القاهرة (زمان التركية) – “نقطة تحول” كان هذا الوصف الذي أطلقه الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” ليعبر عن خسارة حزبه للانتخابات البلدية التركية لصالح المعارضة لأول مرة منذ تأسيسه قبل 22 عام، حيث أجريت الانتخابات يوم 31 مارس 2024 في 81 ولاية وهي عدد الولايات التركية كلها، وأسفرت عن فوز مرشحي حزب “الشعب الجمهوري”العلماني أكبر أحزاب المعارضة بنسبة (37.7%) مقابل (35.5 %) للحزب الحاكم “العدالة والتنمية”، وجاء في المركز الثالث حزب “الشعوب الديمقراطية” الكردي، وقد رحب “الشعب الجمهوري” بفوزه الأول على الحزب الحاكم منذ عقدين كما أن هذا الفوز كان مضاعفا لأن الحزب احتفظ بأكبر وأهم الولايات ومنها (إسطنبول، أنقرة، أزمير، أضنة) وأضاف لها معاقل كانت تابعة للعدالة والتنمية مثل (شانلي أورفا)، وهو ما طرح عدة تساؤلات عن دوافع تحول الناخبين التابعين دوما “للعدالة والتنمية” لتغير توجهاتهم وهل كان هذا بسبب رفضهم لسياسات الحزب وأنهم اتجهوا “للتصويت العقابي ضده”، كما أنه طرح تساؤلات حول مستقبل الحزب الحاكم، و”أردوغان” نفسه بعدما رجحت تقارير عدة ترشح عمدة إسطنبول الفائز للمرة الثانية بالانتخابات البلدية “أكرم أمام أوغلو” للانتخابات الرئاسية المقبلة المقررة عام 2028 لأنه استطاع الفوز على “أردوغان” مرتين، والأخير وفقا للدستور الحالي لا يحق له الترشح مرة ثالثة للانتخابات دون تعديلات دستورية واستفتاء شعبي ربما يخسره كالانتخابات المحلية، ورغم ثقل الهزيمة التي يشعر بها “أردوغان” لأول مرة إلا أانه تقبلها وأقر بها ووعد “باحترام قرار الأمة”، مما ينذر بأنه سيقوم بمراجعة وإعادة هيكلة لحزبه سيتحدد بناء عليها المشهد السياسي المستقبلي في تركيا.
أولا: المشهد الإنتخابي التركي:
1- أهمية الانتخابات المحلية:
تحظى الانتخابات المحلية في تركيا بأهمية كبرى بعكس عدد من الدول الآسيوية أو النامية، وتجري كل 5 سنوات، وتنبع أهميتها من أنها تعد مؤشر على الخريطة الحزبية بتركيا، كما أن رئيس البلدية يمتلك عددًا من الصلاحيات الهامة التي تعزز مكانته كشريك في الحكم مع رئيس البلاد ومنها (الإشراف العام على البلدية وحماية حقوق ومصالح البلدية، واتخاذ التدابير اللازمة لتنفيذ فعّال وكفء للخدمات التي تقدمها البلدية والمؤسسات التابعة لها، وإعداد مقترحات الميزانية الخاصة بالبلدية، وضمان تحصيل المستحقات والعائدات، وإبرام العقود نيابة عن البلدية، وقبول التبرعات وتوفير المدخرات اللازمة، وتمثيل البلدية وتعيين موظفيها) وتركيا بها 81 بلدية رئيسية تتفرع عن كل منها بلديات فرعية وأكبر الولايات هي أسطنبول التي يبلغ عدد سكانها 16 مليون نسمة أي خمس عدد سكان تركيا البالغ 85 مليوناً ولها 48 بلدية فرعية كما أنها المركز الاقتصادي بالبلاد، وأكد “أردوغان” أكثر من مرة أن “من يحكم إسطنبول يحكم تركيا” وأن “البلديات هي سر البقاء بالسلطة”، كما أن:
– هذه الانتخابات تميزت بأن أحزاب المعارضة التركية رفضت خوض الانتخابات ضمن تحالف “الأمة” الذي شكل من ست أحزاب معارضة وخاضت الانتخابات الرئاسية والبرلمانية السابقة، كي يظهر كل حزب قوته، بينما حافظ الحزب الحاكم على تحالفه (الشعب) الذي يضم 4 أحزاب بينهم “الحركة القومية”.
