بقلم: يافوز أجار
من المعروف أن تأسيس حركاتٍ ومنظماتٍ مزيفة أو وهمية في مواجهة الحركات السياسية ومنظمات المجتمع المدني غير المرغوب فيها التي تعتبر نوعا من “التهديد” هو من أساليب أجهزة المخابرات في أنحاء العالم. فهي تكلّف هذه الحركات والمنظمات التابعة لها بمهمة صنع أحداث مزيفة، وتلفيقِ جرائم مختلقة، ثم إلصاقِها بتلك الحركات والمنظمات المصنفة كتهديد، والدفعِ بها إلى ارتكاب جرائم، لتشويه صورتها أمام الرأي العام أولاً، ومحاكمتها قانونياً ثانياً، والقضاء عليها في نهاية المطاف.
دوغو برينتشاك وأوجلان يداً بيدٍ
فمثلاً، في سبعينيات القرن الماضي التي كانت اليسارية سلعة رائجة فيها، ضيق جهاز المخابرات التركي الخناق على المحتجين السلميين من اليساريين بقوةِ الدولة، وضغط عليهم حتى يضطروا إلى استخدام العنف، تمهيداً لإقحام المنظمات اليسارية في الجرائم والأعمال غير القانونية من جهة؛ ومن جهة أخرى، شكّل الجهاز ذاته عبر عناصرَ تعمل لحسابه منظماتٍ وهمية من أجل إجبار الكيانات اليسارية على اللجوء إلى استخدام الإرهاب، حتى يتأتى له تنفيذ العمليات ضد تلك الكيانات وإعادة تصميمها في إطار أهدافها. وأفضل مثال على ذلك هو مجموعة “أيدينليك” السيارية بقيادة الزعيم اليساري العلماني المتطرف دوغو برينتشاك. إذ دعمت هذه المجموعة حزب العمال الكردستاني فيما بعد، وشتّتت اليسارية التركية من خلال اليسارية الكردية، وحاولت القضاء على اليسارية تماماً. لذلك ليس من الغريب أن يتبادل برينتشاك الذي يمثل اليسارية التركية وزعيم حزب العمال الكردستاني الذي يمثل اليسارية الكردية عبد الله أوجلان الزهور فيما بينهما، في لقاءٍ جرى في أحد المعسكرات التابعة للعمال الكردستاني، مع أنهما يظهران العداء لبعضهما البعض بل يعتبر أحدهما الآخر نقيضه. وليس لهذا الأمر أي تفسير منطقي سوى أنهما يعملان لحساب جهاز المخابرات الموجّه من قبل الدولة العميقة.
فريق خاص لتحريض دول العالم على الخدمة
حسناً لنعد الآن إلى يومنا هذا..
ومع أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يبدو أنه استطاع إقناع قسمٍ من الشعب التركي بصحة بعض مزاعمه حول حركة الخدمة، في ظل سيطرته الكاملة على كل وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة، وغيابِ أي إعلام معارضٍ، لكنه مني بفشل ذريع في محاولته لإقناع الدول الأجنبية بها، الأمر الذي يدفعه إلى الجنون واللجوءِ إلى كل أنواع الخداع والمكيدة لتحقيق ذلك.
فبعد أن أخفق أردوغان في إقناع العالم بـ”إرهابية” حركة الخدمة، بدأ يبحث عن طرق بديلة لإثبات زعمه هذا. إذ كتبت مصادر مطلعة أن جهاز المخابرات، الذي يعمل بالتنسيق المباشر مع أردوغان، وضع خطةً تشتمل على إرسال مجموعة من رجاله المحترفين إلى كل أنحاء العالم، وبصفة خاصة إلى الدول العربية، لينضموا بصورة طبيعية لا تلفت الأنظار إلى صفوف العاملين في المؤسسات التعليمية والمنظمات الخيرية التابعة لحركة الخدمة، وذلك تمهيداً لوضع أدوات، بما فيها أسلحة وذخائر، في تلك المؤسسات، ومن ثم إبلاغ السلطات الأمنية المحلية لتقوم بعملية مداهمة ضدها، لتضبط متطوعي الخدمة وهم متلبسون بالجريمة مع أدلتها المادية، في مسعىً منه للتدليل على أن الخدمة حركة إرهابية ينبغي الحذر والحيطة منها، وتحريضِ السلطات المحلية في تلك البلدان على إغلاق تلك المؤسسات.
يا لها من مكيدة شيطانية شنعاء!
