كان للجواسيس الألمان صولات وجولات في هذه المنطقة قبل مئة عام أيضًا، وكان أكثر من تم التعويل عليهم ماكس فون أوبينهيم، الذي اقترح فكرة استخدام الاسلام في محاربة الإنجليز، لكنه هُزم أمام لورانس العرب.
وفي تسعينيات القرن المنصرم اختزل المؤرخ الأمريكي ؟؟؟ سياسة الإمبراطور الألماني غليوم الثاني في الشرق الأوسط بجملة واحدة: “جهاد بصناعة ألمانية”.
حيث قال: “يجب على سفرائنا وجواسيسنا في تركيا والهند أن يهيجوا الأمة الإسلامية جمعاء للثورة على الأمة الإنجليزية المنافقة الظالمة، وإن كنا سنفقد في سبيل ذلك الأرواح فإن الإنجليز سيفقدون الهند على الأقل”.
لقد صدر هذا الكلام عن الإمبراطور الألماني غليوم الثاني الذي يؤمن بوجوب تحريض جماعات من الناس للثورة على الإنجليز الذين يزرعون الفتن والمشاحنات في البلاد الإسلامية.
وكان هناك من أراد تقديم دعم هائل لرؤية الإمبراطور الألماني مدعيًا للحكومة الألمانية أنه يملك مفاتيح التصدي للإنجليز في البلاد الإسلامية، حيث قال: “سيكون الإسلام واحدًا من أهم أسلحتنا في حربنا ضد الإنجليز”.
وكان البارون ماكس فون أوبنهيم هو صاحب التوقيع تحت الوثائق الاستراتيجية المؤلفة من 136 صفحة التي أُرسلت إلى برلين سنة 1914، علمًا بأن هذا البارون ذهب إلى الشرق الأوسط مع أنه ابن أحد مالكي البنوك في ألمانيا.
كان أوبنهيم يتقن العربية تمامًا كلورانس العرب، ويرتدي الثياب التقليدية، ويختلط بالناس، وكان هذا الشاب المنحدر من أسرة ثرية قدم أولاً إلى إسطنبول شتاء 1883 لقضاء عطلة فيها عندما كان في الثامنة والعشرين من عمره، وفي السنوات اللاحقة قام طوعًا برحلات سياحية إلى مصر وسوريا وما بين النهرين وتركيا والخليج العربي، وغدا عالمـًا أثريًا ذا شهرة عالمية باكتشافة موقع تل حلف الأثري في سوريا، وقال معبرًا عن شغفه تجاه الشرق: “لطالما راودتني فكرة أن أكون رحَّالةً باحثًا في الشرق الإسلامي” ،وقد أتقن أربع لغات، وعُرف عنه أنه كان يشاهد القاهرة من جامع ابن طولون سنة 1896 ،ولم يكتف بعالم الخيال فحسب بل غدا متحريًا للعالم الإسلامي كله.
لعب هذا الدبلوماسي الألماني دورًا مهما خلف جبهات القتال في الحرب العالمية الأولى، وفي السنوات التالية وضع مشروعًا لجمع المسلمين في كثير من البلدان حول قوة مركزية واحدة، واختار مصطلح” الجهاد” ، الذي يحظى بمكانة كبيرة بين تعاليم الإسلام ويعدُّ حتى اليوم من الشعارات المهمة التي ينادي بها المسلمون.
وكان هدف هذا المستشرق الأثري هو تحريض المسلمين على الإنجليز والفرنسيين المسيطرين على الشرق الأوسط بالإضافة إلى تجهيز الأرضية للهيمنة الألمانية، وكانت انجلترا، إذا فقدت السيطرة على الهند بسبب ثورة المسلمين ستهبط إلى المركز الثالث من حيث القوة، وكان صاحبَ نفوذ كبير، وقادرًا على إيجاد السبل والأدوات اللازمة لإحداث ثورة بين المسلمين في إسطنبول متى ما شاء الإمبراطور الألماني.
واتفق بعض المستشرقين الباحثين في الإسلام واللغة التركية على وصفه ببعض الأوصاف، ومنها: “أبو الجهاد الألماني” و” أبو الحرب المقدسة والجهاد” و”بطل مناهضة الإمبريالية” .