– تميزت الحملات الدعائية للانتخابات التي استمرت قرابة الشهر قبل بدء التصويت، بأنها كانت متعددة وركزت على إسطنبول نظرا لأهميتها وثقلها السكاني والسياسي والاقتصادي، وقاد رئيس الحزب الحاكم “أردوغان” بنفسه الحملات الدعائية وشارك فيها كلها حيث زار 40 ولاية هامة وعقد مهرجانات انتخابية بوتيرة كبيرة وصلت أحياناً إلى 4 مهرجانات يوميا، في المقابل كان منافسه الرئيسي حزب “الشعب الجمهوري” يعقد مؤتمرات انتخابية موازية بيد أنه اعتمد على المرشحين أنفسهم وليس رئيس الحزب، وربما أفاده ذلك في تحقيق الفوز حيث تعرف الناخبون على المرشحين عن قرب لأنهم لن ينتخبوا رئيس الحزب في البلديات.
– سيطرت بالحملات الانتخابية قضايا رئيسية هي :
- تراجع الاقتصاد التركي: يشهد الاقتصاد التركي منذ أربع سنوات معدلات تراجع مستمرة وأرتفعت خلال العام الأخير، حيث بلغت نسبة التضخم 67 %، وفقدت العملة التركية (الليرة) أكثر من نصف قيمتها وسجلت (31 ليرة مقابل الدولار)، مما أدى لارتفاع معدلات كافة السلع والخدمات بالبلاد وسط تراجع القدرة الشرائية وتدهور مستوى الخدمات المقدمة، ورفض “أردوغان” زيادة المعاشات رغم أنه ضاعف الحد الأدنى للأجور، فضلا عن تدخلاته في السياسات الاقتصادية مما أدى لتفاقم الأزمة.
- اللاجؤون السوريون: يبلغ عدد اللاجئين السوريين في تركيا نحو( 3.4 لاجئ سوري) يتم استغلال قضيتهم في كل استحقاق انتخابي، حيث انتقد “أردوغان” محاولة بعض أحزاب المعارضة التركية استثمار قضية اللاجئين السوريين في بلاده، حيث تعهدت أحزاب المعارضة العلمانية والقومية بترحيل السوريين والتضييق عليهم وعدم منحهم إقامات جديدة بتركيا حال فوزهم بالانتخابات البلدية، وهناك البعض ممن يحمل اللاجئين المسؤولية عن تراجع الاقتصاد التركي، كما تحذر المعارضة من التغير الديمغرافي الذي يمكن أن يحدث بالبلاد نتيجة تضاعف أعداد اللاجئين وحذروا من وجود “سوريا صغيرة في تركيا”، جدير بالذكر أن هناك أعداد بعشرات اللالاف من اللاجئين الأفغان والعراقيين والإيرانيين في تركيا بيد أن التركيز ينصب على السوريين نظرا لكثرة عددهم، وانتشارهم داخل المجتمع التركي لاسيما في إسطنبول.
- القضية الكردية: تسيطر القضية الكردية على المشهد السياسي التركي باستمرار، حيث يبلغ عدد الأكراد نحو 15 مليون مواطن كردي تركي بيد أنهم لا يتمتعون بنفس الحقوق وتمارس حكومة “أردوغان” حملات اضطهاد ممنهج ضدهم منذ 2016 بعد اتهامهم بالتورط في الانقلاب العسكري الفاشل آنذاك، وقد أعلن “أردوغان” خلال الحملات الانتخابية أنه “لن يتفاوض مع الإرهابيين” في إشارة إلى بعض التنظيمات الكردية، بينما أعلن مرشح حزب “الشعب الجمهوري” باسطنبول “أكرم أمام أوغلو” “أنه لن يغلق بابه أمام الأكراد والحوار بينهم مستمر” وهذا أدى لجذب أكبر عدد من الأكراد ليصوتوا له لضمان فوزه، ورغم هذا فقد أوضح السياسي الكردي “أحمد تورك” “أن حل المشكلة الكردية في تركيا بيد الرئيس أردوغان”.
