إسطنبول (زمان عربي) – اعتبر العلامة الأستاذ فتح الله كولن أن ما تتعرض له حركة” الخدمة” من افتراءات هو ابتلاء هين من الله سبحانه وتعالي، بسبب اندفاع الحركة في حسن الظن بمن سماهم المشاغبين ودعمهم لحزب العدالة والتنمية الحاكم، في الفترة التي اعتقدت فيها الحركة أنه يعمل من أجل الديمقراطية في تركيا ويكافح الفساد والجماعات الإرهابية والانقلابية.
وقال الأستاذ كولن في لقاء مع محبيه وزواره إن حزب العدالة والتنمية اعتقد خطأ أن دعم حركة الخدمة له وحشدها الناس لتأييده كان دعما مطلقا له، بينما كان دعم الحركة هو دعم للمبادئ وليس لحزب أو لفرد.
ونشر موقع “herkul.org” على شبكة الإنترنت درسًا جديدًا ألقاه الأستاذ كولن، على محبيه وزائريه، حمل عنوان “أجيال واعية وفتنة آخر الزمان”، قال فيه:” “لقد خُدعنا! ولعل شدّ الله عز وجل آذاننا بلين ولطف، في هذه المرحلة، هو نتيجة لانخداعنا هذا، وسببه مبالغتنا في حسن الظن بالآخرين، وكأنه يُقال لنا بلغة الأحداث:” لماذا أحسنتم الظن إلى هذه الدرجة بأناس مشاغبين! وما الذي جعلكم تجوبون الشوارع، شارعًا شارعًا، من أجل هؤلاء المشاغبين؛ وحشدتم الجميع نساءً ورجالا، صغارًا وكبارًا، في سبيل دعمهم؟”، في إشارة منه إلى دعم حركة الخدمة الحزب الحاكم في تركيا حينما كان يؤيد المسار الديمقراطي للبلاد ويكافح الفساد والمنظمات الإرهابية والانقلابية وكل الأعمال الخارجة عن القانون، ولكن عدّه الحزب الحاكم دعماً مطلقاً من قبلها له، إلا أنه كان التحالفَ مع المبادئ وليس مع الأحزاب أو الأشخاص، كما بين ذلك الأستاذ كولن في تصريحات سابقة.
وفيما يلي أهم ما جاء في درس الأستاذ كولن:
اللهم اجعل أولادنا هم ذلك الجيل القادم الذي كان يناشده وينتظره الأستاذ العلامة بديع الزمان سعيد النورسي، ولكن إن يكنْ هذا الجيل المنتظر مثلنا – وليس مثلكم – فالأولى ألا يكون، علينا أن ندعو الله عز وجل أن يهبنا أجيالا وأولاداً صالحين، ونحن هنا نتحدث عن جيل جديد من الأولاد، وهو قسمان؛ الأولاد الصالحون.. والأولاد الفاسقون. فإن يكنْ ولدًا غير قادر على التزام خطّه (الشرعي) وحمايته، فعدمه أفضل من وجوده، وليس هذا هو الجيل المرغوب. وأمّا إذا سار على خطّكم أو نهجكم الصحيح واتبع الصراط المستقيم، فبه ونعم ، وما أجمله، وعندئذ نستقبله على الرحب والسعة، لأن ذلك هو الجيل الذي سيفتخر به مفخرة الإنسانية نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم.
يقول الرسول الأكرم (صلى الله عليه وسلم): “تناكحوا تكاثروا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة”، لكن إذا لم يكن الهدف من الزواج والتكاثر هو الجيل الذي سيتباهى به رسولنا، فلا يبقى حينئذٍ أي معنى وأهمية لهذا الزواج والتكاثر. وإن يطلب الزواج بهدف التكاثر العددي بمعزل عن النوعية والكيفية، وإن تنشأ أجيال خاوية مثل آلة المزمار الخاوية التي لا تزمِّر إلا إذا نفخ فيها الآخرون، فمن الأحرى والأجدر عدم وجود هذا الجيل. أجل، لا ريب أن رسولنا الأكرم لن يتباهى بجيل خاض في السفاهات والوقاحات، وليس في سيماه أثر من السجود، وتغلغل الصدأ في ضميره، ويسيل من عينيه الدم.
أما الجيل الذي أراده رسولنا عليه السلام أن يتكاثر، هو بلا شك ذلك الجيل المقبول عند الله عز وجل، الجيل الذي يسعى لتحصيل رضاه ورضوانه ويعيش في هذه الدنيا وفقًا لأحكام الدين المبين ويدعو الآخرين إليه.
