مع انخفاض الإنتاج اليومي وارتفاع الطلب، وخاصة على توليد الكهرباء، برز أمن الطاقة كقضية وطنية بالغة الأهمية.
بينما تُحذّر بعض التقارير من أزمة وشيكة، تُشير التطورات الجديدة إلى أن مصر لا تكتفي بتحمل الضغوط. بل تتّبع الحكومة نهجًا متعدد الجوانب: استيراد الغاز الطبيعي المسال، وإعادة تفعيل مصادر الوقود الطارئة كالمازوت، والتفاوض مع شركاء رئيسيين مثل إسرائيل، وتسريع الاستثمارات طويلة الأجل في الطاقة المتجددة والعقود الدولية.
تواجه مصر نقصًا واضحًا في ميزانها من الغاز الطبيعي، إذ ينخفض إنتاجها اليومي إلى حوالي 4.5 مليار قدم مكعب، مقابل استهلاك يبلغ حوالي 6 مليارات. ويضع هذا التفاوت النظام تحت ضغط متزايد، لا سيما خلال ذروة الطلب في فصل الصيف.
وفي مقابلة نشرت على بوابة «الأهرام أونلاين» المصرية، أوضح جمال القليوبي، أستاذ هندسة البترول والطاقة، أن «معدل الانخفاض الفعلي في إنتاج الغاز لا يتجاوز 1.7 مليار قدم مكعب يومياً»، مؤكداً أن الفجوة التي يتم الحديث عنها كثيراً والبالغة 3 مليارات قدم مكعب «مبالغ فيها ولا تعكس الواقع بدقة».
خطط بديلة لتأمين الإمدادات
ولمعالجة هذا العجز، قامت الحكومة بتفعيل خطة طوارئ تتضمن جلب ثلاث سفن لتحويل الغاز الطبيعي المسال وسفينة راسية في ميناء العقبة، وسيتم تقاسمها بالتناوب بين مصر والأردن.
لكن مدحت يوسف نائب رئيس هيئة البترول السابق يرى أن الأزمة «لم تُحل بالكامل حتى الآن، حيث لم تصل الباخرة الرابعة، كما أن إحدى السفن لم تعمل بكامل طاقتها، ما أدى إلى انقطاع التيار الكهربائي خلال موجة الحر، خاصة في المناطق الريفية».
ورغم هذه التحديات، لم تنهار شبكة الكهرباء الوطنية، بل حافظت إلى حد كبير على أدائها في ظل أحمال قياسية.
وأكد القليوبي: “ما حدث لا يمكن اعتباره انقطاعات مجدولة، وإنما أعطال فنية محدودة بسبب موجة الحر”، مضيفا أن الانقطاعات في بعض المناطق لم تتجاوز 15 دقيقة، مشيداً بقدرة الشبكة على تحمل حمل يومي يبلغ 40 ألف ميجاوات.
عوائد وقود النفط – بتكلفة
وفي فترات الذروة تلجأ الحكومة إلى استخدام الوقود (المازوت) كبديل لتوليد الكهرباء.
ويشير يوسف إلى أن هذه السياسة ليست جديدة: فقد حققت مصر في السابق نحو 8.5 مليار دولار من صادرات الغاز عن طريق استبدال الغاز بالمازوت للاستخدام المحلي، مستفيدة من فارق السعر الكبير (50 دولاراً للغاز المصدر مقابل 16 دولاراً للمازوت المستورد).
أفادت مصادر رسمية بتوقف مؤقت لإمدادات الغاز من إسرائيل، يُعزى إلى أعمال صيانة في حقلي ليفياثان وتمار. إلا أن تداعيات ذلك أوسع نطاقًا، إذ تمس توازن السوق واتفاقيات التجارة.
يعلق القليوبي قائلاً: “يظل السوق المصري الشريك الاستراتيجي الرئيسي للغاز الإسرائيلي، حيث يستقبل 800 مليون قدم مكعب يوميًا، مقارنةً بـ 250 مليونًا فقط للسوق الأردنية. أي حديث عن تغييرات في الأسعار غير منطقي من الناحية الفنية، فالعقود ملزمة”.
