بقلم: فيسل آيهان
نحن اليوم أمام عملية تستر على أكبر فضيحة فساد في تاريخ القانون التركي. والجميع يعرف حكاية اليهودي الروسي الذي سأله موظف الجمارك عن الحقيبة التي كان يحملها في أثناء خروجه من مدينة لينينغراد (سانت بطرسبرغ حاليًا) قائلاً: “ما هذا؟.
أجاب اليهودي على موظف الجمارك بقوله “كان عليك أن تسأل “لمن هذا”؟ بدلاً عن “ما هذا”، ثم تابع بقوله “فهذا تمثال لينين الذي أرسى أسس الاشتراكية، وحقق إنجازات للشعب الروسي. وأنا أنقله معي في سفري كذكرى للأيام المباركة”. وعليه، يسمح موظف الجمارك بعبور اليهودي.
وعندما وصل اليهودي إلى المطار في تل أبيب، سأله موظف الجمارك هذه المرة “ما هذا؟”، فرد عليه بالجواب نفسه “كان عليك أن تسأل “لمن هذا” بدلًا عن “ما هذا”؟. هذا تمثال لينين، هذا القاتل المجنون الذي بسببه اضطررتُ إلى مغادرة روسيا! فقررتُ أن أنقل تمثاله معي حتى أنظر إليه كل يوم وألعنه!” وعليه، سمحوا له بالعبور.
يذهب اليهودي إلى منزله، ويضع التمثال فوق البوفية، فيسأله أحد أبناء إخوته “من هذا يا عم؟”، فيرد عليه بقوله “كان عليك ألا تسأل “من هذا”، بل “ما هذا”؟. هذا تمثال من الذهب عيار 24 يزن 10 كيلوجرامات استطعت أن أدخله البلد دون ضرائب أو جمارك”.
إن فضيحة الفساد التي شهدتها تركيا مؤخرًا تذكرنا بهذا المكر الذي كان يتمتع به ذلك اليهودي. والفرق الوحيد بينهما هو أن ظاهار تماثلينا في تركيا مصقول وملمع بالإرادة الشعبية والحماس. ولقد انكشف أمر المرتشين في أكبر عملية فساد في تاريخ الجمهورية التركية وهم متلبسين، إلا أن الحكومة عمدت إلى عزل 20 ألف شرطي ومدير أمني ونائب عام وقاض من أجل التستر على فضيحة الفساد وتخويف من يجرؤ على فتح ملفها. والآن يروجون لادعاء يقول “قادوا انقلابًا ضد حكومتنا”، وأطلقوا حملة اعتقالات في صفوف المسؤولين الشرطيين والأمنيين الأبرياء. نعم، ثمة انقلاب حدث في تركيا، لكن ليس ضد الحكومة، بل ضد القضاء والشرطة.
لنذكر بالترتيب ما فعله المدعون العامون والشرطيون المتهمون بتدبير انقلاب ضد الحكومة، ولنسأل أي هذه الأفعال تعتبر انقلابًا:
1- كشفوا النقاب عن الأعمال غير القانونية التي كان تديرها بعض الخلايا داخل الدولة من السياسيين والبيروقراطيين.
2- وثّقوا فضائح الإعمار وفتْح الباب أمام إعمار المناطق المحمية عن طريق دفع الرشاوى بواسطة الوزراء ورؤساء البلديات.
3- أزاحوا الستار عن تسلّل بعض الأشخاص المرتبطين بالخارج إلى مجلس الوزراء عن طريق دفع الرشاوى، وكذا منح بعض الأجانب الموصوفين بـ”محبي الخير” الجنسية التركية. (كان أردوغان قد وصف رجل الأعمال الإيراني الحائز على الجنسية التركية رضا ضراب بمحب الخير، وذلك على الرغم من تورطه في قضية الفساد).
4- أظهروا للجميع العلاقات الظلامية لأبناء بعض الوزراء بعدما عثروا في منازلهم على أموال طائلة مخزنة في سبع خزائن.
5- أثبتوا بالوثائق علاقة وزيرٍ ولصٍ استطاعا عزل مدير للأمن في مقابل دفع مبلغ 400 ألف دولار أمريكي. (كان رضا ضراب قد استطاع عزل مدير أمن عن طريق تقديم رشوة مالية).
6- وثّقوا واقعة انتشار الرشاوى في بعض الوزارات من ملايين الدولارات المخبأة في صناديق الأحذية و500 ألف يورو مخزنة في أسفل عبوات الشيكولاتة، كما كشفوا عن حصول أحد الوزراء على رشوة عبارة عن ساعة يقدر ثمنها بـ700 ألف دولار.
7- كشفوا عن عزل والي مقاطعة أورلا التابعة لولاية إزمير غربي تركيا ونقله إلى ديار بكر في الشرق لعدم تغاضيه عن واقعة إعمار منطقة محمية من أجل بناء بعض الفيلات التي اتضح أن رجل أعمال أنشأها لصالح عائلة أردوغان في أورلا. كما كشفوا عن وثيقة الرشوة التي حصل عليها فريق الخبراء المشكَّل من أساتذة جامعيين لمتابعة قضية الفيلات نفسها.
8- أثبتوا بالدليل القاطع إجبار بعض المقاولين على شراء جريدة صباح وقناة (ATV) في مقابل الحصول على مناقصات المطار والطرق البرية.
9- كشفوا النقاب عن إلغاء العديد من المناقصات الكبرى بأوامر قادمة من أعلى السلطات بالدولة لإهدائها إلى مؤيدي الحكومة ومناصريها.
لا نريد أن نطيل أكثر من ذلك؛ إذ يمكن أن نسرد مئات المواد حول فضيحة الفساد المتستَر عليها. وكان أربعة وزراء قد اضطروا إلى الاستقالة من مناصبهم في الأيام الأولى لظهور فضيحة الفساد.
لقد اعتقلوا بالأمس المسؤولين الشرطيين الذين تولوا التحقيق في ملف الفساد بتهمة “تدبير انقلاب ضد الحكومة”. فأي المواد التسع التي ذكرناها أعلاه تعتبر محاولة لتدبير انقلاب؟ وكما قالت الصحفيّة نازلي إيليجاق “إن العصابة التي تتحدث عنها ترتشي وترتكب أعمالًا مخالفة للقوانين. فأول مرة أسمع عن عصابة تكشف النقاب عن تفاصيل ملف الفساد”.
فهل ينفعهم هذا التستر والخديعة بنشر ادعاء تدبير انقلاب ضد الحكومة؟ هناك آلاف الأدلة ومئات التسجيلات الصوتية التي تؤيد مزاعم الفساد. هذا فضلًا عن أن الملفات الخاصة بالوزراء المتهمين بالفساد في طريقها إلى البرلمان. وعلى الرغم من أن مجلس الأبحاث العلمية والتكنولوجية (TÜBİTAK)، الذي عيّن أردوغان رئيسه، قال إن هذه التسجيلات مفبركة، فهناك العديد من الشركات الدولية قد أكدت أن هذه التسجيلات ليست مفبركة إطلاقًا.
عندما يعود القانون يومًا ما فلن تكون لديهم الفرصة للنجاة كذلك اليهودي الذي استطاع إخفاء الذهب في تمثال لينين، وحينها سيظهر جليًا أن تماثيل الإرادة الشعبية والبطولة والحماس التي انخدع بها الشعب لا تحوي بداخلها أي إرادة شعبية، بل تحوي ذهب الفساد، ووقتها سيحاكَم الفاسدون والمتسترون عليهم.