نتيجة الكمّ بلا كيف؛ هي جماهير خاوية العقول وإداريون جهلاء
ولأنه لا يؤخذ هذا الأمر على محمل الجدّ اليوم، ولا يولى له الاهتمام المطلوب، فإن أمر المجتمع آل إلى أناسٍ قلوبهم وعقولهم خاوية وأصبح رهنهم وتحت رحمتهم. وسيأتي يوم على هذه الأمة تنشأ وتترعرع فيها أجيال لا تعرف حتى الأمور الواجب معرفتها، ولن يبقى هناك عالم. ثم لا يبقى هناك أناس يعملون بما يعلمون ويطبقون تعاليم دينهم بكل حذافيرها وبدقة متناهية، فتبدأ الجماهير عندها يتخذون الجهلاء رؤساء لهم ويسألونهم عن الأمور فيفتون دون علم فيضلون ويُضلون. إذ يقول رسول الله صلى الله عليخه وسلم: “إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا”.
ولهذا، ينبغي لنا أن نركّز على التكاثر “النوعي” أكثر من تركيزنا على التكاثر الكمّي المجرد، أجل، يجب علينا أن نكون أمة بحيث تصيح جهنم من الأسفل وهم يعبرون الصراط المستقيم “اعبروا فإن نوركم أطفأ ناري”، كما ورد في الحديث الشريف، وعندها، يتباهي بهم الرسول الأكرم ويقول “إن هذه أمتي”.
أما إذا كان الهدف هو التوسع والتكاثر من الناحية العددية فحسب، فلا يختلف مثل هذا الحشد عن القطيع، إذ يخرج عليهم قائد محتال ويخدع القطيع بالغوغائية والكلمات الرنانة المنمقة ويسحبهم وراءه حيث شاء.
فتنة آخر الزمان
في كتب الحديث قسم تحت عنوان “كتاب الفتن والملاحم”؛ يتحدث عن أحداث المستقبل، خاصة تلك الأحداث الرهيبة التي ستحدث آخر الزمان. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، في أحاديثه الشريفة الخاصة بفتن آخر الزمان، أنه سيخرج الدجال في آخر الزمان، ويؤمن به ويتبعه 70 ألفا من العلماء يلبسون الطيلسان أي العمامة.
وقال السلطان مصطفى الثالث وهو يئن بوجع وألم إزاء الأزمات الداخلية إلى جانب الأزمات العمومية على وجه الأرض:
أَتحسب أنه سينصلح حال بلادي والعالم بأسره مهدّم الأركان؟
وأسفاه، فعجلة المصائب أسقطت قدر بلادي في أيدي عديمي الحياء!
هلا مددت البصر وشاهدت المهرجين الذين يجولون على أبواب المنازل التي اعتمدت عليها الأمة وبحثت عن حقوقها
وإذا كان هذا هو الحال، فأمل الخلاص والنجاة في يد الرحمة السرمدية سبحانه وتعالى
وقال الشاعر أشرف:
لقد فسد النظام ولا ينصلح حتى وإن جاء المهدي المنتظر
وأمر إصلاح هذا الملك يعود إلى الحق تعالى ولن يصلحه غيره.
صار الناس يرون الأكاذيب صدقًا، ولا يستطيعون وصف الخطأ بالخطأ، لأنهم يفكّرون “لو قلت الحقيقة لقطعوا الطريق أمامي.
وإن تحديت هؤلاء الناس، سيضعون يدهم على ما أملك، وسيخضعون ما أحوزه من أموال للرقابة والمحاسبة، وأتعرض لالتزامات مالية غير محقة”.
لقد خدعنا في هذين الأمرين
وأتذكر هنا الكلمات التي قالها أحد أصدقائي، وعلى الرغم من أنها تحمل في طياتها القليل من التشاؤم، إلا أنها مثال رائع من حيث أنها تصوِّر جيداً الحالة التي نعيشها اليوم: “لم أستطع أن أجد في هذه الدنيا حبيبًا وفيًا صادقاً.. حتى من قلت عنه إنه وفيّ صادق كشف لي الزمن أنه منافق”، وأنا بدوري أدخلت من عندي تعديلا عليها لأمنحها قليلاً من التفاؤول والحقيقة، وقلت: “يبحث الإنسان دائمًا عن وفي صادق.. وقد يظهر أنه من زُعِم أنه صادق منافق”.
نعم، لقد خُدعنا فيهم، ولعل شدّ الله عز وجل آذاننا بلين ولطف في هذه الأيام ناتج عن ذلك. وكأن الأحداث تقول لنا بلسان حالها: “أيها لأشقياء! لماذا أحسنتم كل هذا الظن بأناس مشاغبين! وما الذي جعلكم تجوبون الشوارع شارعًا شارعًا من أجل هؤلاء المشاغبين؛ وتحشدون النساء والرجال والصغار والكبار في سبيل دعمهم؟”
لقد سكبوا عليهم مياهاً ساخنة في المنازل التي ذهبوا إليها (طلباً لدعم الحزب الحاكم) حتى لا يأتوا إليها مرة ثانية. إلا أنهم ظلوا ثابتبن على موقفهم الذي ظنوه ورأوه حقاً. وكان شغلهم الشاغل أن تتجسَّد الحقوق الإنسانية العالمية داخل المجتمع على نحو سليم، فهم ظنوا أن هذا هو الطريق المؤدي إلى الديمقراطية الحقيقية وإلى السلام والوئام مع العالم.
