تنهال الانتقادات العنيفة من كل شريحة في المحتمع التركي، لاسيما من الأوساط القانونية، على الفضيحة القانونية التي شهدها قصر العدل في مدينة إسطنبول يوم السبت الماضي أثناء أخذ القاضي إفادات قيادات ورجال الأمن المعتقلين بتهمٍ لا يعرف الرأي العام حتى الآن ماهيتها بالضبط، إذ سجلت عدسات الكاميرات شخصاً “غامضاً” وهو يخرج من غرفة القاضي، مما أثار الشبهات حول تدخل البعض في القضية.
وفي أعقاب احتجاز قيادات الأمن قسراً في قصر العدل، على الرغم من انتهاء المدة القانونية لاحتجازهم، خرج القاضي إسلام تشيتشاك من الجلسة وانسحب إلى غرفته، وعندما سأله رجال الأمن ومحاميهم عما يجري قال بأنه في اجتماع مع أحد، ولكن عندما استُفسر عن هوية الشخص المشارك في الاجتماع صاح قائلاً: “هيا إسماعيل اهرب!” ثم بدأ الشخص المدعو بإسماعيل، الذي كان يحوز سلاحاً، يجري في أروقة قصر عدل “تشاغلايان” نحو الباب في محاولة منه للهرب، لكن اعترض أمامه الموجودون في القصر وحاولوا إمساكه، غير أنه تمكن من الهروب بمساعدة الشرطة، كما جاء في التسجيلات المصورة.
وهذه اللقطات أثارت ردود فعل وسائل الإعلام ورجال القانون، واعتبروا ما حدث فضيحة من العيار الثقيل قضت على ما تبقى من العدالة في تركيا، فقد عمد النواب العامون والقضاة إلى إبداء آرائهم حول الفضيحة عَبر موقعهم الإلكتروني المعروف بـ(adalet.org)، إذ وصفوا الشخص الهارب بـ”رسول التعليمات”، في إشارة منهم إلى أنه كان يحمل تعليمات السلطة السياسية للقاضي المسوؤل عن النظر في قضية مديري ورجال الأمن الذين لا يزالون محتجزين أو بالأحرى رهائن في القصر العدلي، ذلك لأن المدة القانونية لاحتجازهم قد انتهت السبت الماضي، ولكنهم لا يزالون معتقلين بدون قرار اعتقال من القاضي والمحكمة.
ولفت القاضي في قصر العدل بمدينة إسطنبول نور الله تشينار إلى خطورة التلاعب الصارخ بالنظام الدستوري والقانوني في البلاد، والتعيينات المشبوهة والمشكوك فيها، ومطالبِ الإرادة السياسية في هذا الصدد ودعم المخابرات الوطنية والقرارات غير القانونية الصادرة مباشرة بعد التعيينات الجديدة.
فيما أكّد النائب العام في قصر العدل بالعاصمة أنقرة شرف كايا “أنه لا بد من إدانة من يتسبَّبون في حدوث مثل هذه الحالات المثيرة للشكوك والشبهات ولو كانوا زملائنا، لأن ضررها لا يقتصر على القاضي وإنما القضاء هو الذي يتلقى الضربة في الحقيقة”، ودعا الجمعيات القضائية لإبداء رد فعلها إزاء الأمر عبر نشر البيانات للرأي العام.
بينما شدَّد القاضي في مدينة سعرت جنوب شرق تركيا جلال الدين أوتش أكيز على أن حادثة “هيا إسماعيل اهرب” هي الصورة الملموسة للتدخُّل في عمل القضاء، في حين قال القاضي في مدينة ساكاريا شمال غرب البلاد علي تركمان “لا شكَّ في أنه يوجد من أمثال إسماعيل في كل مكان، ولكن المهم أن لا يفتح زملائنا من القضاة المجال أمامهم”.
من جانبه، أظهر النائب العام في مركز طارسوس التابع لمدنية مرسين جنوب تركيا صابر تشاليك بأسلوب تهكُّمي قائلاً: “لا بد أن القاضي بقوله “هيا إسماعيل اهرب” قصد “هيا أيتها العدالة اهربي”، وتبعه في ذلك القاضي في إسطنبول نور الله تشينار، حيث قال: “من الممكن أن يتحوَّل (هيا إسماعيل اهرب) إلى (هيا إسماعيل لنهرب معاً).
وفي إطار تعليقه على المزاعم الواردة حول كون الشخص الغامض واحداً من أفراد الشرطة، ساءل النائب العام في مدينة توكات شمال تركيا آيدين بيهان “ما غرض وجود موظَّف أمني في غرفة القاضي إن كان صحيحاً، وما السبب الذي دفعه إلى الهرب؟”
الجدير بالذكر أن الرأي العام في تركيا اعتبر حملة الاعتقالات التي طالت عشرات من قيادات الأمن أنها حملة انتقامية من حكومة حزب العدالة والتنمية برئاسة رجب طيب أردوغان، لأنهم كشفوا النقاب عن ممارسات فساد ورشوة تورَّط فيها أعضاء حكومته.
وكان النائب البرلماني عن صفوف حزب الشعب الجمهوري المعارض محمود تانال صرح بأن لديهم تسجيلات تثبت ما جرى بالتفاصيل، لافتاً إلى أنهم حرروا محضراً حول ما حدث من انتهاك قانوني قل نظيره، ثم أضاف قائلاً: “أوجه من هنا نداء عاجلاً إلى المجلس الأعلى للقضاء للقيام بواجبه إزاء هذا الأمر. ماذا يفعل شخص غامض في غرفة القاضي، ولماذا يطالبه القاضي بالهرب. لا بد من كشف هويته وما جرى بينهما من حديث. أدعو وزارة العدر والمجلس الأعلى للقضاء للتدخل والقيام بواجبهما لإنهاء الإجراءات غير القانونية”.
وأكد تانال أنه لا يمكن للقاضي إسلام تشيتشاك حتى الاجتماع مع مدير الأمن المشرف على التحقيق، فضلاً عن شخص غامض مشبوه، ولا يمكن لأحد توجيه مسارها إطلاقاً؛ فإن ذلك جريمة يعاقبها القانون، وأردف بقوله: “فإذا يقول قاضٍ لأحد في دولة يسودها القانون: (اهرب)، فإن ذلك يعني أن هذه الدولة دولة اللصوص وقطاع الطرق، ويسود فيها الاستبداد”.