ملهم أردوغان في القضاء على الخدمة
حسناً، ممن استلهم أردوغان هذه الفكرة المرعبة، نظراً لأنه زعيم “إسلامي” من المفترض أن لا يلجأ لمثل هذه الأساليب التي تقشعر منها الأرواح والأبدان؟
أظنّ أنه لم يواجه أي مشكلة في الحصول على طريقةٍ تمكنه من إثبات “إرهابية” الخدمة في ظل وجود شريكه الإستراتيجي المحترف في تلفيق أحداث مزيفة وإلصاقِها بأناسٍ أبرياء لا تمت إليهم بصلة مثل شبكة “أرجينيكون” الإجرامية التي هي من تقود المخابرات في الوقت الراهن. فإذا رجعنا إلى عام 2009 نرى أن صحيفة “طرف” التركية المعروفة بميولها الليبرالية ومواقفها الجريئة نشرت وثيقة سرية في خبرٍ تحت عنوان “خطة القضاء على حزب العدالة والتنمية وكولن” تكشف عن خطةٍ أعدها الضابط العسكري “دورسون تشيشيك” بتوجيهٍ من رئيس هيئة الأركان العامة في تلك الفترة “إيلكار باشبوغ” للانقلاب على حكومة أردوغان والقضاء على حركة الخدمة معاً. هذه الخطة التي سميت بـ”خطة عمل لمكافحة الرجعية” كانت تؤكّد ضرورة إخفاء أسلحة وذخائر فيما يسمى بـ”بيوت النور”؛ المساكن الطلابية التابعة لحركة الخدمة، حتى يتسنى لهم إعلانها منظمة إرهابية ومحاكمة أعضائها في قضيةٍ ستفتح تحت اسم “منظمة فتح الله غولن الإرهابية المسلحة”. كما نصّت هذه الخطة على دسّ أدوات ومستلزمات في المؤسسات التابعة للخدمة من شأنها الإشارة إلى وجود علاقة وصلة بينها وبين تنظيمات إرهابية مثل حزب العمال الكردستاني، وأجهزة استخبارات عالمية مثل الموساد والمخابرات الأمريكية المركزية “سي أي إيه”.
نعم، إن هذه الخطة تم إعدادها في “الغرفة السرية” للدولة العميقة، وعثرت السلطات الأمنية على نسختها الأصلية، ثم قضت المحكمة بحبس من وضعها من العسكريين، وعلى رأسهم رئيس هيئة الأركان العامة وعديدٍ من كبار الجنرالات. ولما قررت الدائرة المختصة في محكمة التمييز العليا إطلاق سراح جميع المعتقلين في هذه القضية هاجمها أردوغان آنذاك واتهمها بـ”انتهاك الدستور والتدخلِ في قراراتٍ ليست من صلاحياتها”. وقال إن محكمة التمييز تدخلت في قضايا تنظيم أرجينيكون المعروضة أمام المحاكم الجزائية، ووصف قرارها بـ”السياسي”، ومن شأنه أن يفقد ثقة الشعب بالقضاء، كما ورد في خبرٍ نشره موقع الجزيرة عام 2010.
انتبهوا، إن هذه الخطة انزاح الستار عنها عام 2009 في الفترة التي كان أردوغان يظهر فيها “الحب” للأستاذ فتح الله كولن، بل يدعوه لإنهاء غربته والعودة إلى وطنه، وقبل 4 أربع سنواتٍ من بدء تحقيقات الفساد الشهيرة التي اعتبرها أردوغان محاولة انقلابٍ ضد حكومته. لكن يبدو أن أردوغان هو من تولّى، طوعاً أو كرهاً، تنفيذ هذه الخطة المشؤومة، حيث أغلق كل مؤسسات الخدمة في البلاد، وأعلنها حركة إرهابية، وأطلق عليها “منظمة فتح الله غولن الإرهابية” تماماً كما هو وارد في تلك الخطة المذكورة المكشوفة عام 2009.
تاريخ محاولات القضاء على الخدمة
لكن الواقع أن خطة القضاء على حركة الخدمة لم تُعَدَّ في هذا العام (2009)، بل كشفت جريدة طرف ذاتها في عام 2013 عن وثيقة سرية أخرى تدل على أن قرار القضاء على الخدمة اتُّخذ في اجتماعٍ لمجلس الأمن القومي عام 2004، وقد وقّع عليه كل أعضاء الحكومة آنذاك، وعلى رأسهم أردوغان. وبعد الكشف عن هذه الوثيقة، زعم أردوغان أن هذه القرارات لم تُطبَّق، بل اعتبرها في حكم العدم، وأنه وقع عليها تماشياً مع جنرالات الجيش، لكن نشرت الجريدة وثائق رسمية سرية أخرى، واحدة تلو الأخرى، أثبتت أن أجهزة الدولة طبّقت هذه القرارات بصورة تدريجية ومرحلية، حتى عام 2013، بل كشفت الجريدة عن وثيقةٍ تظهر أن كثيراً من المتعاطفين مع الخدمة تمّ فصلهم، أو نقلهم، أو تشتيتهم، من المؤسسات الحكومية والرسمية، في إطار تقارير أمنية واستخباراتية، والممارسات اللاحقة أثبتت صحة ذلك بشكل واضح دون الحاجة إلى دليل.