2- مشاهدات يوم التصويت:
– يبلغ عدد الناخبين الأتراك 61 مليون ونصف تقريبا ، وشارك في الانتخابات مرشحين من 34 حزب تركي، وتم التصويت خلال يوم واحد هو 31 مارس 2024 من الساعة السابعة صباحا حتى الخامسة مساء، وتم رصد 600 ألف عنصر أمني لحماية صناديق الانتخابات المحلية التركية، وشهدت الانتخابات أقل نسبة مشاركة في أي استحقاق انتخابي تركي نتيجة عزوف ناخبي “العدالة والتنمية” عن المشاركة فيها لرفضهم سياسات الحزب.
-أكدت بعثة المراقبة للاتحاد الأوروبي أن الانتخابات أجريت في ظل “استقطاب حاد” بين الحزب الحاكم وأحزاب المعارضة وهذا صحيح وانعكس على نتائج الانتخابات التي فاز بها المعارضة بفارق نسبة بسيطة (2%) فقط عن الحزب الحاكم، وكانت البعثة قد شاركت بـ 26 مراقباً من 16 دولة أوروبية، راقبوا إجراءات التصويت في أكثر من 140 مركز اقتراع، بما في ذلك في المدن الكبرى إسطنبول وأنقرة.
– وفي شهادة ثمينة رحب مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي “جوزيب بوريل” “بالهدوء والاحتراف” اللذين طبعا الانتخابات البلدية في تركيا وأكد أن “إجراء انتخابات بلدية بهدوء واحتراف يشرّف تركيا، ويثبت التزام المواطنين لصالح ديمقراطية محلية”، جدير بالذكر أن مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي معلقة منذ 2018 نتيجة انتقاد البرلمان الأوروبي لتراجع الحريات العامة والديمقراطية وفرض قيود على حرية الرأي والتعبير بتركيا، بيد أن “أردوغان” ورغم خسارته بالانتخابات سيستغل هذه الشهادة للترويج “لنزاهة الانتخابات التركية” والديمقراطية بها التي سمحت بفوز المعارضة للرد على أي انتقادات توجه له في هذا الشأن.
– رغم الهدوء الذي ساد معظم المحافظات التركية خلال عملية التصويت، شهدت بعض البلديات أعمال عنف حادة بالمحافظات الكردية جنوب شرق البلاد، حيث قتل شخص وأصيب 12 آخرون في دياربكر، وأصيب 15 شخصاً في ولاية “شانلي أورفا”، وشهدت ولاية “شرناق” اشتباكات بعدما أدعى الناخبون وجود عمليات تزوير بها، وبعد إعلان النتائج تم مهاجمة منزل الفائز بمنصب عمدة بلدية مقاطعة “تيريبولو” في ولاية “جيرسون” عن حزب “الجيد”.
3- نتائج الانتخابات المحلية:
أعلن رئيس المجلس الأعلى للإنتخابات “أحمد ينار” غداة يوم التصويت عن فوز حزب “الشعب الجمهوري” أكبر أحزاب المعارضة بنسبة (37.7%) من البلديات وهو ما يمثل 35 بلدية، وحزب “العدالة والتنمية” الحاكم فاز بـ24 بلدية، وحزب “الشعوب الديمقراطية” الكردي فاز بعشر بلديات كلهم في جنوب وشرق البلاد، وحزب “الحركة القومية” فاز بـ 8 بلديات، وحزب “الرفاه الجديد” فاز في بلديتين، وكل من حزبي “الوحدة الكبرى” و”الجيد” فاز في بلدية واحدة، حيث:
– تمثل نتائج الانتخابات المحلية عام 2024، أول هزيمة سياسية للحزب الحاكم وزعيمه “أردوغان” لأنه خسر بشكل تام أمام المعارضة، كما أنها تمثل هزيمة معنوية له لأن “الشعب الجمهوري” استطاع الحفاظ على رئاسته في بلدية إسطنبول بفوز “أكرم أمام أوغلو” أهم ولاية تركية وأنقرة العاصمة السياسية بفوز “منصور يافاش” مما طرح الأسمين كمرشحين محتملين للانتخابات الرئاسية المقبلة وهو ما يمثل تهديدًا “لأردوغان” ولأي مرشح من حزبه نظرا للشعبية والخبرة السياسية التي يتمتع بها الرجلين.
