أرى مشهد اغتيال السفير الروسي فى تركيا من زاويتين، الاولى عبر مسار العمليات الارهابية الاخيرة التى هزت تركيا كحادثة بشكتاش ثم قيصري، فالعمليات الارهابية القديمة كانت تقتصر على مواجهات بين الاكراد وقوات الامن بشرق تركيا، أو عمليات تسفر عن عدد قليل جدا من الضحايا، ولا يعلم أحد منفذها الحقيقي، ولكن الامر هنا تطور وبات يضرب قلب المدن الكبرى ويسقط عشرات الضحايا وجميعهم من افراد الأمن، اما الزاوية الثانية وهى ليلة الانقلاب الفاشل، فجميعنا يعلم عندما بات اردوغان عبئا على أوروبا وبات يبتزها باللاجئين وبتصدير الارهاب لها، وبات يتحرك بالملف السوري ليس على رغبة واشنطن كما كان الامر فى بداية الحرب السورية، ثم التوجه نحو موسكو، بدأت تحرك واشنطن ادواتها بالقارة العجوز لاستئصال رجل تركيا المريض، وكان جون باس السفير الامريكي بتركيا هو ضابط الاتصال بين تلك الخيوط، الى أن فشل الانقلاب وبات أردوغان يوجه بوصلته نحو موسكو وطهران، خاصة وأن أردوغان رأى فى ليلة الانقلاب الفاشل بصمات دولة خليجية، وكان الداعم العربي الوحيد له خلال الساعات الاولى من الانقلاب هو قطر بينما التزمت السعودية الصمت، الى أن أستمال أردوغان السعودية مجددا بفضل وساطة تميم الذى أخمد بركان كاد أن ينفجر بين أنقرة وأبو ظبي بعد ليلة الانقلاب، ثم قدم أردوغان وعودا للرياض بأنه سينفذ مناطق آمنة فى شمال سوريا تحت سيطرة جيشه ستكون بداية مشروع إسقاط بشار، وكما صدقت السعودية اوباما وديفيد كاميرون وساركوزي وهولاند من قبل، صدقوا أيضا أردوغان ودعموه بكل قوة، بل وأكثر من ذي قبل، حتى أعلن اردوغان عن عملية درع الفرات، والتوجه نحو دابق لكي يعيد لذاكرة الجميع معركة مرج دابق منذ 500 عام، ولكنه وجد أنيابا حادة من الجيش العربي سوري، ورأى الاكراد يطلقون عملية “غضب الفرات” بدعم من الولايات المتحدة، ووجد بوتين يضع له خطوطا حمراء، وهنا سقط العثمانى مجددا امام الجميع، الذين كانوا يتلاعبون به منذ البداية، وهو يتوهم أنه هو من يتلاعب بهم. فبكل تأكيد ستبقى السعودية وقطر وإدارة اوباما أكثر الاطراف رفضا للطاولة التى تجمع وزراء خارجية روسيا وايران وتركيا، والاكثر تضررا بالاتصالات المستمرة بين سيرجى شويجو وحسين دهقان وجاسم الفريج وهاكان فيدان، حتى استشعرت السعودية غدر اردوغان مجددا، بعد أن ظهر أنه كان له الفضل الاول فى اتمام عملية تحرير حلب.
وإن اختصرت عناوين الصحف التركية زيارة تميم لتركيا لافتتاح مجمع اكيازي الرياضي بطرابزون او افتتاح نفق اورسيا، فكان السبب الحقيقي للزيارة هو تعديل بوصلة الارهاب بسوريا، بعد لقاء تميم مع قادة جبهة النصرة، وبعد محاولته فى تونس للسماح بعودة الدواعش مجددا الى تونس مقابل مساعدات مالية ضخمة.
وإذا كانت المانيا اكثر الاطراف الاوربية عزما على التخلص من أردوغان وتستشعر خطر العديد من العناصر التركية المقيمة على أراضيها، فعقل فرنسا الان يدور بين رؤيتين، الاولى قالها رئيس الاركان الفرنسي الاسبق أدوارد جيو بحديث هام اجرته مجلة لوبوان الفرنسية معه في فبراير 2014م عندما وجهت الصحيفة سؤالا له فحواه ما الخطر الذي يهدد أوروبا و الأمن العالمي حالياً؟ وكانت اجابة إدوارد جيو “إنها معسكرات تنظيم القاعدة في جنوب تركيا وتحديداً في مدن كارمان وعثمانية وشانلي أورفا، ولا أعتقد أن الأتراك أنشأوا تلك المعسكرات في هذه المدن هكذا اعتباطاً، بل هم سيزحفون علينا يوماً ما قبل أن يصدِّروا إرهابهم لجميع دول الشرق الأوسط بأكمله”
وهذا التصريح جاء بعد أن أكتشف الامن العام اللبناني فى 2012م عناصر تابعة للمخابرات التركية ببيروت يقدمون جوازات سفر فرنسية مزورة لعناصر تكفيرية.