وبعد قرار القضاء على حركة الخدمة في ذلك الاجتماع عام 2004، اتخذ جهاز المخابرات مباشرة عديداً من الخطوات من أجل إرغام الخدمة والحركاتِ المماثلة لها في الفكر والسلوك من الحركات النورية التي تستلهم كلها فكر العلامة بديع الزمان سعيد النورسي على ارتكاب الجرائم وتبنّي العنف، في مسعىً لربطها بتنظيم القاعدة والإرهاب.
تأسيس تنظيم إرهابي لربط علاقة بينه وبين الخدمة
ويا لها من مصادفة عجيبة! فقد تولَّد من رحم الزمن فجأةً تنظيمٌ جديد تحت اسم “تحشية” بُعَيْد قرارات الأمن القومي هذه في عام 2004، ويَدَّعي زعيمه “محمد دوغان” أنه ينتمي إلى حركة النور، ويقرأ مؤلفات النور للعلامة بديع الزمان، ويشرح لأتباعه العبارات الغامضة في تلك المؤلفات. لكن في الوقت ذاته يلقي خطابات يدعو فيها أنصاره إلى الجهاد على نحوٍ لا يمكن لأي شخصٍ ينتمي لإحدى الجماعات النورية أن يقبله، ويحضّ على الانضمام إلى تنظيم القاعدة وأسامة بن لادن ويثني عليه.
والحقيقة أن هذا الرجل لم يكن سوى أداة لجهاز المخابرات ليخلق علاقاتٍ وروابطَ بين جماعته المرتبطة بالتنظيمات الإرهابية وحركة الخدمة وأمثالها لتُوضع جميعها في “سلة واحدة” وتُعلنَ حركات إرهابية، تماماً مثل مجموعة “عجزي ماندي” “النورية” التي مهدت الأجواء للانقلاب الأبيض عام 1997 بحركاتها ومظاهرها الاستفزازية، مع قلة عدد أعضائها، ثم اختفت هذه المجموعة تماماً بعد الانقلاب، لأنه لم يعد لها حاجة بعد أن أدت دورها! وما يلفت النظر في زعيم كل من هاتين المجموعتين مسلم كوندوز ومحمد دوغان هو السذاجة والجهل من الناحية الدينية والدنيوية.. لكن لا ضير، فإن السذاجة والجهل مطلوبان للمخابرات في مثل هذا السياق!
فراسة الأستاذ كولن
وهنا نرى أن الأستاذ فتح الله كولن يشير في خطابٍ له إلى تنظيم تحشية ويحذّر محبيه قائلاً: “من أجل جرّكم إلى الجرائم الإرهابية وتقديمكم كتنظيمٍ إرهابي يبادرون إلى تأسيس تنظيمٍ تحت اسم “تحشية” ويربطون ذلك التنظيم بتنظيم القاعدة”. نعم، أسست الدولة العميقة “تنظيماً نورياً زائفاً” لجرّ حركة الخدمة إلى الإرهاب ودنيا الجرائم. أما حركة الخدمة فاتخذت تدابيرها إزاء هذا التنظيم عبر فضحه في وسائل إعلام تابعة لها، والإعلان في وجه العالم أنه ليس هناك أي علاقة تربطها بهذا التنظيم.
لقد عمل جهاز المخابرات من خلال وسائل مختلفة على خلق صلة بين مجموعة تحشية المرتبطة بتنظيم القاعدة وبن لادن وحركة الخدمة، وفي الوقت الذي كان يستعد لتنظيم عملية ضد حركة الخدمة من خلال هذا التنظيم تدخّل جهاز الأمن وأحبط العملية المخطّطة. والزعم القائل بأن الفرق الأمنية التابعة للكيان الموازي (حركة الخدمة) أجرت عملية ضد مجموعة تحشية التي لا يتجاوز عدد أعضائها 120 شخصاً لأنها كانت تشكّل منافسة لها ليس إلا هراء ما بعده هراء. فهل يمكن أن يكون إنسانٌ شبه جاهل لا يزيد عدد أعضاء جماعته على 120 شخصاً منافساً لكولن بينما يستضيف سكنٌ طلابي واحد فقط تابع للأستاذ كولن 100 طالب؟!