– كما فاز “الشعب الجمهوري” بأكبر وأهم الولايات مثل (إزمير، أضنة، أنطاليا، مرسين) مما سيمكن حزب “الشعب الجمهوري” من حكم 62% من بلديات تركيا وهي ما تمثل نحو 80% من اقتصاد البلاد، كما أن “الشعب الجمهوري” فاز في بلدية “أسكودار” مقر أقامة “إردوغان” في إسطنبول، وفي بلدية “قاسم باشا” حيث ولد ونشأ الرئيس التركي وفي بلدية “كيتشي أوران” حيث مقر منزل “أردوغان في أنقرة، مما سيجعله ناخبًا لدى الحزب خلال السنوات الأربع المقبلة.
– خسر حزب “العدالة والتنمية” بلديات محافظة كانت تصوت له في كل انتخابات لصالح حزب “الشعب الجمهوري” ومنها (شانلي أورفا)، في المقابل فاز مرشحو “العدالة والتنمية” في بعض معاقل “الشعب الجمهوي مثل بلدة (طرابزون، ريزا)، ورغم هذا لا يمكن اعتبار ذلك تغيرًا في الخريطة الحزبية إلا إذا تكرر فوز كل حزب بتلك البلديات في كل الاستحقاقات الانتخابية المقبلة.
– نجح حزب “الشعوب الديمقراطي” الكردي في جميع البلديات ذات الأغلبية الكردية مما يؤكد أن التصويت فيها يخضع لاعتبارات “قومية” وليست سياسية، ومنها بلديات (ديار بكر وفان وماردين واستعاد باتمان وسيرت وهكاري)، بينما خسر (شرناق وقارص).
– حزب “الحركة القومية” رئيسه “دولت بهشلي” حليف “أردوغان” خسر 6 بلديات كانت ذات أغلبية قومية كانت تصوت له، وفاز في (جانكيري، وإرزينجان، وكرمان، وكيركلاريلي، وقارص، وغوموشان، وتوكات، وعثمانية)، وتحولت بعض الأصوات القومية في (بحر إيجة والبحر الأبيض المتوسط ومرمرة) لحزب “الشعب الجمهوري”، نتيجة لضعف المرشحين القوميين فيها.
وفي أول رد فعل للرئيس التركي “رجب طيب إردوغان” أكد في كلمته لأنصاره بمقر حزب “العدالة والتنمية” في أنقرة، “أن الانتخابات المحلية ليست هي النهاية؛ لكنها نقطة تحول، لأنها أظهرت أننا نفقد جزءاً من شعبيتنا في عموم البلاد، وسنحلل النتائج ونراجع أنفسنا. سنحاسب أنفسنا، وسندرس الرسائل الصادرة عن الشعب”، بينما أوضح رئيس حزب “الشعب الجمهوري” “أوزغور أوزيل” أن “نتائج الانتخابات أظهرت أن الناخبين قرروا تأسيس سياسة جديدة في تركيا، وتغيير الصورة التي استمرت 22 عاماً لتركيا، وفتح الباب أمام مناخ سياسي جديد”.
