يافوز بايدار
إن جودة الموارد البشرية المتكتلة داخل الدولة في أنقرة انخفضت مؤخراً إلى المستوى الثاني أو الثالث، بل إلى المستوى الخامس، ففقدان البصيرة، وضعف قراءة الوضع العالمي، وجنون العظمة المتمثل في النظر إلى أي أحد سواك على أنه عدو أو مخرب، أدى بالدولة تدريجيًا إلى حالة لا يمكن السيطرة عليها، فكم من مرة سمعت فيها حجة عدم تأهل الكوادر.
لا يمكننا أن نجد تفسيرًا غير ذلك لتلك الذهنية التي يتَّبعونها مرددين: “إن قائدنا هو من يصدر كل القرارات، وإن من يعارضنا فهو ضدَّنا وتتم تصفيته والتخلص منه”.
ورجب طيب أردوغان الذي عمل على إدارة البلاد خلال السنوات الثلاث الماضية مستندًا إلى الهلوسات والادعاءات، التي انتشرت عقب استفتاء 2010 وانتخابات 2011، والتي زعم فيها: “لقد فتحت الأبواب أمامنا، وأصبحنا نحكم قبضتنا على زمام الأمور في البلاد”.
وقد أدارت العقلية الأردوغانية البلاد مؤخرًا كالتالي: “فلنلبِّ مطالب ذوينا –أهل السنة- خطوة بخطوة، ولنصطنع الاستماع والاستجابة للآخرين مهما كان عددهم، وقدرهم، ثم نؤجل مطالبهم إلى وقتٍ لاحق، ونتبع سياسة المراوغة، وفي حال تعالي أصواتهم، نكمم أفواههم بفتات الخبز”.
وبقول آخر، فإن فترة السنوات الثلاث الماضية لم تشهد أي نقاشٍ أو جدلٍ إلا حول قضية الحجاب.
ومع ذلك، فإن استفتاء 2010، يستوجب أن تعامل كل المطالب الديمقراطية بشكل متساوٍ ومنسق بين جميع طوائف المجتمع، وفي ظل إطارٍ من العدالة وبصورة سريعة دون توقف، والحقيقة أن هذا لا يمكن أن يتحقق دون أن تكون ديمقراطياً.
إن هذه العقلية التي لا تفهم من “الدستور” إلا النظام الرئاسي، وصلت إلى الحالة التي أطاحت فيها بلجنة التفاوض والتآلف لوضع دستور جديد للبلاد في 18 ديسمبر/ كانون الأول من عام 2013، ثم واصلت الطريق على النهج القديم ذاته.
وقد بُنيت الحسابات على عقلية شرقية تمثلت في إمكانية استخدام “رهينة التفاوض” الزعيم الإرهابي “عبد الله أوجلان”، المعتقل مدى الحياة في سجن جزيرة “أميرالي”، لترويض المناطق الشرقية ذات الأغلبية الكردية، التي أصبحت الآن تمثل 15% من السكان، وتعدت أصواتهم في الانتخابات الرئاسية الماضية نسبة 8%.
ومن الطبيعي ألا تهتمّ المواردُ البشرية التابعة لأنقرة من المستوى الخامس، التي تسعى لحلّ كل المشاكل بالهوية الإسلامية العليا واستناداً إلى عقلية تتسم بالجهل وتعتمد على الحفظ بدلاً من العلم والتحليل، بالمقوّمات الداخلية لـ”الظاهرة الاجتماعية” العملاقة التي تقف وراء 29 حركة ثورية ظهرت على هذه الأراضي، والتمرد المسلح الممتد للـ29 سنة الأخيرة للعمال الكردستاني، وطبيعتها الصلبة التي تتجاوز حتى الزعيم الإرهابي أوجلان.
فهذا الكادر “الإخواني” الذي يعتقد قدرته على إدارة البلاد، مع أنها باتت لا تعرف عن هذا الفنّ شيئاً سوى سياسات البلطجة والاستبداد، كان قد غرس بذور الاستقطاب في أركان البلاد في عام 2011، أما اليوم ففتح الباب على مصراعيه لاحتمالية اندلاع حرب داخلية، نحن في غنى عنها، لا قدر الله.
ومع أنه لا يمكن قبول أعمال الهدم والحرق والتخريب، ولكن شيطنة الحركة السياسية الكردية بالنظر إلى موجة العنف هذه وغضّ النظر عن المسبب الحقيقي لها، والاكتفاء بالقول: “تخلوا عن هذا” تصرف لا ينطوي على أية قيمة ولا يجدي نفعاً.
إنني من بين الذين قالوا: “إن أجيالاً جديدة تظهر بين طبقة المتعاطفين مع حزب العمال الكردستاني العريضة، لا تعرف الصبر وليس لديها الرغبة في فهم لغة التفاوض؛ لذلك ابدأوا على الفور في وضع استراتيجية حل واضحة للأزمة، وحققوا فيها تقدمًا ملحوظًا قبل فوات الأوان”
وهناك طبقة عريضة من المجتمع تقول: “أنتم مجبرون على أن تقدموا الحقوق والحريات للجميع، سواء كان فرداً أو جماعة؛ وبهذا تكونون قد قدمتم عفوًا عاماً لحزب العمال الكردستاني، ومهدتهم الطريق له للدخول في الحياة السياسية المدنية وترك السلاح”.
وجزء من مؤيدي حزب الشعب الجمهوري العلماني المعارض، وطبقة عريضة من الجماعات الدينية، في طليعتها حركة الخدمة، يرون أن السلام والوئام بين الأتراك والأكراد لن يتحقق دون اتباع هذا الطريق. لأنكم وبكل بساطة لا يمكنكم أن تحولوا الملايين من المواطنين إلى بخار، وتتخلصوا منهم بهذه السهولة.
ولا يجب أن نغفل أن موجة الغضب الكردية التي تنتشر في ربوع البلاد، تكشف النقاب عن صحوة جماعية جراء سياسات الأنانية والإلهاء التي يتبعها رئيس الجمهورية أردوغان.
ووفقًا لما قاله السياسي الكردي أحمد تُورك: “إن سياسة حزب العدالة والتنمية تسير باتجاه تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). وفي الواقع، فإن هذه السياسة بدأت تقسم البلاد. وبدأ الأكراد يدركون هذه الحقيقة جيدًا؛ وأصبحوا على دراية بأن مفاوضات السلام مع الحكومة لم تكن من أجل حلّ أزمة الأكراد وإنما لحلّ أنفسهم والتخلص منهم. وبدأ يفهم هذه الحقيقة حتى الأكراد الذين لا ينظرون إلى حزب الشعوب الديمواطية نظرة إيجابية”.