إن الدولة العميقة تبذل كل جهودها منذ عام 2004 في إطار قرارات الأمن القومي للقضاء على حركة الخدمة بنصب عديدٍ من المكائد والفخاخ ومحاولة جرّها إلى دنيا الجرائم وإعلانها كتنظيم إرهابي، إلا أن الخدمة استطاعت تجنّب الوقوع في أي واحدة منها. ولما فشلت في القضاء عليها عبر تلك الأنشطة الاستخباراتية عمدت هذه المرة لإنجاز هدفها من خلال توظيف شخص من “البيت الإسلامي”، تفادياً للاعتراضات المحتملة التي ستأتي من الجماعات والحركات الإسلامية الأخرى. فوضعت خطة القضاء على كل من حركة الخدمة التي تشكل الأساس الفكري لـ”التديّن المحلي” وحزب العدالة والتنمية الذي يمثل “الإسلام المستورد” أو “الإسلام السياسي” بزعامة أردوغان. فنصبت المكائد ذاتها لأردوغان وأعضاء حكومته أيضاً، فدفعتهم باستغلال مطامعهم وطموحاتهم إلى دنيا “الفساد” و”الإرهاب” في الداخل التركي والسوري والمنطقة عامة، ففشلوا في تخطي هذا الامتحان حتى تناسخت أرواحهم مع روح الدولة العميقة وبدآ ينفذان العمليات معاً ضد الخدمة. ومحاولة الانقلاب الأخيرة التي دبرها رجال المخابرات المحترفين مع رجال أردوغان ليتمكنوا من إعادة تصميم الجيش بعد جهازي الأمن والقضاء في وقتٍ سابق شكّلت المحطةَ الأخيرة في تحقيق هدف إعلان الخدمة حركة إرهابية. حيث اقتنع قسم كبير من الشعب بإرهابية الخدمة في ظل الدعاية السوداء العملاقة التي تديرها كل الوسائل الإعلامية العاملة في تركيا دون استثناء، وحصل كل من أردوغان والمخابرات على فرصة وذريعة لإكمال عملية القضاء على الحركة وإغلاق جميع المؤسسات التابعة لها دون أي اعتراضٍ من أحدٍ، بل بتأييد فئات عريضة من الشعب التركي.
لكن مع كل ذلك، فإن هناك مشكلة كبيرة لا تستطيع الدولة العميقة ومعها أردوغان التغلب عليها وهي إقناع دول العالم بإرهابية الخدمة! لأن دول العالم تحصل على معلومات صحيحة عبر وسائل إعلام حرة، إلى جانب أجهزتها الاستخباراتية المختلفة، عما يدور في تركيا، وتتابع كل حركات وسكنات العاملين في الخدمة منذ 30 عاماً، فلا يمكن أن يؤمن بهذه المزاعم. ولذلك تؤكد مصادر مطلعة أن مجموعة من المحترفين أرسلوا إلى كل أنحاء العالم، وعلى وجه الخصوص إلى الدول العربية، لكي يتسللوا إلى مؤسسات الخدمة أو يستخدموا رجالاً لهم علاقة بها، ليقوموا بأعمال مشبوهة، بما فيها جرائم إرهابية، ويخلقوا صورة في أذهان السلطات المحلية وكأن الخدمة حركة إرهابية تمهيداً للضغط عليها لمنع نشاطاتها في تلك البلدان.
العدالة والتنمية بات جسداً بلا روح
ملخص القول: إن الجزء الأول من خطة أركان الدولة العميقة من العسكر والمدنيين وهو “القضاء على حزب العدالة والتنمية” نجح وتحقق فعلاً، حيث لم يعُدِ الحزب هو الحزب الذي نعرفه، بل تعرض لمسخ كلي بعد تخليه عن هويته الذاتية فأصبح جسداً بلا روح لتستقر فيه أخيراً روح الدولة العميقة ويغدو الوجه الجديد لها، أما القسم الثاني وهو “القضاء على حركة الخدمة” فيجب علينا أن ننتظر مزيداً من الوقت حتى نشهد اللقطة الأخيرة من الفيلم، حيث لم تغير أياً من مواقفها، ولا تزال تحافظ على “كينونتها الذاتية”، وتواصل أنشطتها في العالم، وإن أغلقت مؤسساتها في تركيا.