بقلم: أرهان باشيورت *
منذ أن تم الكشف والإعلان عن أعمال الفساد والرشوة الكبرى في 17 و25 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، أطلقت حكومة أردوغان حملة من الهراء والكلام الفارغ أسمته “الدولة الموازية” كذريعة للتستر على أعمال الفساد والرشوة والقضايا التي تهم الرأي العام.
لكن هراء” الدولة الموازية” بات له مآرب عديدة لا يحصيها العدّ وأصبح ذا جدوى كبيرة، كالسكر في الشاي، أو الملح في الحساء، ودواء لكل داء، إنه يجدي في التغطية على ممارسات الفساد، وفي غلق ملفات تحقيقات التجسّس، وفي جمع وحشد المؤيدين بزعم” أنهم حاولوا القيام بانقلاب”.
كما يجدي هذا الهراء في إسدال الستار على محتويات المكالمات الهاتفية بحوزة أجهزة القضاء بالزعم بـ”أنهم تنصتوا حتى على عائلتي”، وفي الكشف عن ملفات الفساد السرية الأخرى الجاري التحقيق فيها حالياً وتفريغها من مضمونها أمام الرأي العام بالقول: “إنهم تنصّتوا على الجميع”.
ويجدي هذا الهراء في ذرّ الرماد في العيون لإخفاء جميع الأنشطة غير القانونية لمنظمة حزب العمال الكردستاني الإرهابية وتكوينها” قوات الدفاع الذاتية” المسلحة في حدود البلاد، بعد القول: “إنهم يعارضون مسيرة عملية السلام”.
تحديث “المزاعم الموازية” وفق الأجندة اليومية
وكذلك فإن” البارانويا الموازية” تجدي في إدخال تعديلات جديدة لجعل جهاز القضاء تحت إمرة وطوعِ السلطة السياسية بعد الادعاء بأنهم” سيطروا على القضاء”، وفي تشكيل كادر سياسي جديد في جميع الوظائف البيروقراطية وإطلاق حملة تصفية الأحزاب السياسية المعارضة بالزعم بـ”أنهم تغلغلوا في المناصب البيروقراطية”.
وتجدي هذه البارانويا في تمويه وإخفاء الدعم المسلح غير المحدود المقدَّم للمنظمات الإرهابية بالقول “إنهم يهددون الأمن القومي للبلاد”، وتجدي في جعل أكبر فضيحة رهائن في التاريخ نسياً منسياً عن طريق إصدارِ قانون لحظر النشر والحديث عن الأتراك المحتجزين في يد داعش منذ 3 أشهر بحجة “أنهم يعرِّضون حياة الناس للخطر والتهلكة”.
كما تجدي في منع توجيه أسئلة عن الأسباب الكامنة وراء تجنّب السلطات طلب طرد الكادر القيادي لحزب العمال الكردستاني لسنوات طويلة، وذلك عن طريق الإشارة إلى عدم موافقة الرئيس الأمريكي باراك أوباما على إعادة الأستاذ فتح الله كولن أو إبعاده من أمريكا.
كل ذلك كان تفعله “الدولة العميقة”قديماً
الواقع أن هراء “الدولة الموازية” له منافعُ ومآرب كثيرة لا تعد ولا تحصى، فمتى ما حدثت في البلاد تطورات جديدة تَعتبرها السلطة الحاكمة ضدها، وظّفت هذا الهراء في تغيير الأجندة واهتمام الرأي العام بإطلاق موجة جديدة من الحملات والعمليات، معلنة: “سيستمر كفاحنا إلى الأبد”.
ولأن هذه الحرب عبارة عن “حرب الظل” فإن بإمكانها أن تترك في الأذهان انطباعاً عن مدى الشجاعة النادرة لزعيم البلاد!
