رمزي مزير أوغلو – باحث وصحفي مقيم في دوسلدورف- ألمانيا
بدأت وتيرة الأحداث المثيرة بالتزامن مع انتشار أخبار تتعلق بادعاءات التنصت على تركيا، ثم اتسع نطاق هذه المزاعم بدءًا من افتتاح مكتب غير رسمي لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) الإرهابي في إسطنبول إلى تأسيس التنظيم معسكراً له في غازي عانتب، ومن تواجد المقاتلين الأتراك كثاني أكبر كتلة داخل التنظيم بعد العرب إلى اعتبار الداعمين للتنظيم مجرمي حرب.
ولاقت حملة دعاية منظمة حزب العمال الكردستاني الإرهابية في ألمانيا من أجل إخراجها من قائمة التنظيمات الإرهابية لقتالها ضد تنظيم داعش، صدى، وبدأت أصوات تتعالى في مجالس الولايات الألمانية، لا سيما من حزب اليسار، من أجل “إخراج حزب العمال الكردستاني من قائمة المنظمات الإرهابية”. وكان الإعلام الغربي قد استخدم وصف “التنظيم الإرهابي السني الراديكالي” لوصف داعش، الذي أصبح يتربع على رأس الأجندة اليومية في أوروبا، في الأيام التي احتل فيها العراق قبل أشهر قليلة، غير أنه بادر إلى تغيير هذا الوصف إلى “التنظيم الإرهابي الإسلامي الراديكالي” بعدما تلقى ردود فعل غاضبة.
صرحت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بأن أمن بلادها كذلك يقع تحت التهديد بينما كانت تشرح موقف حكومتها بشأن شحنة الأسلحة التي سترسَل إلى العراق، وذلك خلال جلسة خاصة عقدت في البرلمان الفيدرالي الاثنين الماضي. وأضافت ميركل أن قرار تقديم دعم تسليحي لقوات البشمركة الكردية شمال العراق لمواجهة تنظيم الدولة الإسلامية المتطرف يستند إلى حجج قوية، مؤكدة أن هذا الدعم يعتبر ضروريًا بالنسبة لأمن بلادها التي وقعت هي الأخرى تحت تهديد ذلك التنظيم الإرهابي، وفي الوقت الذي تخشى فيه ألمانيا من تهديد أمنها من قِبل تنظيم مجاور لأراضي تركيا، فإننا وأوروبا على حد سواء نتابع بقلق بالغ صمت أنقرة إزاء هذا التهديد الحقيقي.
كانت مجلة دير شبيجل الألمانية قد نشرت خبرًا قالت فيه إن جهاز الاستخبارات الألماني (BND) يتنصت على تركيا منذ عام 2009، وعقب ذلك مباشرة نشرت مجلة فوكس وصحيفة فرانكفورتر الألمانيتان تفاصيل مهمة بشأن سبب عملية التنصت وحول مضمون الأخبار التي سيستمر نشرها فيما بعد، أما هذه التفاصيل المهمة فهي على النحو التالي: الشك في كون تركيا دولة غربية، وعدم وفاء أنقرة بالوعود التي قطعتها على نفسها أمام حلف شمال الأطلسي (ناتو) والاتحاد الأوروبي في سياستها إزاء الملفين السوري والعراقي، وعلاقتها بالتنظيمات الراديكالية في الشرق الأوسط، وفي مقدمتها تنظيم داعش، واتخاذ هذه التنظيمات المتطرفة تركيا كقاعدة لتوفير احتياجاتها اللوجستية.
وفي الواقع، فإن هذه التفاصيل، أو بالأحرى هذه الحجة، كانت كافية لتوضيح سبب نشر أخبار التنصت على تركيا في توقيت كهذا، وكانت أجهزة الاستخبارات هي مصدر هذه الأخبار، وبالتالي فهمنا أنها – أي الأخبار – ستتواصل بشكل ممنهج، تتناول وسائل الإعلام بأنواعها كافة في دول الاتحاد الأوروبي، وعلى رأسها ألمانيا وبريطانيا، تنظيم داعش بشكل متواصل منذ نحو ثلاثة أسابيع. وللأسف يتابع الرأي العام والسياسة في تركيا هذه الأخبار والتعليقات عن بعد، غير أنها – أي هذه الأخبار – تشير بشكل صريح إلى أن تركيا بصفتها دولة داعمة للتنظيم الإرهابي. ويحاول القائمون على وسائل الإعلام هذه ترسيخ وعي لدى متابعي هذه الأخبار بأن تركيا دولة راعية للإرهاب في الشرق الأوسط. ونجد أن الإعلام الغربي يبذل ما بوسعه من جهد حتى يتبادر اسم تركيا إلى عقول الناس ما إن يذكر اسم تنظيم داعش كما كان الوضع في السابق بالنسبة لأفغانستان وارتباط اسمها بزعيم تنظيم القاعدة الراحل أسامة بن لادن.
