مصطفى أونال
تراق الدماء وتسيل الدموع كل يوم… فقد استشهد القائد بقوات الدرك الرائد أرسلان كولاكسيز الليلة قبل الماضية، كما سقط الرقيب ضياء ساربْقايا أمس شهيدًا. فالسُحب السوداء تهيمن على سماء تركيا بالكامل. وليس بالإمكان أن نكون متفائلين أبدًا؛ إذ إن السياسيين وعامة الشعب – على حد سواء – يشعرون بالقلق إزاء مستقبل هذا البلد.
هل تركيا في طريقها للعودة إلى حقبة التسعينات من القرن الماضي، حيث كان الإرهاب منتشرًا في ربوعها كافة؟ ذلك أن ما يحدث حاليًا يشبه إلى حد كبير تلك النقاشات التي كنا نشهدها فيما مضى.
هل ستُرفع دعوى لإغلاق حزب الشعوب الديمقراطي الكردي؟ إذ صرح أحد مسؤولي حزب العدالة والتنمية الحاكم بأنهم سيتقدمون بـ”دعوى قضائية” ضد الحزب ذي التوجه الكردي، وحجته في ذلك علاقة الحزب بتنظيم إرهابي، في إشارة إلى تنظيم حزب العمال الكردستاني… هل هم اطلعوا على هذه الصلة بينهما اليوم؟! بل إن الصلة بينهما أبعد من ذلك حيث إن الحزب يعتبر “الذراع السياسية” للتنظيم.
ألم تكن وفود حزب الشعوب الديمقراطي حتى الأشهر القليلة الماضية حلقة وصل بين عبد الله أوجلان في محبسه وزعماء التنظيم في جبال قنديل شمالي العراق بعلمٍ من حزب العدالة والتنمية الحاكم بل بطلب منه؟ صحيح أن علاقة حزب الشعوب الديمقراطي بحزب العمال الكردستاني تعتبر مشكلة. لكن ألم تكن سياسة حزب العدالة والتنمية الأساسية هي “مكافحة الإرهاب والتفاوض مع الجناح السياسي”؟ غير أنه لم يكافح الإرهاب ولم يتفاوض سياسيًا في واقع الأمر.
نعم إنه كان في حكومة العدالة والتنمية وزير يدعم مكافحة الإرهاب، ألا وهو وزير الداخلية السابق إدريس نعيم شاهين الذي دخل في صراع عنيف ضد تنظيم حزب العمال الكردستاني الإرهابي واتحاد الجماعات الكردية امتداد التنظيم في المدن التركية. لكن نهايته معلومة للجميع (أبعد عن منصبه الوزاري من قبل أردوغان واضطر فيما بعد إلى الاستقالة من حزبه بسبب احتجاجه على الظلم الذي تعرض له كثير من رجال الأمن بعد عمليات الكشف عن الفساد والرشوة في 17 – 25 ديسنبر 2013). فماذا قيل في حقه؟ قيل في حقه إنه “أمني” وأنه “فاشي”، وتعرض للإساءات، وفي نهاية الأمر عزل من منصبه، وذلك لمجرّد أنه كافح كفاحاً حقيقياً ضد العمال الكردستاني.
قال شاهين عقب الإعلان عن استقالته من منصبه إن “أمور الحكومة تديرها دائرة ضيقة من الأشخاص”. حسنًا، هل أُبعد شاهين من منصبه بمبادرة من حزب العدالة والتنمية فقط؟ لا، لأن الحقيقة تقول إن مطالبة حزب الشعوب الديمقراطي وحزب العمال الكردستاني بذلك كانت له تأثيرها أيضًا. فما قاله شاهين بالأمس واعترض عليه مسؤولو العدالة والتنمية بشأن حزب العمال الكردستاني والإرهاب يكرّره اليوم مسؤولون رفيعو المستوى.
لا يمكننا القول إن الحكومة التركية “تكافح الإرهاب”، فالمنطقة الجنوبية أُهملت لصالح التنظيم الإرهابي لدرجة أنه أعلن بعض المناطق محررة وأحاطها بالخنادق، فيما منعت الحكومة قوات الأمن من شنّ عمليات ضد العناصر الإرهابية. وقد قال سيف الدين يلماز، أحد مسؤولي حزب الحركة القومية المعارض، مخاطبًا رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان في قصره الرئاسي “لقد تقاسمتم السيادة الوطنية مع حزب العمال الكردستاني”.