ثانيا: الدلالات والتداعيات:
1- لماذا خسر “أردوغان”؟:
من خلال قراءة أولية في نتائج الانتخابات يطرح تساؤل محدد وهو لماذا خسر الحزب الحاكم بزعامة “أردوغان” ولماذا فاز حزب “الشعب الجمهوري” المعارض في الانتخابات المحلية، على الرغم من أن “أردوغان” قد حقق فوزًا ثمينًا على تحالف “الأمة” المعارض الذي تكون من 6 أحزاب مجتمعة ضده هي (الشعب الجمهوري، الجيد، السعادة، الديمقراطية والتقدم، المستقبـل، الديمقراطي) في الانتخابات البرلمانية والرئاسية التي أجريت في مايو 2023 وكان الوضع الاقتصادي بالبلاد أسوء مما هو عليه حاليا، كما أن أحزاب المعارضة كلها اجتمعت ضده بعكس انتخابات المحليات التي خاضها “الشعب الجمهوري” منفردا، مما يدل على أن “أردوغان” نفسه قد ارتكب أخطاء سياسية أدت لهزيمته، وهو ما أدركه فور إعلان النتائج وأقر بالهزيمة للمرة الأولى منذ 22 عام ولم يلجأ للقضاء كما فعل عام 2019 بعد إعلان فوز “أكرم أمام أوغلو” ببلدية إسطنبول لأول مرة، وهناك عدد من العوامل التي أدت لذلك ومنها:
– تميز الخطاب السياسي لعمدة أسطنبول “لأكرم إمام أوغلو” بأنه كان خطاب خدمي معتدل بعيدا عن المشاحنات السياسية، وهو ما ميز معظم خطابات مرشحي حزب “الشعب الجمهوري” الذي طرح عدة قيادات سياسية جديدة جذبت الناخبين من “العدالة والتنمية”، بينما تحمل “أردوغان” على عاتقه مهمة خوض الحملات الدعائية بدلا من مرشحي حزبه مما أضعف ثقة الناخبين بهم، لأنهم في النهاية لن ينتخبوا “أردوغان”، كما أن الأخير قد قضى على الكوادر الحزبية الهامة حتى لا تنافسه سياسيا واختار مرشحين ضعفاء للبلديات غير مؤثرين أو يتمتعون بشعبية وخبرة في البلديات المرشحين فيها، مما أدى لعزوف الناخب عنهم، حيث يرى المواطن التركي أن الحزب الحاكم انصرف عن الاهتمام بالمحليات والخدمات وركز على الانتخابات الرئاسية والبرلمانية.
– حالة الاضطهاد السياسي التي يمارسها “أردوغان” ضد مختلف الأحزاب لاسيما “الشعوب الديمقراطية” الكردي، أدت لتوجه الناخبين من مختلف الأحزاب للتصويت “للشعب الجمهوري” أي أنه فاز عبر “التصويت بالرفض للعدالة والتنمية” حتى يفوز مرشحيه لأنهم يدركون أنه حال فاز مرشحين أكراد فأنهم سوف يمنعون من تسلم بلدياتهم وسيتم الطعن في النتائج كما حدث عام 2019، حيث تم سحب البلديات الجنوبية التي فاز بها المرشحين الأكراد ومنحها لنظرائهم من “العدالة والتنمية” بأمر قضائي، ولتجنب ذلك صوت الأكراد “للشعب الجمهوري”، وكذلك فإن بعض الكتل من حزب “الجيد” برئاسة “ميرال أكشينار” صوت للشعب الجمهوري أيضا بعد تردد أنباء عن فساد وتصدع بالحزب عقب عشرات الاستقالات به قبل الانتخابات.
– أظهرت النتائج أن إسطنبول وأنقرة أصبحا مركزين “للشعب الجهوري” الذي نجح بالفوز فيهما بالانتخابات البلدية مرتين في عام 2019 و2024، ولذا سيكون من الصعب للغاية استعادة حزب “العدالة والتنمية” لهما مرة آخرى في الانتخابات البلدية المقبلة، حيث أنهما يضمان النخب السياسية والثقافية والشبابية التي أبدت معظمها أكثر من مرة الرفض لسياسات “أردوغان” الاقتصادية والداخلية التي تتسم بقمع الحريات والتضييق على الصحافة واضطهاد الأكراد.
-حزب “الشعب الجمهوري” نجح في إعادة هيكلة قياداته من خلال مؤتمره العام الذي عقد في نوفمبر 2023، وأسفر عن فوز قيادي شاب لرئاسته هو “أوزيل” يعبر عن “تيار التغير” بالحزب، وهو صديق “لأكرم إمام أوغلو” الذي نجح في تغير الصورة الذهبية للحزب وانعكس ذلك على كافة المحافظات وليس فقط إسطنبول، حيث أكد الأخير في حملاته الانتخابية “صداقته للأكراد وأنه “لن يتخلى عن الأكراد”، كما أبدى تقاربًا مع التيارات الإسلامية وقبولًا “للسيدات المحجبات” في أروقة الحزب، وأكد بشكل متميز للحملات الانتخابية وركز على الخدمات وتحسين الوضع الاقتصادي والتفاصيل اليومية التي تهم المواطن، بعكس حملات “العدالة والتنمية” التي كانت تركز على المكتسبات والنجاحات السياسية التي حققها الحزب خلال العقدين الماضيين وهي لا جدال عليها، بيد أن المواطن في الانتخابات البلدية يهتم بما سيقدم له بشكل فعلي يوميا.
