بقلم: د/ محمد جكيب
على من يهمه الأمر الاعتراف بأن ما يقوم به أبطال الانقلاب الفعلي في حق فتح الله كولن ومنظمته أو كيانه الموازي حسب تعبيرهم وتعبير أدواتهم الإعلامية لم ينجح سوى في شيء واحد وهو رفع الخصوم حسب اعتقادهم إلى الواجهة، خدمة تقدمها الحكومة التركية للخدمة، حتى لكأنها تنفذ سيناريو للفت الانتباه لشخصية الأستاذ فتح الله كولن، صحيح أن هؤلاء الأبطال لم يدخروا جهدا في شيطنة كولن والخدمة، لكن لن يلبث الناس أن ينسوا كل الادعاءات التي يطلقها أبطال الانقلاب الفعلي، وستتهاوى بسرعة كل الترهات لأنها قائمة على الكذب والبهتان، ولأن مواقف فتح الله كولن لم تحد عن نسق الانسجام وعمق رؤيته وصدق طويته، ومع ذلك فإن هذه الفتنة فرصة تاريخية قد لا تتكرر لقياس مدى انسجام خطاب الرجل الفكري وتصرفاته، وهي كذلك فرصة تاريخية أمام الجيل الجديد لاستشعار حقيقة المسؤولية التي على عاتقهم والتي لم تتوقف توجيهات فتح الله كولن عن تذكيرهم بها.
لو يدرك حكام تركيا الأقوياء حجم الخدمة، التي يقدمونها للخدمة ولفتح الله كولن، لتوقفوا في الحال عن حملة التشويه والشيطنة، المستمرة منذ أحداث الفساد المعلومة، لأنهم لا يفعلون أكثر من الترويج للخدمة، التي لو شاءت فعل ذلك لنفسها لما نجحت ولو أنفقت الأموال الطائلة وسخرت كل الوسائل الإعلامية والثقافية والدبلوماسية وغيرها، فعلى الأقل من لم يكن يعرف ولا يسمع عن فتح الله كولن وعن الخدمة الآن صار يعرف من يقلق مضجع حكام تركيا الأقوياء.
يصعب تصور دولة تسخر إمكانات هائلة وجهدا لا يقاس لمواجهة حركة اجتماعية ثقافية حضارية فكرية لها فضل على المجتمع التركي، إلا إذا كانت تريد إخفاء منحدر عظيم وراء ظهرها، ولذلك فإن طاحونة التجاوزات والاتهامات والأحداث تشتغل بأقصى طاقتها ودون توقف، فحجم ما يجري في الظل يحتم كبش فداء قد لا يوجد في المجتمع التركي نظيرا له، فصناعة الحدث العالمي ينطلق من تركيا ارتباطا بكولن وبالخدمة.
هناك مثل شعبي يقول: “دوام الحال من المحال” وأجواء الضباب ستزول وتنقشع شمس الحقيقة، وتنتهي هذه الحملة على الصورة والشكل الذي ستنتهي عليه، وسيسرع الناس وخاصة الشرائح المثقفة إلى البحث عن خصم حكام تركيا الأقوياء من يكون، وحقيقة عتاده الإرهابي وترسانته الحربية المزعومتين التي نفذ بها انقلابه المزعوم. وسيجدون أن ترسانة فتح الله كولن عبارة عن تراث ضخم من الكتب والمواعظ ورصيد مهم من الدموع والألم والحزن على حال الناس وواقعهم، وصدق قل نظيره، ويجدون أن إخلاص هذا الرجل لوطنه وأمته لا مثيل له في هذا الزمن، ويكتشفون أن سر العداء هو نجاحه في توحيد قبلة شرائح مهمة من أبناء المجتمع التركي وبناء وعي جمعي ينبض نبض فكرة مركزية هي الوطن ومصلحته، ولا شك أن ما يتقنه حكام تركيا الأقوياء اليوم تشتيت وحدة المجتمع وتبديد وعيه الجمعي، وسيكشف المستقبل مدى الشرخ الذي أصاب المجتمع ومدى الآلام التي حصلت.