سياسة ألمانيا في الشرق الأوسط
كشف الباحثان الألمانيان ألكسندر ويل وستيفان كروتزر النقاب عن منهجين اتبعتهما برلين في سياستها الشرق أوسطية:
1- التحريض على الثورة ضد الإمبريالية في الدول التي يستعمرها أعداء ألمانيا، وهذا المنهج اتبعته ألمانيا بشكل مفرط في الشرق الأوسط، فأرسلت الكثير من الجواسيس إلى الدول المهمة في هذه المنطقة، إلا أن هذا المنهج لم يكن له نتائج إيجابية ضمن حدود الدولة العثمانية. وكان الإنجليز والفرنسيون وغيرهم من القوى الفاعلة يعملون على تقسيم الدولة العثمانية ليتقاسموا ما يتبقى منها فيما بينهم.
2- إقامة علاقات من نوع آخر مع الدولة العثمانية بحيث تكون هذه العلاقات قائمة على الصداقة والتجارة، نظرًا لما تقتضيه الظروف الاستراتيجية، وكانت ألمانيا تدرك تمامًا القوة العسكرية للدولة العثمانية.
وقد وصف رئيس أركان الجيش الألماني هيلموت جونز لودويج فون مولتكه وضع الدولة العثمانية، التي دعمتها بلاده ضد القوات الإنجليزية والفرنسية الاستعمارية في مارس/ آذار 1914، بقوله: “تركيا لا تساوي شيئًا من الناحية العسكرية”.
ومن أجل تحديث الجيش العثماني تم إيفاد بعض الضباط الأتراك للحصول على دورات تأهيلية في المدارس العسكرية الألمانية، وتولى كولمار در جولتز المعروف لدى الأتراك بـ”جولتز باشا” مهمة إعادة هيكلية الجيش العثماني، وكان يعمل على تحديث الجيش العثماني بواسطة شركات تصدير الأسلحة مثل: (كروب ولويو وماوسر) ،وكان من الممكن أن يؤثر في تسليح الجيش العثماني بقليل من الرشوة، وتم تحديد ميزانية بقيمة 30 ألف مارك من أجل تقديم الرشاوي إذا اقتضى الأمر.
ويُذكر أن تاجر السلاح لودوينج لويو عرض عليه نسبة من المبيعات فرفض بكل إباء وقال: “الضابط الألماني لا يرتشي” ،وكان جولتز باشا قد توفي بسبب إصابته بالتيفويد في بغداد، ودُفن في حديقة السفارة الألمانية في حي طرابيا بإسطنبول، وكان يدعم الموالين لألمانيا في الجيش العثماني على حساب الشبَّاب الأتراك المناهضين للألمان.
وفي 2 أغسطس/ آب 1914 تم التوقيع على حلف سري، وكانت المادة 4 من هذه الاتفاقية غريبة، لم يكن عيدًا ولا لهوًا، فألمانيا تعهدت بشيء غريب: “تتعهد ألمانيا بالدفاع المسلح عن الدولة العثمانية ضد أي تهديد ضمن أراضيها”.
في الحقيقة كانت ألمانيا قد جهزت منذ وقت طويل الأرضية المناسبة للحفاظ على العلاقات المتينة بين البلدين ولعقد أي اتفاق لازم، ففي أكتوبر/ تشرين الأول/أكتوبر 1898 قام الإمبراطور غليوم الثاني وزوجته أوجوست فيكتوريا برحلة إلى مركز الدولة العثمانية والأراضي المقدسة، وكان المستضيف هو السلطان عبد الحميد الثاني، الدولة العثمانية كانت مريضة وتبحث عن شركاء جدد، وتأمل بدعم مادي من ألمانيا. وغادر غليوم إسطنبول واعدًا بتنفيذ مشروع خط بغداد الحديدي من قبل الشركات الألمانية، وكان السبيل الألماني في منطقة السلطان أحمد بإسطنبول قد تم إنشاوه في أثناء زيارة السلطان غليوم سنة 1900 وبتعبير تجاري كان هذا السبيل بمناسبة حصول غليوم على المناقصة من الدولة العثمانية.