وكما يقول الحديث إن حسن الظن من حسن العبادة. لكنهم أفرطوا، وكذلك أنتم أفرطتم، ولا يزال هناك من يفرطون منهم ومنكم في هذا الظنّ، إذ كان ينبغي أن تبقى دائرة الملاحظات مفتوحة بينما تحسنون الظنّ بهم. فلماذا لم تفكِّروا: “يا تُرى هل هكذا الأمر، أم قد يطعنوننا بالخناجر في ظهرنا؟ أم يسلمون زمام الأمور ويفتحون أبواب الدولة لأشخاص تافهين ويتبنون نظام المحسوبية؟ بالله عليكم، لماذا لم تتحركوا بقليل من الحصافة والحكمة؛ وأبقيتم أبواب حسن الظن مفتوحة على مصراعيها، وأغلقتم دائرة الملاحظات كافة؟ ولماذا لم تشعروا بضرورة الرجوع إلى ملاحظة الأستاذ سعيد النورسي الآمرة بـ”حسن الظنّ وعدمِ الاعتماد”.
ويقول الأستاذ النورسي غفر الله له: “إن نتيجة حب غير مشروع هي عذاب بلا رحمة”. إن كان بعض الأشخاص لا يستحقون هذا المستوى من الحب والتقدير والدعم، فقد يصفّعكم الله ويعذبكم بلا رحمة، لمبالغتكم وإفراطكم في هذا الموضوع. ليتكم احتكمتم إلى عقولكم وفكرتم قليلا واستخدمتم ضمائركم وعرفتم أن بعض الأشخاص قد يظهرون في صورة ملائكة بينما هم ميفيستو فيليس (الشياطين).
والآن ما يقع على عاتقنا هو أن نقول أولا: “ياربي لقد بالغنا في حسن ظننا، ولم ننل رضاك، وتعاقبنا على ذلك، نتضرّع إليك أن تعفو عنا وتغفر لنا”. ثانيًا: “أفرطنا في حسن الظنّ بهم بصورة مخالفة لرضاك، وعقدنا عليهم آمالا كبيرة وانتظرنا منهم أن يأخذوا بأيدينا إلى القيم الإنسانية العالمية وللديمقراطية الحقيقية، وأن يؤسسوا العدالة الاجتماعية من أفقر هذه الأمة إلى أغناها على غرار ما تحقّق في عهد سيدنا عمر رضي الله عنه).. ولذلك تعاقبنا اليوم على هذا الاهتمام المفرط. فنرجو أن تغفر لنا يا ربنا!”.
وإذ قلت سيدنا عمر رضي الله عنه، تذكرت عندما وضعوا أمامه إناء من الحساء، وقال لصديقه: “هل أفقر رجل في المدينة باستطاعته شرب هذا القدر من الحساء؟”، قال “لا أظن يا أمير المؤمنين”، فقال: “فلن أشربها إذن”.
كان أمير المؤمنين يكتب رسائل إلى علية القوم في فترة خلافته، يخبرهم فيها بأنه يريد أن يعرف الفقراء. وجاء وفد من حمص إلى أمير المؤمنين عمر، فكلفهم أمير المؤمنين أن يكتبوا أسماء فقرائهم حتى يبعث إليهم بالمال الذي يعينهم على قضاء حوائجهم، فكتب الوفد أسماء الفقراء وعلى رأسهم اسم سعيد بن عامر. وعندما قرأ الخليفة اسم سعيد استغرب أشد الاستغراب، فقال له أحد الصحابة: والله يا أمير المؤمنين إن أميرنا سعيد لتمرّ عليه الأيام الطوال ولا يوقد في بيته نارا، ولا يقبل أي هدية خشية أن تكون رشوة، فبكى الخليفة عمر حتى ابتلت لحيته، ثم بعث لسعيد بصرّة فيها ألف دينار، قائلاً للوفد: اقرئوا سعيدا مني السلام، وأعطوه هذه الصرة”، وهكذا كان العدل والإسلام في عهد سيدنا عمر.
يقول الشاعر التركي الكبير محمد عاكف أرصوي: “دع عنك الإسلام فلم تعد هناك حتى الإنسانية.. وإن كان المقصد خداع العالم، فالجميع خادع وليس هناك مخدوع.. كل من أعرفهم مسلمين حقيقيين صاروا في المقابر.. أما الإسلام فلا أدري ربما في السماء”!
لقد انخدعنا كثيراً وما زلنا ننخدع.. ولا شكّ في أن حساب الانخداع ثقيل للغاية.. ليحفظكم الله من الانخداع بعد أن عزمتم أن لا تُخدعوا مرة أخرى.