عزيز ايستاجون
تسبب احتمال سقوط مدينة كوباني، الواقعة شمال سوريا، بيَد تنظيم الدولة الإسلامية الإرهابي (داعش)، في إشعال منطقة شرق وجنوب شرق الأناضول ذات الكثافة السكانية الكردية في تركيا؛ إذ شهدت تلك المنطقة أعمال شغب ومظاهرات احتجاجية لم ترَ تركيا مثلها منذ تسعينيات القرن الماضي، لدرجة أن الحكومة اضطرت لفرض حظر التجول في الشوارع في ست محافظات، كما عُطلت المدارس، وتوقف الخروج والدخول من وإلى العديد من المحافظات بسبب إغلاق الطرق المؤدية إليها.
غابت الشرطة، ولم تستطع حتى سيارات الإسعاف الوصول إلى الأماكن التي شهدت أعمال الشغب، وبدأ الأشخاص المسلحون يتجولون في المنطقة ويفعلون ما يحلو لهم دون رقيب أو حسيب، وشهد العديد من الأماكن اشتباكات بين مجموعات من الأشخاص، وفقد 25 شخصًا حياتهم في هذه الأحداث، حيث أصبحت مسألة تحديد القاتل والمقتول ضربا من ضروب الخيال.
عندما خرجت الأحداث عن سيطرة الشرطة، نزلت وحدات عسكرية إلى المدن التركية لضبط الأمن، وبدأت وحدات الجاندرما (الدرك) بتولي نوبات الحراسة في العديد من النقاط الحيوية.
الأكراد يعتقدون أنهم خُدعوا وأنهم يعاقَبون بيَد “داعش”
حسنًا، ما الذي حدث لتعود ألسنة اللهب ترتفع في الأفق من جديد بينما كان صوت الآمال المعقودة على مفاوضات السلام يعلو؟
في الواقع، إن النقطة التي وصلنا إليها تثبت أن أحدًا لن يستطيع الوصول إلى أي نتيجة من خلال مخططات الخداع والمماطلة، وأن “النفاق” سيتسبب في حدوث أزمة ثقة بين الأطراف، فالأحداث التي تشهدها تركيا في الوقت الحالي تتغذى على الفكرة التي تقول: “في الوقت الذي تكسب فيه تركيا الوقت في الداخل من خلال مفاوضات السلام من جهة، تؤدّب الأكراد من خلال داعش من الخارج من جهة أخرى”.
إن الفكرة التي تقول “يتعرض الأكراد لمذبحة كبيرة وتركيا تغضّ الطرف عن ذلك” توحّد الأشخاص الذين ينتمون إلى أفكار سياسية مختلفة، فيشعر هؤلاء بأنهم قد خُدعوا، وتصيبهم نوبة من نوبات اليأس والإنكسار.
كانت مفاوضات السلام التي بدأت في تركيا منذ خريف عام 2012 قد أحيت آمال السلام وارتقت بها لدى الرأي العام، وتوّلد لدى الجميع شعور بأن المشكلة الكردية ستحَل وأن عناصر حزب العمال الكردستاني سيسلّمون أسلحتهم وينزلون من الجبال. وقد أعلنت حكومة أنقرة مرات عديدة أنهم ستقدم على الخطوات اللازمة في سبيل تحقيق هذا الهدف، فنظمت الاجتماعات وشكلت الوفود الرشيدة للمساهمة في الوصول إلى هذه الغاية.
وخلال العامين الماضيين أقدمت الحكومة التركية على بعض الخطوات ذات المغزى العاطفي، لكنها فشلت في صياغة معادلات تحل المشكلة من جذرها بشكل دائم.
صمود نظام الأسد قلب مخططات حزب العدالة والتنمية رأسًا على عقب
إن لعبة الشطرنج الحقيقية لُعبت حول سوريا المتاخمة لحدود تركيا الجنوبية. وقد كانت أنقرة قد وضعت في حساباتها أن نظام بشار الأسد سيسقط خلال بضعة أشهر، فبادرت إلى ممارسة فعالياتها السياسية على هذا الأساس. لكن بشار الأسد لم يسقط، على عكس توقعات حزب العدالة والتنمية، كما لم تستطع الحركات المعارضة في سوريا أن تتحد، على الرغم من الجهود التي بذلتها تركيا في هذا المضمار، بل تصاعد نفوذ الجماعات المتطرفة كداعش وغيرها بسرعة كبيرة.