-فوز حزب “الرفاه من جديد” الإسلامي الذي أسسه عام 2018 “فاتح أربكان” نجل رئيس الوزراء الراحل “نجم الدين أربكان”، ببلدتين كبيرتين منها “شانلي أورفا” المدينة التاريخية أحد معاقل “العدالة والتنمية” بجنوب البلاد، جاء نتيجة تحول جزء من كتلة حزب “العدالة والتنمية” لصالحه، لأنه يتبني نفس النهج الأيديولوجي له ذو الخلفية الإسلامية، كما أنه انتقد بشدة سياسات “أردوغان” تجاه إسرائيل بعد حربها على قطاع غزة منذ 6 أشهر وطالب بقطع العلاقات التجارية معها.
– نجح “أردوغان” خلال الأشهر الست الماضية في إغضاب كافة شرائح المجتمع التركي، حيث إنه أغضب التيارات الإسلامية المحافظة التي تمثل كتلته التصويتية الرئيسية بإستمرار التجارة مع إسرائيل عقب حربها الشعواء على قطاع غزة المستمرة منذ أكتوبر الماضي، كما استمر العداء بينه وبين الكتل التصويتية العلمانية والنخب المثقفة وجمعيات حقوق المرأة نظرا لرفضهم لسياساته، وأغضب القوميين بالموافقة على انضمام السويد لحلف شمال الأطلسي “الناتو” رغم استمرار دعمها للجاليات الكردية بها الذين يعاديهم القوميين، كما تفاقم العداء بينه وبين الكتل والأحزاب الكردية عقب العمليات الإرهابية لحزب “العمال الكردستاني” ضد الجنود الأتراك مطلع العام الحالي وهو ما أدى لشن تركيا قصفًا عسكريًّا على مواقع كردية وإعلان “أردوغان” رفضه الحوار أو التفاوض معهم ووصفهم “بالإرهابيين”، كما نجح في خسارة أصوات المتقاعدين والذين بزيد عددهم عن 10 ملايين ناخب وهم من الكتلة المحسوبة “للعدالة والتنمية” لأنه رفض الاستجابة لمطالبهم بزيادة رواتبهم التي تبلغ (10 آلاف ليرة) حاليا بينما الحد الأدنى للأجور 17 ألف ليرة، وهو ما دفعهم للعزوف عن التصويت بالانتخابات وكانت أصواتهم فقط كفيلة بفوزه وحزبه بالانتخابات، هذا فضلا عن عدم تحقيق تقدم اقتصادي ملموس منذ نهاية الانتخابات الرئاسية الماضية بل تضاعف معدل التضخم والبطالة وتراجعت القدرة الشرائية وهو ما أثر على مختلف شرائح المجتمع.
2- تداعيات محتملة:
هناك عدد من التداعيات المحتملة التي يمكن أن نشهدها في الساحة السياسية التركية خلال المرحلة المقبلة بعد نتائج الانتخابات المحلية، والتي من بينها:
– إعادة هيكلة “العدالة والتنمية”: عقد الرئيس “أردوغان” يوم 2 ابريل الحالي اجتماعا للمجلس التنفيذي المركزي لحزب “العدالة والتنمية” لمدة 4 ساعات، لمراجعة نتائج الانتخابات وأسباب خسارته فيها، وأكد أنه “لا يوجد مسؤول في الحزب فوق المحاسبة، ولا يمكن لأحد أن يتهرب من المسؤولية عن الخسارة”، وألمح أن الخسارة جاءت بسبب (تراجع الاقتصاد، وباء كورونا، الحرب الروسية الأوكرانية)، ودعا للتخلص من “السلبية والغطرسة” التي بدأت تظهر في إدارة الحزب، وطلب من قادة الحزب تقريرًا عن أسباب الخسارة بأسرع وقت، ومن خلال هذا الاجتماع يتضح أن “أردوغان” سيتمسك بالسلطة وإعادة هيكلة الحزب ومعالجة أخطائه للحفاظ على ما حققه من إنجازات سياسية منذ عقدين حتى الآن، حيث نقل عنه “إما أن ندرك أخطاءنا، ونستجمع قوانا، ونمد جسور الحب مع أمتنا، أو نستمر في الذوبان مثل الجليد عند رؤية الشمس، لن أسمح لأحد مهما كان بأن يضيع 22 عاماً من الخبرة، والنضال الشاق”، وهذا التصريح يتوقع معه أنه سيتم إعادة هيكلة القيادات العليا والوسطى بالحزب وسيكون هناك إقالات لعدد منهم بسبب فشلهم في الانتخابات، كما ربما يلجأ “أردوغان” للتحالف مع أحزاب صغيرة ذات توجهات إسلامية منها (الرفاة من جديد والسعادة).