خلاصة القول هي أن مرض “البارانويا الموازية” شفاف مثل شفافية الماء الذي نشربه، ولا يمكن رؤيته كالهواء الذي نتنفسه، ونظرًا لأنه شيئ غير مجسّم ومجهول يتم استخدامه كذريعة في كل حادثة ولكل غرض من الأغراض.
وقديمًا كانت” الدولة العميقة” هي التي تقود مثل هذه الحروب النفسية تحت مسمى” مكافحة الرجعية” ،إلا أن الفرق بين الأمس واليوم هو أن السلطة السياسية المدنية هي من تقود هذه الحروب والعمليات النفسية بحجة مكافحة” الدولة الموازية” ،وكأن مصطلح” الدولة الموازية” بات درعاً غير مرئي يحمي السلطة من كل شيئ، ومع أنه ليس هناك من رآها أو لمسها حتى اللحظة إلا أنها تحوّلت بلاشك إلى مفتاح سحري في يد السياسيين بحيث يفتح كل الأبواب ويجلب إليهم كل المصالح ويدفع عنهم كل المشاكل.
فكِّروا معي فيما لو لم يكن الحزب الحاكم في البلاد يمتلك ذريعة من قبيل” الدولة الموازية” لكان اليوم مضطراً للخضوع للمحاسبة أمام القانون بسبب الادعاءات الواردة في فضائح الفساد والرشوة، الأكبر في تاريخ تركيا، وانزاح الستار عن أكبر قضية تحقيق تجسس عرفتها البلاد طيلة تاريخها المديد وظهر الساقطون في” مصيدة العسل” (نكاح المتعة)؛ ولأمكن الحديث عن حوادث العمل الناجمة عن عدم الرقابة والتفتيش، ولم يكن مصرع 302 عاملا جراء انفجار منجم “سوما” في مدينة مانيسا، غرب تركيا، نسياً منسياً؛ وتناولنا الوعود الخطيرة في مسيرة السلام الداخلي واستغلال حزب العمال الكردستاني الإرهابي وأخطاء الجهات المشرفة على مفاوضات السلام؛ وكان القانون يحاسِب اليوم من دفعوا بالدبلوماسيين الأتراك إلى يد داعش بسبب عدم إخلائهم من مبنى القنصلية رغم التحذيرات، والمسؤولين الذين لم يتمكنوا من إنقاذهم حتى اللحظة؛ وناقشنا الحكم الذاتي الكردي الذي أقامه امتداد العمال الكردستاني حديثاً في سوريا، والأسلحة المقدمة لداعش، والأخطاء الاستراتيجية والتكتيكية المتمثلىة في الفشل الذريع بخصوص الأزمة السورية، وكيف تحوّلت سياسة “صفر مشاكل” إلى “صفر جيران”.
وعلى الرغم من أن البارانويا الموازية عبارة عن قطعة صغيرة من القماش إلا أنه يستطيع ستر جميع العيوب، كما بدا لكم، ومن البدهي أن هذا الحال سيستمر ما دام الحكم في البلاد على هذا المنوال.
أما النقطة التي أجد صعوبة في فهمها؛ فهي قابلية قسم كبير من أفراد شعبنا للتوجيه بهذه السهولة وإلى هذه الدرجة وانصياعه وراء خرافات وأباطيل” البارانويا الموازية” حتى في أتفه القضايا التي لا تمت للواقع بصلة، لا أدري أذلك بسبب ضغوط الاندفاع الجماهيري، أم نتيجة الحملات النفسية وعمليات تشكيل الإدراك، أم التعصب الأعمى القائم على التحيز السياسي؟
تعريف الأستاذ كولن لـ”البارانويا الموازية”
عرّفالأستاذ فتح الله كولن في أحد دروسه البارانويا الموازية بقوله: “إن مرض البارانويا الموازية ذو نسب غير شرعي، وإن نسبة التنظيم الموازي لنا غير شرعية كنسبة ولد الزنا”.
* صحيفة “بوجون” التركية

