لكن يوسف يعتقد أن “الاتفاقيات قد تمنح إسرائيل بعض المرونة لإعادة التفاوض على الأسعار إذا زادت مصر طلبها – وهو أمر طبيعي في أي سوق”.
تراجع حقل ظهر: طبيعي وليس فنيا
ويعد الانخفاض الحاد في إنتاج حقل ظهر عاملاً رئيسياً في الأزمة الحالية، حيث انخفض الإنتاج من 3.8 مليار قدم مكعب يومياً إلى 1.8 مليار قدم مكعب يومياً.
يوضح القليوبي: “يعود هذا التراجع إلى انخفاض خصوبة الطبقات الجيولوجية، وهو تطور طبيعي في دورة حياة أي حقل، وليس عطلًا فنيًا”. وأشار إلى تكثيف جهود الاستكشاف في مناطق واعدة مثل البحر الأحمر وغرب البحر الأبيض المتوسط، حيث من المتوقع أن تدخل شركات كبرى مثل شيفرون وإكسون موبيل في عام ٢٠٢٥.
العقود طويلة الأجل كتحوط استراتيجي
في ظل تقلبات سوق الغاز العالمية، اتجهت مصر نحو توقيع عقود استيراد طويلة الأجل مع دول مثل قطر وروسيا والجزائر. وتوفر هذه الاتفاقيات ضمانًا أكبر للإمدادات والأسعار.
يقول القليوبي: «لأول مرة، تعتمد مصر هذا النوع من العقود، وهي خطوة بالغة الأهمية تُجنّبنا اللجوء إلى مناقصات طارئة والتفاوض تحت الضغط». ويضيف أن آليات تمويل مرنة متوفرة لتخفيف الضغط على الموازنة العامة.
يُشيد يوسف بهذا النهج قائلاً: “تتبع دول كبرى مثل الصين واليابان النموذج نفسه. فالعقود الممتدة تحمي من تقلبات الأسعار وتعزز استقرار السوق”.
ورغم هذه المزايا، تواجه الدولة تحديات حقيقية في تأمين السيولة لتمويل الواردات، خاصة في ظل ارتفاع أسعار الفائدة العالمية.
يكشف يوسف: “تؤجل الحكومة حاليًا سداد بعض الشحنات. هذا يوفر مرونة مؤقتة، لكنه يزيد الأعباء المالية على المدى الطويل”.
الطاقة المتجددة: أمل طويل الأمد
وتخطط مصر لتوسيع محفظة الطاقة المتجددة لديها، مع التركيز بشكل خاص على طاقة الرياح والطاقة الشمسية، لتقليل اعتمادها على الغاز الطبيعي لتوليد الكهرباء.
ويؤكد القليوبي: «الهدف هو إنتاج 28 ألف ميجاوات من الرياح و11 ألف ميجاوات من الطاقة الشمسية خلال أربع سنوات، مع توفير الغاز للاستخدام الصناعي بدلا من حرقه لتوليد الطاقة».
مع ذلك، يبقى يوسف حذرًا: “لا تُغطي مصادر الطاقة المتجددة حاليًا أكثر من 10% من احتياجاتنا، بينما يُغطي الغاز حوالي 90% من مزيج الطاقة. وحتى بعد تشغيل محطات الطاقة النووية، سيظل الغاز المصدر الرئيسي لسنوات قادمة”.
سلالة انتقالية، وليست أزمة شاملة
ورغم ضغوط الطلب الصيفي وتراجع الإنتاج، يتفق الخبيران على أن مصر ليست على شفا الانهيار، لكنها تمر بمرحلة انتقالية تتطلب استكشافًا سريعًا، وعقودًا موسعة، وإدارة دقيقة للطلب.
يختتم القليوبي قائلاً: “نحن لا نعيش أزمة طاقة مفاجئة، بل مرحلة انتقالية تُدار بخطط واقعية”. ويضيف يوسف: “لا يمكن تحقيق أمن الطاقة إلا من خلال مزيج من الإنتاج والواردات والتحوط المالي الذكي”.