وهل فاوض حزب العدالة والتنمية الأكراد من خلال السياسة؟ فعلوا ذلك قليلًا، لكن كل هذا لم يكن بالقدر الكافي؛ إذ لم يفِ أحد بوعوده، فلم يغادر العناصر المسلحة للتنظيم الأراضي التركية ولم يضعوا أسلحتهم. وكان واضحًا في ذلك اليوم أيضاً أن المشهد لا يحمل أي بصيص من أمل بشأن إتمام عملية السلام وحل القضية الكردية. فالحزب الحاكم ارتكب الكثير من الأخطاء سواء فيما يتعلق بـ”مكافحة الإرهاب” أو “التفاوض مع السياسيين”. هل تم التقاط “صورة دولمابهجة”، عقب اجتماع وفدي العدالة والتنمية والشعوب الديمقراطي، برغبة طرفٍ ورفض الآخر؟ فماذا عن نواّب ومسؤولي العدالة والتنمية الذين ظهروا في تلك الصورة مع ممثلي الشعوب الديمقراطي الموالي للعمال الكردستاني؟ وهل سيدفعون الثمن سياسيًا لظهورهم في تلك الصورة؟ وإلا ماذا يجب أن يقول أولئك الذين انهالوا بالمدح والثناء على تلك الصورة على حالهم اليوم؟ ألا يجب أن يتوب حزب العدالة والتنمية على ذنوبه التي ارتكبها في الماضي بعدما دافع اليوم عن سياسة مختلفة تمامًا لما دافع عنه بالأمس في وقت كانت الحقائق واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار وكل شيء يحدث أمام مرأى الشعب التركي ومسمعه؟
هل سيغلَق حزب الشعوب الديمقراطي؟ لا نعتقد أن النيابة العامة لن تلقي بالًا لرغبات المتحدثين باسم الحزب الحاكم. وعليه، يمكن أن يكون حزب الشعوب الديمقراطي “موضوعًا لنقاش قضائي” في الأيام المقبلة. فهل هذا هو الحل؟ بطبيعة الحال لا. فكم من أحزاب مشابهة قد أُغلقت قبل ذلك. إنه أمر مثير أن يكون حزب العدالة والتنمية الذي يحكم تركيا حاليًا قد ولد من رحم حزبي الرفاه والفضيلة اللذين أُغلقا. والأمر حاليًا لا يتعلق بإغلاق الحزب فقط، بل إن المسؤولين في أنقرة بدؤوا يتحدثون عن رفع حصانة نواب حزب الشعوب الديمقراطي في البرلمان.
صرح أردوغان وهو في طريقه إلى الصين قائلًا “لا أعتقد أن إغلاق الحزب خطوة صحيحة، غير أنه يجب أن يدفع مسؤولو هذا الحزب ثمن ما ارتكبوه”، ثم دعا البرلمان لاتخاذ ما يلزم من إجراءات.
يتحدث البعض خلف الكواليس السياسية منذ عدة أسابيع عن “حظر العمل السياسي” الذي يرغبون في تطبيقه على صلاح الدين دميرطاش ورفاقه، وهم يسعون ليجعلوا حزب الشعوب الديمقراطي يخوض الانتخابات المبكرة المقبلة بدون زعميه صلاح الدين دميرطاش.
لقد شهدنا رفع الحصانة البرلمانية عن بعض نواب الحزب الذي كان يسير على خطى حزب الشعوب الديمقراطي في تسعينات القرن الماضي، فألقت الشرطة القبض عليهم أمام البرلمان وأودعتهم السجن، فيما وصف حزب العدالة والتنمية هذا المشهد حينئذ بأنه خاطئ. وقد تأثر المتحدث باسم الحكومة بولنت آرينتش بما حكته إحدى النائبات البرلمانيات الكرديات لدرجة جعلته يقول “لو كنت مكانها لانضممت إلى صفوف حزب العمال الكردستاني في الجبال أيضاً!”.
إن الحديث حول رفع حصانة نواب برلمانيين ليس جديدًا. كانت النائبة جولتان كيشاناك، التي كانت في إدارة حزب السلام والديمقراطية (سلف حزب الشعوب الديموقراطي الكردي)، ورفاقها يظهرون في صورة وهم يعانقون عناصر من تنظيم العمال الكردستاني بينما كانوا في طريقهم إلى بلدة شيمدينلي. وماذا كانت النتيجة؟ اكتفى الجميع بالحديث فقط.
ولا بد من ذكر الكاتب الشهير عصمت أوزيل في هذا المقام إذ قال: “لقد جعلونا مضطرين للسير في كل طريق مسدود حتى نهايته لكي ندرك أنه طريق مسدود”. واليوم مرة أخرى نسير كذلك في طريق مسدود.
حسنًا، ما هو المصير؟ هل هو انتخابات مبكرة؟ أم أننا ننجرف نحو مغامرات لا يعلم عاقبتها إلا الله عزّ وجلّ؟
