
بقلم: د. حامد محمود
رئيس وحدة دراسات إيران والخليج بمركز العرب للدراسات
تُظهر التحليلات أن الهدف المباشر من الضربات الإسرائيلية على إيران هو تعطيل البرنامج النووي الإيراني وتقويض قدراته العسكرية، لكن الاستهداف الدقيق للشخصيات العليا في القيادة الإيرانية يشير إلى وجود هدف استراتيجي أوسع: دفع النظام الحاكم في طهران نحو الانهيار.
استهداف القيادة النووية والعسكرية
شملت الضربات الإسرائيلية المنشآت النووية الإيرانية، بما فيها مصنع التخصيب فوق الأرض في موقع نطنز، بالإضافة إلى مواقع تصنيع الصواريخ وأنظمة الدفاع الجوي الإيرانية. كما استهدفت الهجمات كبار المسؤولين العسكريين والعلماء في البلاد، في خطوة تُعد مؤشرًا على محاولة زعزعة الاستقرار الأمني والسياسي داخل إيران.
وقالت سيما شاين، الباحثة السابقة في جهاز الاستخبارات الإسرائيلي “الموساد” والباحثة الحالية في معهد الدراسات الأمنية الوطنية في إسرائيل: “هذه الشخصيات كانت ذات أهمية كبيرة وخبيرة للغاية، وعملت لسنوات طويلة في مناصبها، وكانت عنصرًا أساسيًا في استقرار النظام، وخاصة الاستقرار الأمني له”.
نداء نتنياهو للشعب الإيراني
وفي رسالة متلفزة مباشرة بعد بدء الهجمات، وجّه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو نداءً إلى الشعب الإيراني، دعاهم فيه إلى الثورة ضد النظام القائم.
وقال نتنياهو إن الحملات الإسرائيلية السابقة ضد حليف إيران “حزب الله” أدت إلى تشكيل حكومة جديدة في لبنان، وإسقاط نظام الأسد في سوريا، وأضاف: “أؤمن بأن يوم تحرركم قريب، وعندما يحدث ذلك، ستعود الصداقة العظيمة بين شعبينا القديمين لتزدهر مرة أخرى”، في إشارة إلى العلاقة بين الدولة العبرية ونظام الشاه الذي أسقطته الثورة الإيرانية بقيادة آية الله الخميني.
ما مدى واقعية “تغيير النظام”؟
ورغم الطموح الإسرائيلي لتحقيق تغيير سياسي جذري في إيران، فإن المحللين يحذرون من أن الواقع قد يكون أكثر تعقيدًا. فعقود من العداء بين إسرائيل والنظام الإيراني لا تقتصر فقط على القيادة، بل تمتد إلى غالبية السكان الشيعة، مما يجعل من الصعب خلق دعم شعبي داخلي كبير في ظل النظام الحالي، خصوصًا بعد الضربات التي طالت مدنيين وعلماء نوويين بارزين.
المشهد في الشرق الأوسط
الوضع في الشرق الأوسط يشبه برميل بارود على وشك الانفجار، خاصة بعد الضربات الإسرائيلية الأخيرة، والجميع يتساءل: هل ستتراجع إيران وتقبل شروط أميركا في الملف النووي؟ الأمر ليس بهذه البساطة، فطهران لا تحب أن تظهر بمظهر الضعيف، لكن الضغوط قد تدفعها لإعادة حساباتها.
المشهد يبدو متشابكًا، وكل خطوة قد تقود إلى مواجهة أكبر، أو ربما تفتح نافذة للتهدئة. وفي حال قررت إيران التخفيف من لهجتها، سنشهد على الأرجح توقفًا للضربات الإسرائيلية، وربما تجميدًا للعمليات العسكرية في المنطقة. لكن، هل ستكون هذه مجرد هدنة مؤقتة، أم بداية لمرحلة جديدة؟ التاريخ يعلمنا أن الأمور هنا نادرًا ما تسير كما يُتوقع.
المفاوضات، لو عادت، ستكون أشبه بالمشي على حبل مشدود، كل طرف يحاول انتزاع أكبر مكاسب بأقل تكلفة. والسؤال الحقيقي: من سيتنازل أولًا؟ ومن سيدفع الثمن؟ المنطقة تعيش لحظة مصيرية، واللعبة العسكرية والسياسية أصبحت أكثر تعقيدًا من أي وقت مضى. وإيران أمام خيارات صعبة، إن أرادت تهدئة الأجواء مع أميركا، فالأمر لن يتوقف عند مجرد تخفيف حدة التوتر العسكري، بل سيدخل في تفاصيل مؤلمة بالنسبة إليهم.
تخيّل، مثلًا، أن يُطلب منهم تفكيك أجزاء حيوية من برنامج التخصيب، وتقليل أجهزة الطرد المركزي، تلك التي كدسوها لسنوات، أو حتى خفض مستويات التخصيب إلى ما دون ما اتُّفق عليه سابقًا في الاتفاق النووي. ثم تأتي مسألة التفتيش، تلك الكلمة التي تثير حفيظة أي مسؤول إيراني: زيارات مفاجئة لمواقعهم النووية؟ مراقبة دائمة؟ هذا النوع من الشروط سيشعرهم بأنهم تحت المجهر، لكنه الثمن الذي قد يُدفع لاستعادة بعض الثقة الدولية.
