بقلم: أرهان باشيورت *
يأتي التضييق على وسائل الإعلام وحرمانها من الحرية في تركيا على رأس الانتقادات التي يوجهها الرأي العام العالمي إلى حكومة حزب العدالة والتنمية التي تنتهج سياسة “ثلاث عصيّ وثلاث جزرات” في التعامل مع وسائل الإعلام.
“الجزرة الأولى” هي أن وسائل الإعلام التي تدعم سياسات الحكومة تحصل على إعلانات المؤسسات العامة والشركات التي بها شراكة عامة دون أي معايير، لدرجة أن صحيفة موالية للحكومة، تبيع 50 ألف نسخة يوميًا، تحصل على ضعف الإعلانات التي تنشرها صحيفة حرة مستقلة تبيع مليون نسخة يوميًا، والأمر نفسه ينطبق على الإعلانات الممنوحة للقنوات المؤيدة للحكومة والمدافعة عن سياساتها.
“الجزرة الثانية” هي أن رجال الأعمال الداعمين للحكومة يحصلون على فرص الاستثمار في المجال الإعلامي من خلال إمكانيات الدولة؛ إذ تغيرت إدارات العديد من الصحف والقنوات التليفزيونية والمجلات والمحطات الإذاعية مثل” صباح وستار وآكشام وتقويم وجونيش وايه تي في وشو تي في وسكاي تُورك” وغيرها، وعرضت في مناقصات على رجال الأعمال المؤيدين للحكومة بعدما صودرت من قبل صندوق تأمين ودائع المدخرات (TMSF).
أما “الجزرة الثالثة” فهي أن ضرائب رجال الأعمال وأصحاب وسائل الإعلام من المؤيدين للحكومة يجري تصفير ديونهم للضرائب، كما تستغَل إمكانيات الدولة في سبيل حصولهم على عطاءات مربحة للغاية، وباستثناء دعم إعلانات مؤسسات القطاع العام، فإن رجال الأعمال هؤلاء يحصلون على الدعم المباشر كذلك عن طريق مناقصات القطاع العام.
تستخدَم الإعلانات والضرائب والرقابة العامة كـ”العصا”
وبفضل مكافأة أصحاب الإعلام الموالي للحكومة بـ”الجزرات الثلاث” يواصلون إذاعة البرامج والأخبار “المتحيزة” والبعيدة عن المصلحة العامة، وفي مقابل ذلك، تجري معاقبة وسائل الإعلام والشركات المستقلة والمحايدة من خلال “العصي الثلاث”.
أما “العصا الأولى” فهي قطع إعلانات المؤسسات العامة عن وسائل الإعلام التي تراعي الصالح العام، حتى أن هناك مكالمات هاتفية تجرى من أجل ألا تحصل الشركات العاملة مع بعض المؤسسات العامة على حقوق بث الإعلانات.
و”العصا الثانية” هي أن وسائل الإعلام الحرة والمحايدة التي تراعي المصلحة العامة، تتعرض لتضييقات ضريبية ومراقبة صارمة في هذا الشأن، كما أن الكتاب العاملين في وسائل الإعلام هذه يتعرضون للضغوط، هذا فضلًا عن تطبيق مبدأ” التصنيف” على الصحف والقنوات التليفزيونية، كما كان مطبقًا إبان الانقلاب العسكري الذي وقع يوم 28 فبراير/ شباط 1997.
كما أن وسائل الإعلام المستقلة والمحايدة تتعرض لعدد غير معقول من العقوبات والغرامات بواسطة المجلس الأعلى للإذاعة والتليفزيون (RTÜK).
أما “العصا الثالثة” فهي أن الشركات الإعلامية الحرة التي تراعي الصالح العام ولا تلهث وراء المناقصات العامة، لا تحصل حتى على تصاريح الأنشطة الروتينية اللازمة من أجل مزاولة أنشطتها التجارية العادية، هذا إضافة إلى أن التوقيعات الخاصة بهذه التصاريح، التي تسيطر عليها جهة واحدة، تتأخر بدون تقديم أدنى حجج لتبرير ذلك، ويتعرض أصحاب وسائل الإعلام المحايدة للهجوم من قبل الإعلام الموالي للحكومة من خلال نشر الأكاذيب والافتراءات حولهم، كما تتعرض شركاتهم لإجراءات تعسفية بغرض إضعافها.
احتيال خطير من خلال أرقام مبيعات غير حقيقية
والشيء الأكثر إثارة في هذا الموضوع هو أن وسائل الإعلام الموالية للحكومة تضخّم مبيعاتها بشكل غير واقعي بالمرة، ولأن الرقابة المحايدة غير موجودة، فإن هذا يفضي إلى حصول هذه المؤسسات على مكاسب “غير مشروعة”، وإهدار أموال مانحي الإعلانات.
إن المؤسسات الإعلامية التي تضخّم مبيعاتها بشكل غير واقعي وتحصل على تدفق الإعلانات من خلال هذه الأرقام المزيفة، تكون قد ارتكبت “احتيالًا خطيرًا” ضد القطاع العام وصاحب الإعلان.
وفي نهاية المطاف، فإننا نشهد إهدارا لحرية الإعلام وإمكانيات المنافسة من خلال طريقة الجزرات الثلاث والعصي الثلاث في “تركيا الجديدة”؛ إذ تعطى وسائل الإعلام المؤيدة للحكومة فرصة الحصول على مكاسب غير مشروعة من خلال الإمكانيات العامة في مواجهة وسائل الإعلام الحرة والمحايدة.
وينتظر أن تبادر لجنة حقوق الإنسان بالبرلمان وأمين المظالم وهيئة الرقابة وهيئة أسواق رأس المال ومنظمات الأعمال، والمؤسسات المطالبة بنشر إعلانات، والاتحادات الإعلامية، إلى التركيز على هذه الأمور في “تركيا الديمقراطية” ،لكن الجميع يقفون صامتين في هذا الجو الخانق الذي بدأ يسيطر على تركيا بأسرها، بحيث لا يؤدي أي شخص ما يقع على عاتقه من واجبات، على الرغم من معرفته للحقائق، في ظل “مناخ الخوف” الذي خيّم على البلاد…
*رئيس تحرير صحيفة” بوجون” التركية