وحينها غدا خط بغداد الحديدي مسرحًا للسيطرة السياسية التي يطمح إليها الإنجليز والفرنسيون والألمان في الشرق الأوسط.
وقد حصل بنك “دتش” الألماني على 8 آلاف حصة من أصل 30 ألف حصة في حين حصل المصرفيون في النمسا وسويسرا وإيطاليا والدولة العثمانية على 8 آلاف حصة، وهم جميعًا من شركاء بنك “دتش” ، كما حصلت الدولة العثمانية على 3 آلاف حصة فقط في حين أن فرنسا حصلت على 8 آلاف حصة.
وكان غليوم الثاني (1888-1918) في قمة الحماس حين دخل القدس من أبوابها، وقد قيل فيما بعد إنه زار الأراضي المقدسة في حرب صليبية بطريقة سلمية، علمًا بأن الوجه السلمي الذي أبداه غليوم للعالم الإسلامي انعكس حتى على البطاقات البريدية التي حوت بعض عبارات الود والاحترام التي قالها في المسلمين وخليفتهم.
وعندما كانت إسطنبول تعاني الاضطرابات التي أضعفتها وجعلتها تُلقَّب بالرجل المريض كان ماكس فون أوبنهيم يرسل من القاهرة إلى الإمبراطور غليوم الثاني معلومات عن الإسلام ومسلمي آسيا وأفريقيا، ويرسم السياسة الألمانية في البلاد التي تطمع فيها الدول الاستعمارية، حيث أرسل أولاً خطة الجهاد المكونة من 136 صفحة في أكتوبر/ تشرين الأول 1914 إلى ألمانيا، وكان العنوان “ثورة على أعدائنا في البلاد الإسلامية”، وقد ذكر في هذه الخطة ارسال الخبراء الألمان المعلومات المضللة حول حرب تقودها الخلافة الإسلامية المتمثلة في السلطنة العثمانية، في البلاد تحت سيطرة الإنجليز والفرنسيين والروس.
ومما ورد في هذه الخطة أيضًا: “يجب أن تصدر الأوامر الدينية من الجامع الأزهر، ويجب تنفيذ العديد من الضربات والهجمات محدودة النطاق قدر الإمكان. وإن النجاح في تلك الهجمات ليس على قدر بالغ من الأهمية، ففي كل الأحوال سيؤدي ذلك إلى بقاء الإنجليز دون قيادة في مصر”.
إن هذه المعلومات والأهداف السرية التي أوردها البارون لم تكن من أجل حرب دينية.
ويرى الكاتب توماس كروتزر أنه كان هناك حرب ضد الأعداء، وأن البارون “أوبنهيم” لم يكن محاربًا في سبيل الحرية، بل على العكس فقد كان محركًا لحرب دينية. وكان هناك باحثٌ في الشؤون الإفريقية مثل أوبنهيم وهو جيرهارد رولفس الذي كان يحاول تحريض الشعب الجزائري على مناهضة الفرنسيين.
وقد التقى أوبنهيم مرتين بلورنس العرب، ولم يستطع إفشال خصمه ومنافسه لورنس، وحين التقى به للمرة الثانية في سنة 1914 بعد أن بلغ الـ54 من عمره اضطر للاعتراف بالهزيمة أمامه، فقد حظي لورنس بجاذبية الشخصية القيادية وغدا بطل العرب.
ألمانيا في عصر الاستعمار
كان الإمبراطور قد أرسل بعض الجواسيس المميزين إلى المنطقة بلباس العلماء ليكونوا في الجبهات الأمامية ويعملوا على توجيه الناس وإقناعهم بالحرب الدينية.
إن القوة التي وصلت إليها إنجلترا مكَّنتها من السيطرة على العالم، الأمر الذي سبب القلق للإمبراطور الألماني ودفع إلى البحث عن معادلات جديدة خلال السنوات الطويلة القاسية من القرن 19.
وكان هناك منافسان آخران للإنجليز وهما فرنسا وروسيا اللتين استعمرتا كثيرًا من دول العالم المختلفة، إذن فقد كانت ألمانيا هي أصغر الدول الاستعمارية في أوروبا.
