الإعمار، ويرافقهما إشكالية ثالثة وهى المدى الزمنى الذى تتطلبه عملية إعادة الإعمار. وبالنسبة لتقديرات الأموال المطلوبة، فهناك الكثير من التقديرات الدولية التى عرضت فى المؤتمرات التى عقدت فى لندن وبروكسل وبيروت ودمشق وغيرها فى السنوات الأربع الماضية حول إعمار سوريا ما بعد الحرب، وجميعها تبدأ بنحو 400 مليار دولار، وبعضها يصل إلى 900 مليار دولار، وهى أموال ضخمة ولا يتصور أن الاقتصاد السورى وحده بعد كل الخراب الناتج عن الصراع لمدة ثمانى سنوات، أو حتى بمساعدة كل من روسيا وإيران وتركيا يمكنه أن يوفر الحد الأدنى المطلوب لعملية تنموية شاملة فى مدى زمنى يتراوح ما بين عقدين إلى ثلاثة عقود وربما أكثر قليلا.
والواضح أن هذه الإشكاليات تعززت أكثر فى ضوء السجال ما بين روسيا ومجموعة الدول الغربية، إذ تقدم موسكو مبادرة ذات طابع عملى وتضع فى اعتباره أهمية تغيير الواقع السورى قدر الإمكان وبناء الأمل لدى السوريين، تدعو فيها إلى البدء الفورى فى جهود إعادة الإعمار استنادا إلى انحسار الأعمال العسكرية فى 90 % من الأراضى السورية، والبدء فى إعادة 1.7 مليون لاجئ سورى من دول الجوار، وتشكيل لجنة من روسيا والأردن وتركيا ولبنان لوضع خطة إعادة اللاجئين من هذه البلدان كمرحلة أولى، تتلوها مراحل أخرى لاحقا. فى المقابل تقدم الدول الأوروبية الكبرى والولايات المتحدة رؤية مضادة تستند إلى ورقة معايير الأمم المتحدة وتضيف إليها عددا من الشروط؛ أبرزها أنه لا توفير أو تسهيل لأية أموال تخص إعمار سوريا إلا بعد التوصل إلى تسوية سياسية تتسم بالشمول والديمومة وعدم الرجوع عنها، وأن يتم ذلك برعاية أممية ومن خلال أجهزة الأمم المتحدة. بعبارة اخرى أن إعمار سوريا مرهون بالتسوية وأن يكون مشروعا دوليا وليس سوريا. أما ما يتعلق بالاحتياجات الإنسانية العاجلة، فتم تحديد أولوياتها لمساعدة السكان الأكثر احتياجا والفئات الضعيفة، وألا ترتبط بمعايير سياسية أو تمييزية وتشمل كل المناطق ومن خلال العمل مع السلطات المحلية مباشرة، وألا توجه تلك المساعدات الأممية لأطراف يُزعم ارتكابها جرائم الحرب أو الجرائم ضد الإنسانية.
المنظمات الدولية المعنية مثل البنك الدولى وصندوق النقد الدولى وصناديق المساعدات التابعة للدول الكبرى، ترى الأمر من زاوية مختلفة نسبيا، إذ تشترط إلى جانب بدء عملية سياسية جادة، أن تكون هناك مجموعة من التشريعات الخاصة بالاستثمار فى سوريا، وتشريعات أخرى تحدد آليات فض المنازعات بين الحكومة وبين الجهات المستثمرة، وأن تضع الحكومة السورية نصب أعينها أولوية بناء الكوادر والمهارات البشرية المحلية للمشاركة فى عمليات الإعمار، فبدون الإنسان السورى يصعب إنجاز إعمار شامل ينهى واقع الدمار. هذه الرؤية تقوم أساسا على أن عمليات الإعمار ستكون مزيجا من الاستثمارات الخاصة والحكومية الثنائية والأممية. وكل من هذه الأنواع بحاجة إلى تشريعات واضحة. غير أن الإشكالية العملية فى هذا الأمر تتعلق بمن سيقوم بإصدار تلك التشريعات، هل هى الحكومة السورية الراهنة، أم الحكومة الجديدة المفترض تشكيلها بعد التوصل إلى تسوية شاملة لاحقًا.
وفى ظل هذا الجدل الأممى يصرح الرئيس السورى بشار الأسد، بأن الغرب لن يشارك فى إعادة إعمار بلاده، لأنهم يأخذون ولا يعطون. ومعروف أن هناك تشريعيْن سبق إصدارهما يتعلقان بعمليات إعادة إعمار المناطق التى تعرضت للتدمير وهاجر سكانها الأصليون إلى مناطق أخرى، وهما المرسوم بقانون رقم 66 لسنة 2012 والمسمى”مرسوم إعادة تطوير مناطق السكن غير المصرح بها والمستوطنات العشوائية”. والذى ينتقده المعارضون باعتباره يضع الأساس لهندسة اجتماعية وسكانية جديدة فى عموم سوريا. والقانون رقم 5 لعام 2016 حول التشاركية بين القطاعين العام والخاص. وجوهره تمكين القطاع الخاص من المشاركة فى إعادة الإعمار بالتنسيق مع الشركات الحكومية.
والواضح أن الحكومة السورية بحاجة إلى بذل مزيد من الجهد لإصدار قانون استثمار جديد جاذب، والاستفادة من التجارب العربية الواعدة، وأن يتسم بالشمول ليشكل أساسا للتعاملات مع الشركات الكبرى التى تنتظر لحظة بداية نشوء سوريا الجديدة الخالية من الإرهاب والعنف. كما هى بحاجة إلى التركيز على المزيد من الشفافية والنزاهة فى التعاملات الاستثمارية بجميع مستوياتها. وأن تكون البداية سورية قدر الإمكان وبالتعاون مع الأصدقاء المخلصين، وأن تقدم مثلا واعدا لإعادة إعمار جادة لاسيما فى المحافظات والمدن التى تعرضت للأهوال مثل حلب وحماة وحمص. عندها سيبرز الأمل الحقيقى من بين رماد الخراب.