اما الرؤية الثانية وهى الرؤية التى طرحها فرانسوا فيون المرشح لرئاسة فرنسا التى اتهم فيها بشكل مباشر كلا من قطر والسعودية بصناعة وتمويل الارهاب، قبل أن يرفض مقابلة ولي ولي العهد السعودي محمد بن سلمان أثناء زيارة الاخيرة لفرنسا.
بلا جدال ان الشرطى التركي الذى قتل السفير الروسي هو نتاج طبيعي للبيئة الاصولية التى صنعها اردوغان منذ أن تولى حكم البلاد، بجانب الخطاب المتناقض للقيادة التركية الذى أصاب عقل أنصار حزب العدالة والتنمية بخلل فى التفكير والتوجه، والاخطر ان هذا الشرطى القاتل صاحب الـ 22عاما وغيره من الاف الشباب تم تعيينهم بجهاز الشرطة والامن العام والجيش بدلا عن الضباط الذين تم اعتقالهم بتهمة الانتماء لحركة الخدمة، وإن أنصار حزب العدالة والتنمية يرون فى الشرطي القاتل بطلا قوميا، بينما الخليفة أردوغان يكيل له اللعان والسباب فى كل اتصال خارجى وفى كل تصريح، وبالتاكيد ستتساءل موسكو لماذا قام أردوغان بإقالة وزير الداخلية أفكان آلا وهو الاقوى، وأتى بضعيف الشخصية والمهنية سليمان صويلو كوزير للداخلية، وهو ما سيجعل اردوغان مشلول الحركة والتفكير فى الرد على نفسه قبل الرد على بوتين او اوباما.
ويبقى المشهد الاكثر غباءا للقيادة التركية الحالية عندما اتهمت الشرطي ذو الفكر التكفيري بانتمائه لحركة الخدمة.
كما لا نسطيع قراءة مشهد مقتل السفير الروسي بعيدا عن مشهد الكرك بالاردن والكنيسة البطرسية في مصر، فبعد تحييد الاردن عن التدخل فى سوريا، وغلق غرفة الموت التى كانت اجهزة مخابرات امريكا وبريطانيا واسرائيل وتركيا وقطر والسعودية يطبخون فيها السم لبشار الاسد، صبت السعودية وقطر كل غضبها على العاهل الاردنى، فتم قطع المساعدات المالية عن الاردن، بل وتم توجيه سموم قناة الجزيرة نحوها، وهنا لم أفاجأ بأن ارى حادثة الكرك، فمشهد تعامل الرياض مع العاهل الاردنى مشابه تماما لتعامل الرياض مع سعد الحريري الذى قد يفقد مؤخرا شركته العملاقة بالسعودية سعودي اوجية.
أما حادثة الكنيسة البطرسية بالقاهرة والتى راح ضحيتها 26 شخصا غالبيتهم من النساء والأطفال، فمنذ اللحظات الاولى تسأاءت لماذا الكاتدرائية تحديدا وهى أكثر الكنائس تأمينا فى مصر، وتعد الهدف الاصعب بين جميع كنائس مصر امام الارهاب، فيبدو أن هناك من اراد أن يرسل رسالة ما للكنيسة التى بها مقر قداسة بابا الاقباط، الذى كان متواجدا وقتها فى اليونان بعد غياب ربع قرن للكنيسة المصرية عن اليونان، فيبدو ان الحضور المصري على جميع الاصعدة باليونان لا يأتى على هوى البعض.
حقيقة الامر هي أن يوم 14 تموز الماضي كان أخر الايام الهادئة لتركيا، والايام القادمة هى الاكثر اشتعالا، فكل المعطيات تقول إنه من الصعب أن يكمل أردوغان عام 2017 وهو لايزال ف السلطة.
فادى عيد
الباحث و المحلل السياسى بشؤون الشرق الاوسط