وبطبيعة الحال يمكنكم أن تفكروا بأنه بالقدر الذي يتصرف فيه الإعلام الغربي وفق الأحكام المسبقة عندما يكون الحديث عن العالم الإسلامي، فإنه يتصرف كذلك وفق الأحكام المسبقة عندما يكون الحديث عن تركيا، لكن علينا ألا ننسى أن الإعلام الغربي ذاته كان قد نشر مئات الأخبار الإيجابية عن تركيا منذ صعود حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002 وحتى عام 2012 ،ولا شك في أن عشرات من الدبلوماسيين والبيروقراطيين بالحكومة التركية يعرفون هذه التطورات التي تعرضها شاشات التلفزة والصحف كل يوم، باستثنائي أنا ككاتب وأنتم كقرّاء، وهم في الوقت نفسه يعدون التقارير حول هذا ويوصلونها إلى الجهات المعنية. وعلى الرغم من أن الغرب يتناول هذه القضية على هذا النحو، لم نسمع أن مسؤولًا تركيًا خرج ليصرح ويقول: “إننا نعتبر تنظيم داعش تنظيمًا إرهابيًا، وإن الادعاءات التي تشير إلى أن تركيا تدعم هذا التنظيم ليس لها أساس من الصحة”.
نجحت ألمانيا في إنقاذ عمال فرع شركة سيمنز الألمانية المعروفة في شمال العراق من المنطقة التي يسيطر عليها مقاتلو داعش بالتعاون مع الحكومة المركزية في بغداد، وأكدت الخارجية الألمانية صحة الأنباء الواردة عن إنقاذ 50 عاملًا في الشركة، ثمانية منهم يحملون الجنسية الألمانية، من المنطقة التي تبعد عن العاصمة بغداد مسافة 200 كيلومتر شمالًا على متن مروحية تابعة للجيش العراقي وطائرة خصصتها الشركة لهذا الغرض. والسؤال الذي يسأله الجميع، وهو في محله: في الوقت الذي تنقذ فيه دولة أوروبية مثل ألمانيا عمالها من التعرض لخطر الإرهاب، تقف تركيا صامتة أمام احتجاز 49 من مواطنيها، بمن فيهم القنصل العام، إثر هجوم عناصر داعش على القنصلية العامة التركية في مدينة الموصل القريبة من الأراضي التركية. ولم يناقش أحد في تركيا، لا السياسيون ولا الإعلاميون، مواضيع شائكة مثل مصادر دعم داعش، وامتدادات التنظيم في تركيا، وعبور مقاتليه من الحدود مع سوريا والعراق، والمقاتلين الأتراك المنضمين لصفوف التنظيم. وبينما الأمر كذلك، هل خطط داعش لتقييد تركيا عن طريق احتجاز 49 من رعاياها كرهائن؟ وهل تغاضت بعض الأوساط في تركيا عن العملية التي انتهت باحتجاز هؤلاء الرهائن على الرغم من معرفتهم بهذا المخطط؟ ومَن وما هي الطريقة التي سيوضح لنا بها عدم صدور أي رد فعل في تركيا على الرغم من تعرض مئات الآلاف من التركمان للمذابح في مناطق بدأ فيها حتى تنظيم حزب العمال الكردستاني الإرهابي الحرب ضد داعش؟
كان رئيس هيئة حماية الدستور الألماني هانز جورج ماسن قد أصدر قبل نحو شهر أول تصريح من مسؤول ألماني على المستوى الرسمي حول عدد المقاتلين الألمان المنضمين لصفوف داعش واستخدامهم للأراضي التركية كقاعدة لوجستية لأنشطتهم، وأوضح في تصريح أدلى به لصحيفة فرانكفورتر أن عدد “الإسلاميين” المنضمين من ألمانيا إلى صفوف داعش في سوريا يبلغ نحو 320 مقاتلًا (وهناك ادعاءات بأن هذا الرقم يبلغ 500 مقاتل على الأقل)، مشيرًا إلى أنهم لا يملكون معلومات حول ماذا يريد هؤلاء الأشخاص فعله في سوريا، وزعم أنهم على علم بأن السلفيين الذين خرجوا من ألمانيا انتقلوا إلى تركيا، إلا أنهم فقدوا أثرهم بعد انتقالهم إلى هناك، وأضاف: “نجد أن من يغادر ألمانيا يفقَد أثره ما إن يدخل تركيا، ويمكننا فقط أن نخمن أن هؤلاء الأشخاص انتقلوا بعد ذلك إلى سوريا”.