– عرقلة عمل البلديات: دعا رئيس بلدية إسطنبول “أكرم إمام أوغلو” الرئيس التركي وحكومته إلى عدم عرقلة المشروعات التي تعمل البلدية على تنفيذها على غرار ما حدث في السنوات الخمس السابقة وطلب لقاءه لبحث تلك المشروعات، وهو ما يعكس مخاوفه التي يشاركها عدد من رؤساء البلديات الجدد لاسيما العلمانيين والأكراد، من اتخاذ الحكومة التركية قرارات تعرقل عملهم كرؤساء للبلديات مما سينعكس سلبا على حياة المواطن التركي اليومية.
– إحياء تحالف “الأمة” المعارض: تعد النتائج التي حققها أحزاب “تحالف الأمة” المعارض بخلاف الشعب الجمهوري “مخيبة للآمال” فلم يتمكن 3 أحزاب من الفوز بأي بلدية، وفاز حزب “الجيد” بعدد قليل جدا لا يتناسب مع قوته الحزبية، مما دفع أصوات داخله لمطالبة رئيسته “أكشينار” بالاستقالة بيد أنها رفضت ذلك واعترفت بالهزيمة وتراجع الحزب ودعت لمؤتمر عام استثنائي للحزب قريباً، وكذلك فعل “على باباجان” رئيس حزب “الديمقراطية والتقدم”، وربما يشجع فوز حزب “الشعب الجمهوري” بالانتخابات البلدية أحزاب المعارضة ككل لإعادة إحياء “تحالف الأمة” المعارض لخوض الاستحقاقات الانتخابية المقبلة، لأنه شبه “مجمد” منذ مايو 2023 بعد الانتخابات الرئاسية الماضية.
– صعوبة تعديل الدستور التركي: ألمح وزير العدل التركي إلى ضرورة تعديل دستور البلاد، ومن بين المواد المرجح تعديلها هي مد فترات تولي الرئيس ليمنح ذلك “أردوغان” فرصة جديدة للترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة عام 2028، لأنه ترشح مرتين ولا يحق له مرة ثالثة، أو ربما يتم تعديل الدستور والعودة لنظام الحكم البرلماني حيث لا توجد مدد محددة لتولى رئيس الوزراء، وهنا يمكن “لأردوغان” تولى رئاسة الوزراء مرة ثانية، بيد أن هذه التعديلات تتطلب أغلبية برلمانية لا يملكها حزب “العدالة والتنمية” لذا سيلجأ للتحالف مع أحزاب آخرى، أو إجراء إستفتاء شعبي، وحال استمر الإستياء الشعبي من “العدالة والتنمية” ربما لن يتمكن من تعديل الدستور لإبقاء “أردوغان” بالحكم، أو فتح المجال للحديث عن خلفاء “أردوغان” المحتملين والذين من بينهم “أمام أوغلو” وصهر الرئيس التركي “سلجوق بيرقيدار” الذي طرح اسمه مؤخرا بقوة، ووزير الخارجية “حقان فيدان”.