تركيا اليوم تقدم صورتين متناقضتين، صورة اندفاعية حماسية تقوم سيكولوجية الجماهير وتأليبها، والصورة الثانية تقوم على الحفاظ على ما تبقى من الوعي الجمعي رغم كل شيء. ليس الدائر الآن في تركيا صراع مصالح وصراع زعامات بل هو صراع ظاهره السياسة بتناقضاتها ومفاجآتها وحساباتها الضيقة، وعمقه نمط فكري يريد أن يسود يصنعه الأقوياء، ويتأثر به قصيرو النظر رغم جبة القوة التي تلبسهم يعتمد هذا النمط على سيكولوجية الجماهير، وعلى نمط سياسي يدبر اليومي وعلى ألا شيء ثابت، ونقض اليوم ما كان بالأمس ثابتا وتلغي غدا قرارات اليوم ومواقفه وكأنها لم تكن.
ماذا يريد حكام تركيا الأقوياء وما النموذج الثقافي الذي يعتزمون إرساءه، وهل يمكن ـ في ظل ما يجري من تجاوزات ـ الحديث عن نموذج ثقافي أصيل سيرسونه على اجتثاث نموذج ثقافي آخر تؤكد الدلائل على قدرته على الاستمرار وعلى خلق نوع من الإجماع حوله.
الارتكاز على تأليب الجماهير ضد بعضهم البعض وسياسة فرق تسد، لا تخلق سوى التوتر وتعكير ماء الواقع حتى يصير مستنقعا يسهل الاصطياد فيه. قد ترى الجماهير الواسعة اليوم في الزعيم التركي بطلا سيحقق العدل و التوازن الدولي، ومالك عصا سحرية قادرة على الوقوف في وجه الأطماع المحدقة بالعالم الإسلامي، لكن بصدق ما ماذا تحقق ما يد هذا البطل، هل عرفت القضايا التي تؤرق مضجع الجماهير الواسعة طريقها إلى الحل، إن لم تكن قد ازداد الطين بلة، فإنها رغم كل شيء لم تبرح مكانها.
قد يتم الإجماع على أن تركيا دولة تحقق معدلات مهمة في التنمية والتطور، ينحو بها إلى التخلص من التبعية، لكن ـ إذا كان الوضع ما يزال مستقرا ـ فإنه من الإجحاف القول: إن فترة الحزب الحاكم وزعيمه هي التي تحقق كل ذلك. لقد وجد هذا الحزب الطريق ممهدا، بعد مساهمة أطراف مجتمعية كثيرة فيما يؤمن الوصول إلى الاستقرار والديمقراطية وضمان الحريات التي ضمنت للحزب الحاكم الآن شروط المنافسة الشريف التي أوصلته إلى الحكم والسلطة. لكن سيكولوجية الجماهير منفتحة على الآني والمتفاعلة مع من خلق الحدث في اللحظة والحين تأبى النفاذ إلى عمق الأشياء، ومن الإجحاف أن يكفر حكام تركيا الأقوياء ما قدمه المجتمع المدني بكافة أطيافه العلمانية واللائكية والدينية ولادينية والليبرالية والمسلمة والعلوية والمسيحية وغيرا.
من يقرأ تراث فتح الله كولن يجد دعوة مستمرة إلى ضرورة توحد القوى الوطنية بمختلف مشاربها، وترك الخلافات جانبا لمصلحة الوطن، لم تقم دعوة كولن على سيكولوجية الجماهير، بل قامت على بناء وعي جمعي أساسه المصلحة الوطنية بعيدا عن المزايدات السياسية والمذهبية والأيديولوجية. ويراعي خصوصية المجتمع التركي الذي هو مجتمع متعدد الثقافات والأعراق والإثنيات، وتحويل التعدد إلى سبب من أسباب قوة تركيا المعاصرة.