ونشرت هيئة حماية الدستور في ألمانيا، التي تعتبر بمثابة جهاز استخبارات داخلي، تقريرًا أفاد بأن هناك توقعات تشير إلى أن عدد أعضاء الجماعات السلفية في ألمانيا يبلغ 5500 شخص. وأفصح التقرير نفسه عن أن في ألمانيا يوجد 950 عضوًا بتنظيم حزب الله، و300 عضوًا بحركة المقاومة الإسلامية حماس، و250 عضوًا بالمنظمة الانفصالية شمال القوقاز، و350 عضوًا بتنظيم حزب الله في تركيا، و1300 عضو بجماعة الإخوان المسلمين، و31 ألف عضو بحركة الفكر الوطني (ملّي جوروش) التركية. أما سبب إدراج حركة الفكر الوطني التركية في هذه القائمة فهو كونها من المنظمات المراقَبة من جانب هيئة حماية الدستور الألماني. ويشير التقرير إلى أن عدد الإسلاميين المتطرفين في ألمانيا غير معروف بالضبط، إلا أنه يرجح أن يكون عددهم 43 ألفًا و190 شخصًا. وفي الوقت الذي يقول فيه الإعلام الألماني إنه غير معلوم على وجه التحديد عدد الذين يدعمون تنظيم داعش من بين هؤلاء المتطرفين الإسلاميين، فإنه يؤكد أن المسؤولين في برلين يشعرون بالقلق من أن يكون عددهم مرتفعًا.
وإذا نظرنا للتصريحات التي يدلي بها مسؤولو جهاز الاستخبارات الألماني لوسائل الإعلام المحلية، نجد أن هناك غضبًا عارمًا يسيطر عليهم تجاه تركيا. وكما ذكرت أعلاه، فبينما ينتقَد موقف تركيا إزاء تنظيم داعش، فإن البعض يعرّف السياسة التي تنتهجها أنقرة في التعاطي مع هذه القضية على أنها “سياحة إرهابية”، ودلّل مسؤول رفيع المستوى بهيئة حماية الدستور الألماني، لم يرغب في ذكر اسمه، في تصريح أدلى به لمجلة فوكس الألمانية، على صحة ادعائه بنموذج المقاتل المعروف بين صفوف داعش بـ”البرليني” – نسبة إلى العاصمة الألمانية برلين – دنيس كوسبيرت الذي أصيب في معارك بسوريا ثم تلقى العلاج في تركيا ومن ثم عاد إلى القتال مجددًا، وأضاف المسؤول ذاته أنهم توصلوا إلى معلومات تفيد بأن المنضمين من ألمانيا إلى صفوف داعش ينتقلون إلى سوريا عبر الأراضي التركية، ويعودون إلى ألمانيا كذلك عبر تركيا، مدعيًا أن المسؤولين الأتراك لم يدركوا حتى الآن حجم الخطر الذي يهدد بلادهم.
تواصل وسائل الإعلام الألمانية نشر الأخبار الداعمة لادعاءات ارتباط تركيا بتنظيم داعش الإرهابي. وقد زعمت قناة (ARD) الرسمية الألمانية أن المقاتلين المنضمين من أوروبا إلى داعش في سوريا والعراق افتتحوا مكتبًا غير رسمي لهم في حي فاتح الشهير بإسطنبول، وحاول مراسل القناة رالف سينا إثبات أن ألمانيا ليست هي الدولة الوحيدة التي تقف وراء هذا الادعاء بقوله إنه حصل على هذا الخبر من أعضاء مفوضية الاتحاد الأوروبي. وذكر الخبر معلومات مأخوذة من عدد من الأجهزة الاستخباراتية بشأن تفاصيل مهام مكتب داعش في إسطنبول. وأضاف الخبر أن داعش استقبل ألفي مقاتل على الأقل من أوروبا، وأن هؤلاء الإرهابيين وصلوا إلى المنطقة مرورًا بإسطنبول. وكانت أخبار مشابهة قد نُشرت حول هذا الموضوع في وقت سابق، إلا أن الملفت هذه المرة هو أن هذه الأخبار بدأت تظهر بتفاصيلها في القنوات الرسمية للدولة. ونشر خبر قناة (ARD) مقاطع مصورة تظهر تدريب مقاتلي داعش في مدينة غازي عنتب التركية المتاخمة للحدود السورية، وتوضح كيف أنهم يعبرون الحدود إلى سوريا وشمال العراق “كيفما يحلو لهم” دون أدنى مراقبة. وأوضح الخبر أن نحو 400 شاب ألماني وصلوا إلى المنطقة الحدودية بين تركيا من جهة وسوريا والعراق من جهة ثانية لتدعيم صفوف داعش.
وفي الوقت الذي يحاول فيه الرأي العام في أوروبا إظهار تنظيم حزب العمال الكردستاني الإرهابي كبطل لقتاله ضد داعش، فإنه ينشر ادعاءات تقول إن تركيا، التي تعتبر أكثر الدول في أوروبا تضررًا من الإرهاب، تدعم الأنشطة والتنظيمات الإرهابية. ومن العجيب أن نرى المسؤولين في أجهزة الدولة والاستخبارات التركية، وعلى رأسهم دبلوماسيو وزارة الخارجية، يصمتون أمام هذه الادعاءات والمزاعم على الرغم من معرفتهم بها.
صحيفة” زمان” التركية