حاول الإمبراطور الألماني توسيع نفوذ بلاده في العالم على الرغم من أن الإمبراطور السابق بسمارك كان قد قال قبل عهد ليس بالبعيد في سنة 1871: “لا أريد الاستعمار أبدا” ،وكانت السياسة الاقتصادية التي ينتهجها الفرنسيون والروس الذين أقاموا علاقات تجارية مع الدولة العثمانية تثير غضب الإمبراطور الألماني، وكان يقول: “إن الغاليين الأوربيين يعاملون الأتراك وكأن دولتهم دولة زنجية من الطبقة الخامسة”.
ويُذكر أن السياسة الشرق أوسطية التي اتبعها الإمبراطور بسيطة جدًا، وهذه السياسة وبعد مدة سوف تطبق لتحريض العصابات الإسبانية ضد قوات نابليون، ألا وهي خوض حرب العصابات (الحروب الصغيرة).
وبعد مدة تم تحريض الشعوب الإيطالية والكرواتية والمجرية ضد النمسا بنفس السياسة في سنة 1859، واستخدمت ألمانيا الجهاد سلاحًا في السنوات الحالكة في الحرب العالمية الثانية، وفي مايو/ أيار 1942 دعا مفتي القدس أمين الحسيني الذي كان يقضي منفاه في برلين المسلمين للجهاد، وقد أسس الرائد أندرياس ماير قوة خاصة مشكَّلة من أسرى المسلمين أطلق عليها اسم (تايجر B)،وكان عام 1941 قد شهد أول تشكيل أول قوة من المسلمين الشرقيين أطلق عليها اسم (لواء SS).
ما الذي فعلته ألمانيا في الشرق الأوسط؟
إيران: كان جزء كبير من إيران محتلاً من قبل الروس والإنجليز في بداية الحرب العالمية الأولى، فتم إنشاء حكومة إيرانية مؤقتة في كرمانشاه برئاسة رضا قولي خان نظام السلطنة، وقد تلقت هذه الحكومة الدعمَ العسكري والمادي من ألمانيا، وعمل الملازم الألماني ويلهلم واسموس على تنظيم الشعب الإيراني للثورة على الإنجليز. كما كان الرائد آرثر بوب قد كُلِّف من قبل الإمبراطور بقيادة الحرب ضد الروس في إيران بدء من تاريخ أكتوبر/ تشرين الأول 1915.
شبه الجزيرة العربية: حاول الألمان جاهدين كسب الشريف حسين ليكون إلى جانبهم، إلا أن الشريف حسين اقتنع بالوقوف إلى جانب الإنجليز، وخاض حربًا للاستقلال عن الأتراك، وقد منحت ألمانيا 200 ألف مارك ذهبي للجاسوس المحتال ماكس رولوف من أجل القيام برحلة إلى مكة لاستمالة أهلها إلى جانب الألمان، ولكنه سرق المال وتوارى عن الأنظار.
اليمن: شكل الرائد أوتمار فون ستوتزجن مركزًا للدعم الاستخباراتي، ولكن توقف عمله بضغط الدولة العثمانية في ربيع 1916 .
الهند: كانت هناك أقلية مسلمة قوية في الهند، فأرسل المبشر فرديناند جراتش إليها 18 جاسوسًا من أعضاء لجنة شؤون الهند في برلين.
لماذا أخفقت الخطط الألمانية؟
– لم يلقِ كثير من المسلمين بالاً للحرب في صفوف كفار ضد كفار.
– لم يتمكن الجهاديون الأوربيون من التأثير في الشعوب الإسلامية.
– لم يكن هناك رمز قيادي من الرموز الإسلامية في خضمَّ هذه الخطط، كما لم يكن تنظيم الخطط كافيًا إلى جانب نقص التمويل والعتاد.
– كانت المخاوف والشكوك تسود العلاقات الثنائية بين ألمانيا وتركيا.
– الخطط الألمانية التي قامت على أحلام السلطة العثمانية لم تصمد أمام السياسات الإنكليزية الطويلة الأمد. فالقوات الاستعمارية الإنجليزية كانت متفوقة على القوة العسكرية التي يمتلكها العثمانيون والألمان.
* مجلة أكسيون التركية الأسبوعية الإخبارية