أما حزب العمال الكردستاني (PKK) فقد استغل الحرب الأهلية المندلعة في سوريا، وبدأ تأسيس نفوذ له في المدن الشمالية من سوريا التي يطلق عليها الأكراد اسم “روج آفا”، حيث شكل ثلاثة كانتونات في تلك المنطقة في مدن كوباني (عين العرب) – عفرين – جزيرة، كما قويت شوكة حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، امتداد حزب العمال الكردستاني في سوريا، في هذه الكانتونات الثلاثة. وأسس حزب الاتحاد الديمقراطي علاقات جيدة مع نظام الأسد، واستفاد من خواء السلطة ليفتح أمام نفسه طريقًا مهمًا. من جهته، وجه حزب العمال الكردستاني نفسه وكأنه صاحب الأرض في سوريا بعدما لم يستطع الوصول إلى مبتغاه في تركيا، بالرغم من صراع مسلح مع أنقرة دام لأربعة عقود من الزمان.
تدمير الخطوط الحمراء لداود أوغلو
لم تستطع تركيا، التي عاشت حالات من الاهتزاز المتوالي، أن تنتهج سياسة واضحة ومحددة. وكان أحمد داود أوغلو، وزير الخارجية السابق ورئيس الوزراء الحالي، يقول قبل عامين: “وضعت خريطة للمنطقة وكأن حزب العمال الكردستاني يسيطر عليها بمفرده. وإن بسط هذا التنظيم نفوذه حتى على مكان واحد فقط، نعتبره عنصرًا خطيرًا، ذلك أنه تنظيم إرهابي. ولهذا لن نسمح برسم هذه الخريطة”. بهذه الكلمات بدا أن تركيا وضعت خطوطًا حمراء لا يمكن تخطيها.
لكن لم يمض وقت طويل حتى فهمنا أن أنقرة أسست علاقة تضامنية مع حزب الاتحاد الديمقراطي؛ إذ التقى الرئيس المشارك للحزب صالح مسلم مسؤولي وزارة الخارجية وجهاز الاستخبارات التركي مرات لا حصر لها. حتى أن تركيا لعبت دور الوساطة بين حزب الاتحاد الديمقراطي والتنظيمات المعارضة في سوريا.
كان عبد الله أوجلان، زعيم حزب العمال الكردستاني الذي يقضي عقوبة السجن مدى الحياة بجزيرة إمرالي الواقعة شمال غرب تركيا، هو الآخر قد أظهر موقفًا “تصالحيًا”، وعمد إلى “تليين” الخطوط الحمراء التي وضعتها تركيا. وقد أعلن وقف إطلاق النار بين مقاتلي تنظيمه والقوات التركية يوم 21 مارس / آذار 2013، معلنًا انسحاب مقاتليه إلى خارج الحدود التركية باتجاه شمال العراق.
كانت فكرة التدخل في منطقة شمال سوريا “روج آفا” سقطت من أجندة أنقرة ، وبدأ حزب الاتحاد الديمقراطي، الذي أُسس عام 2003، يبسط نفوذه على هذه الرقعة بصفته المسيطر الوحيد، حتى خرج علينا تنظيم داعش…
حلم تركيا في كركوك يصبح سرابًا
حقق تنظيم داعش تقدمًا سريعًا، يحتاج إلى تفسير، في الآونة الأخيرة، ومن ثم انتقل من سوريا إلى شمال العراق في لمح البصر، وسيطر على مدينة الموصل. كانت التوازنات على وشك أن يعاد تغييرها في تلك المنطقة. ولم يمنع تقدم داعش صوب أربيل عاصمة كردستان العراق سوى التدخل العسكري الأمريكي. كما سيطرت قوات البشمركة الكردية في هدوء غريب على مدينة كركوك التي كانت حلمًا بالنسبة لتركيا على مدار مائة عام.