– تصاعد القضية الكردية: فور الإعلان عن نتائج الانتخابات شهدت بلدية “وان” احتجاجات عدة بدأت يوم 2 أبريل الحالي، حيث رفضت السلطات تسليم رئيس بلدية “وان” ذات الأغلبية الكردية لرئيسها المنتخب من حزب “الشعوب الديمقراطية” الكردي وهو “عبد الله زيدان” رغم فوزه بها، وسلمت السلطة بالبلدية لمرشح حزب “العدالة والتنمية” “عبد الله أرفاس” رغم خسارته، مما أدى لإندلاع اشتباكات في البلدية وامتدّت لولايات جنوب وجنوب شرقي البلاد منها (أضنة، طمان، سيرت، شرناق، بتليس) ثم انتقلت لإسطنبول، ثم تم فرض حظر التجول في (وان، بتليس)، ومن العوامل التي ستصاعد الأزمة رغم قبول الطعن على النتائج، موقف “أردوغان” حيث أوضح أنه “لا يمكننا السماح لبارونات الإرهاب بقمع مواطنينا، وتهديد السلام والهدوء في مدننا، وجعل شعبنا يعاني آلام الماضي مرة أخرى”، هذا الموقف المنحاز لرئيس البلاد ينذر بتصاعد القضية الكردية في تركيا لاسيما مع استمرار استهداف المدن الكردية بشمال سوريا والعراق.
– إضطهاد اللاجئين السوريين: يوحي فوز مرشحي حزب “الشعب الجمهوري” والأحزاب القومية الذين تعهدوا بترحيل اللاجئين السوريين من البلاد، بتعرضهم لحملات اضطهاد ممنهجة وربما يتم وقف منحهم تأشيرات الإقامة أو “التضييق” عليهم، مما سيتطلب تدخلًا حكوميًّا لإقرار القانون وإنصافهم، كما يمكن أن يتعرضوا لاستهداف شخصي عبر (الضرب، القتل، تدمير محلاتهم) مثل الحوادث التي ظهرت خلال الأشهر الماضية، وسوف تتضاعف تلك الحوادث مع مضاعفة الأزمة الاقتصادية بالبلاد.
-زيادة الانقسام السياسي بتركيا: أسفرت نتائج الانتخابات البلدية عن حالة من الانقسام السياسي والمجتمعي بين التيارات العلمانية والقومية التي حازت ثلث الأصوات تقريبا، والأصوات الإسلامية المحافظة التي حازت الثلث الآخر، وحزب “الشعوب الديمقراطية” الكردي، مما يعمق حالة الانقسام المجتمعي بالشارع التركي، والتي سيكون لها انعكاسات اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية على مختلف الصعد خلال الفترة المقبلة.
خلاصة القول، أن تجربة الانتخابات المحلية التركية هي نموذج ملهم وناجح للدول النامية التي لا يهتم معظمها بإجرائها، كما أنها تؤكد قوة التجربة الديمقراطية التركية التي راهن البعض على جمودها بعد عقدين من سيطرة “أردوغان” على الحكم، ويجب التأكيد هنا أن معطيات الانتخابات المحلية مختلفة عن البرلمانية والرئاسية وربما تكرس نتائج تلك الانتخابات معادلة جديدة في المشهد السياسي التركي وهي سيطرة حزب “العدالة والتنمية” على منصب الرئيس وحزب “الشعب الجمهوري” المعارض على البلديات، وهذا ما سيتم اختباره في الاستحقاقات الانتخابية المقبلة بيد أنه من المؤكد أن شخصية “أردوغان” كزعيم سلطوي قوي لن يترك مكانه بسهولة بل إنه سيقاتل لاستعادة ثقة الشعب التركي فيه مرة آخرى وهناك أربع سنوات مقبلة هي بمثابة اختبار لقدرة “الشعب الجمهوري” على إدارة البلديات وحكمها، وفرصة أخيرة لحزب “العدالة والتنمية” لإعادة مراجعة سياساته وهيكلة قياداته لاستعادة كتلته التصويتية بالكامل، ولعل “أردوغان” سيركز أولا على تحقيق نجاحات اقتصادية ملموسة لأنها “مفتاح” إعادة كسب ثقة المواطنين به كرئيس حقق إنجازات على مدى عقدين من الزمان.
د. منى سليمان
باحث أول ومحاضر في العلاقات الدولية والشأن التركي