في خضم الصراع على الملف النووي، هناك ملف الصواريخ الباليستية، تلك العقدة الكبرى. وأميركا وإسرائيل لن تترددا في الضغط لإدراج هذا البند في أي اتفاق جديد. وبالطبع، هناك الملف الأكثر حساسية: تقليص نفوذهم الإقليمي عبر وكلائهم. فكيف ستتخلى طهران عن أدوات نفوذها التي بنتها بعناية في المنطقة؟ هذه التنازلات، لو حدثت، ستكون أشبه بجرح في كبريائهم الاستراتيجي.
الفوائد المحتملة للمصالحة
في المقابل، قد تجني إيران فوائد كبيرة لو قبلت بهذا الطرح. تخيّل لو رُفعت العقوبات عنها فجأة، سيكون الأمر مثل منح مريض على وشك الإغماء جرعة أكسجين منعشة. اقتصادها المتعثر سيتنفس الصعداء، وربما تعود صادرات النفط لضخ العملات الصعبة في خزائنها.
أما العلاقات الدولية، فقد تشهد تحولًا لافتًا، وربما تعود السفارات لفتح أبوابها، وتعود طهران إلى طاولة الحوار مع واشنطن وبروكسل. وهذا سيكسر جزئيًا ذلك الحصار الدبلوماسي الذي عاشته لسنوات. فالمنطقة كلها قد تستفيد لو هدأت الأجواء، وإيران بدورها ستوجّه مواردها لبناء الداخل بدل إنفاقها على صراعات خارجية. والدول العربية المجاورة ستشعر ببعض الارتياح، وربما تتحول أولوياتها من التسلح إلى مشاريع البنية التحتية. وأسواق النفط قد تهدأ أخيرًا بعد سنوات من التقلبات التي أنهكت الجميع. وربما يحين وقت التركيز على تنويع الاقتصادات بدل القلق المستمر من أزمات إقليمية.
موقف الداخل الإيراني
إن إيران الآن أمام مفترق طرق صعب، حيث تلوح المصالحة في الأفق، لكن ثمنها السياسي قد يكون باهظًا. فالحرس الثوري والمتشددون لن يتخلوا بسهولة عما يرونه مكاسب سيادية، فهم يعتبرونها خطًا أحمر لا يمكن تجاوزه. والمشهد الداخلي قد يشهد زلازل سياسية، فالشارع الإيراني حساس لأي خطوة قد تُفسر على أنها تنازل عن المبادئ، وقد تخرج أصوات معارضة ترفض ما تراه مساومة على كرامة البلاد.
وفي الأروقة العسكرية، قد تحدث تصدعات غير متوقعة، بعض العناصر قد ترفض الانصياع لسياسات جديدة تراها مخالفة لعقيدتها. وهذا قد يخلق بؤر توتر داخل مؤسسات كانت تبدو متماسكة.
وعلى مستوى الميليشيات التي تدعمها إيران، قد تجد طهران نفسها مضطرة لتغيير بعض استراتيجياتها في المنطقة من خلال تخفيض الدعم للمجموعات المسلحة، مما قد يفتح الباب أمام قوى أخرى لتملأ الفراغ. وهذا قد يؤدي إلى تغييرات غير متوقعة في موازين القوى في المنطقة.
هل المصالحة نهاية التوتر؟
حتى لو تحققت المصالحة، فإن الوضع لن يستقر تمامًا، فالشرق الأوسط معروف بتقلباته المفاجئة، والجميع سيبقون في حالة ترقّب. إسرائيل وحلفاؤها لن يتوقفوا عن مراقبة التطورات، ومن جهتها، إيران ستحاول ابتكار طرق جديدة لتعزيز نفوذها. وقد نشهد فترة هدوء نسبي، لكن أسباب التوتر لن تختفي، وستظل موجودة تحت السطح، تنتظر اللحظة المناسبة للظهور مرة أخرى.
في التحليل النهائي
يمكن القول إن الشرق الأوسط يعيش أيامًا مصيرية، والقرارات التي ستُتخذ الآن ستترك أثرها لسنوات طويلة قادمة. وإيران أمام خيار صعب حقًا، فالقبول بالشروط الأميركية ليس سهلًا أبدًا، وهذا القبول سيكلفها كثيرًا داخليًا وخارجيًا، لكن ربما يكون هذا هو الطريق الوحيد لتجنب كارثة أكبر. فالجميع يعرف أن حربًا إقليمية الآن ستكون مدمرة بكل المقاييس، ولا أحد يريد أن يرى المنطقة تتحول إلى ساحة قتال مفتوحة.
فالوضع معقد جدًا، وإيران تشعر أن أي تنازلات ستُضعف مكانتها الإقليمية، لكن في الوقت نفسه، الدبلوماسية تحتاج إلى خطوات جريئة. فالسلام لا يتحقق بدون تضحيات، وهذا شيء مؤلم لكنه ضروري. فالشرق الأوسط على حافة الهاوية، والسؤال الكبير الآن هو: هل ستنجح الجهود الدبلوماسية في إنقاذ الموقف قبل فوات الأوان؟
الوقت يدق، والقرارات يجب أن تُتخذ بحكمة، والمستقبل كله يتوقف على ما سيحدث في هذه اللحظات الحرجة.