كانت تركيا، مرة ثانية، تتجاذبها رياح التطورات، ولم تستطع أن تتخذ موقفًا واضحًا وصريحًا إزاء داعش الذي احتجز 46 من مواطنيها بعدما هاجم القنصلية التركية في الموصل. وفسرت حكومة أنقرة موقفها بخوفها على أرواح الرهائن الذين يحتجزهم داعش، وآثرت الصمت وعدم اتخاذ موقف واضح تجاه هذا التنظيم الإرهابي، وظهرت في تلك الأثناء ادعاءات تشير إلى أن تركيا تقدم الدعم اللوجيستي لداعش، وزُعم أن شاحنات تركية تابعة لجهاز المخابرات نقلت شحنة من الأسلحة لداعش في سوريا، وبعد أن أطلق داعش سراح الرهائن الأتراك بعد مفاوضات استمرت لثلاثة أشهر، توجّه مقاتلوه هذه المرة إلى منطقة “روج آفا” الكردية شمال سوريا.
لم يستطيع حزب الاتحاد الديمقراطي توفير الاتصال بين الكانتونات الثلاثة التي أسسها في المنطقة، ولهذا فقد دفع ثمن هذا الخطأ العسكري الفادح باهظًا، وتقدم داعش بسرعة بعدما حاصر كوباني (عين العرب)، وفرّ نحو 200 ألف شخص هاربين ولجأوا إلى الأراضي التركية. وعندما لم يستطع حزب الاتحاد الديمقراطي إرسال الدعم إلى كوباني، وجَّه سهامه نحو تركيا، وساق البعض ادعاءً مفاده أن حكومة حزب العدالة والتنمية عاقبت حزب العمال الكردستاني وحزب الاتحاد الديمقراطي بيَد داعش الذي تدعمه منذ نشأته.
الاتحاد الديمقراطي يرغب في فتح ممر للمساعدات الإنسانية
في الوقت الذي تبدو فيه الحكومة التركية وكأنها تسعى لإنجاح مفاوضات السلام مع الأكراد، نجد أن هناك مزاعم تشير إلى أنها تهدف إلى إضعاف حزب العمال الكردستاني من خلال دخوله حرب واسعة النطاق ضد داعش، وقد طلب الرئيس المشارك لحزب الاتحاد الديمقراطي صالح مسلم، الذي زار تركيا، فتح ممر لتقديم المساعدات الإنسانية من بلدة جيلان بينار على الجانب التركي إلى كوباني على الجانب السوري. وقد زعم الحزب أنه حصل على وعد من أنقرة لتحقيق هذه الغاية. غير أن هذه الخطوة لم تتحقق.
لقد ادعى مراد كارايلان، عضو المجلس التنفيذي لاتحاد الجماعات الكردية (KCK)، أن تركيا تسعى لتصفية المنطقة الكردية شمال سوريا “روج آفا”، وأنها تتعاون مع داعش لتحقيق هذا الهدف. وعندما زاد احتمال سقوط كوباني بيد داعش، تفجرت المظاهرات الاحتجاجية وأعمال الشغب في مدن شرق وجنوب شرق تركيا ذات الأغلبية الكردية.
إن مدينة كوباني تحمل أهمية كبيرة من الناحيتين الأيديولوجية والإستراتيجية بالنسبة لحزب العمال الكردستاني. وربما يضر سقوط كوباني بسمعة الحزب، إلا أن هناك احتمالا كبيرا أن يتسبب هذا التطور في إدخال تركيا وسط النيران.
لا يعلم أحد ما إذا كان تحريك حزب العمال الكردستاني للشارع في تركيا من جديد سيشكل ضغطًا على حكومة أنقرة أم لا، لكن من الواضح أن تركيا تسير في طريق لا تحمد عقباه. كما أنه ليس من الواضح حتى الآن ما إذا كانت حكومة حزب العدالة والتنمية، التي تتعرض لضغوط كبيرة، ستلجأ إلى أوجلان لتهدئة الوضع الحالي على أراضيها. أضف إلى ذلك أن هناك احتمال اشتعال حرب جديدة بين حزب العمال الكردستاني وحزب الله في منطقة جنوب شرق الأناضول. ولقد رأينا الإشارات الأولى لهذا التطور في مدينتي بطمان وديار بكر. ففي ديار بكر لقي 6 من أنصار حزب الله مصرعهم في الاشتباكات التي وقعت في الأيام الماضية. كما خرجت الأسلحة المدفونة إلى العيان من جديد.
وخلاصة القول هي أن صراع حزب العمال الكردستاني وحزب الله داخل تركيا، وحرب حزب الاتحاد الديمقراطي وداعش خارج حدودها، لا ينبئ بأي خير على الإطلاق.