أوغور كوماتش أوغلو
بدأ يتشكل في تركيا وسط يشعر فيه الناس بحاجة إلى علم النفس السياسي أكثر من حاجتهم إلى السياسة نفسها .
وهدف علم النفس السياسي هو دراسة علاقة المجتمعات بالسياسيين والتركيز على تحديد السلوك الذي يجب اتباعه لبناء العلاقات السليمة بين الحكام والمحكومين.
تتكون نفسيتان متضادتان عند الحكومة والحركة السياسة الكردية، فلدى الأولى نفسية القوي المغرور، والثانية لديها نفسية المظلوم المنسحق، وإن لم نحل هذه الجدلية فلا يمكن تحقيق السلام.
وقد انحرفت تصرفات الحكومة إزاء المشكلة الكردية عن مسارها بعد قصف داعش لكوباني، والتصريحات السياسية التحريضية للحكام الذين تبنوا مجددا ردود الأفعال القديمة للدولة عرقلت مسيرة السلام. فالمشكلة الكردية تسير من جديد نحو نزاع وخيم وصراع شديد، مع أنه كان من اللازم حماية الأهداف المشتركة وكان من الواجب على الحكومة أن تسلك سلوكًا سياسيًا ودبلوماسيًا لينًا إزاء الحركة السياسية الكردية في هذه المرحلة الحساسة.
فالحكومة عليها أن تُنتج خطابات مفعمة بالفراسة التي تدل على إدرك الحالة النفسية المرتبطة بكل الأحداث السياسية بأدق تفاصيلها، وهذا ما يُسمى بفن الإدارة، لكن على العكس من ذلك فقد تصرفت الحكومة بشكل خاطئ إزاء الأحداث الأخيرة، وادعت صارخًة أنها محاولات إنقلابية مع أن تصرفاتها هي التي تذكرنا بأيام الانقلابات، فإن استخدمتم الأحكام العرفية فسوف تسوقون البلد إلى الفوضى، وتتسببون في رسم صورة لدى المجتمع الدولي عن أن البلاد ليست فيها إدارة موفقة وجيدة.
ويبدو أنه ليس من البصيرة اتباع سياسة دون الأخذ بعين الاعتبار نظرة الأكراد للقصف على كوباني، ولموقف الحكومة تجاه داعش. وإن عدم الاكتراث بنظرة الأكراد لا يسهم في إنجاز مسيرة السلام. ويرى الأكراد أنهم لم يحققوا مكاسب جدية في مسيرة السلام، ويعانون نفسيًا من مماطلة الحكومة معهم. فوزارة التربية لم تعين سوى 17 مدرسًا لتعليم اللغة الكردية في العام الدراسي الجديد. علمًا بأن سياسة المقاطعة التي اتبعها السياسيون الأكراد لم تخدم مسيرة السلام كذلك. ولكنكم مضطرون لتفهم الناس. وعلى مسؤولي الحكومة أن يتمتعوا بهذه المهارة والحنكة. وكان عليهم إجراء تعديلات قانونية متعلقة بالتربية والتعليم حول ما يجب القيام به بالشكل الأمثل. ونحن نقترب من سنة 2015 ولا يزال الأكراد لا يدرسون بلغتهم الأم في المدارس.
وقد وجدت الحركة السياسية الكردية عزاءً في عدم تصعيد التصريحات الحادة ضد قيام منطقة حكم كردي ذاتي في سوريا، لكن إذا قلتم لهم إن تنظيمكم بالنسبة لنا مثل تنظيم داعش فهذا يعني أنكم دخلتم في طريق النهاية لمسيرة السلام. وإن معظم الدول في العالم تتبع الأساليب الدبلوماسية الحاذقة لحلول مشاكل العنف والشدة في الشوارع. وإن ترك هذا الخطاب الدقيق يقود البلاد إلى حلقة مفرغة تستند إلى العنف.
وفي الحقيقة أظن أننا نتكلم عبثًا لأن الحكومة أيضًا تعرف جيدًا أن الإرهاب شيء، والعلاقة العاطفية لدى الأكراد مع التنظيم شيء آخر. ولا يجوز أن تكون هناك سياسة تغفل عن الحالة النفسية للسياسة الكردية. وكانت الحكومة تتعامل بهذه العقلية مع مسيرة السلام. فما الذي جرى الآن حتى انحرفت الحكومة عن مسارها مرجحة استخدام العنف؟ السبب في ذلك ليس كوباني. فقد بدأت حالة الفراغ العدائي تنمو لدى الحكومة. فالافتراء بوجود الكيان الموازي ما عاد يجدي نفعًا، لذلك أصبحت تبحث الحكومة عن عدو جديد لخلق مسوغات من أجل تأسيس نظام دكتاتوري. ويبدو أن الحجة تتمثل في الحركة السياسية الكردية، وبالتالي تجد حجة بالغة لوضع قانون استبدادي من خلال اتخاذ الحركة الكردية عدوًا مرة أخرى، وهكذا تتم تغطية جميع الإجراءات غير القانونية السابقة من خلال الأحكام العرفية.
إن حزمة القوانين الجديدة لا تُفسَّر إلا بمحاولة التمكن من إضافة العديد من المواد الجديدة إلى القانون بحيث يمكن مصادرة جميع أملاك رجال الأعمال غير المؤيدين للحكومة من خلال قرار فردي من قبل أي قاض أو مدعٍ عام، وذلك بواسطة إنشاء دولة بوليسية لمواجهة الحركة الكردية. فخطة ضرب عدة عصافير بحجر واحد مكيدة في غاية الخطورة. فمنذ مدة قصيرة كان صحفيو الإعلام المؤيد للحكومة يدعون المجتمع إلى عدم وصف حزب العمال الكردستاني (PKK) بالإرهاب، وكان بعض الساسة يقولون إن أوجلان هو زعيم جميع الأكراد وإنه يقرأ مسيرة السلام بدقة تامة. وإن مساواة تنظيم داعش الإرهابي الذي ظهر فجأة على الساحة السياسية بحزب العمال الكردستاني (PKK) الذي أسسه عبد الله أوجلان سنة 1978 أمر غير مقبول سياسيًا، كما لا يمكن تعليل ذلك بأحداث كوباني. فسياسة “كارل شميت” لا تزال مبعثًا للأفكار السياسية.
فلنتذكر الاستراتيجية: “حاول إيجاد أعداء دائمًا لتزيد قوتك السياسية. فالسياسة هي إيجاد عدو افتراضي بغية تشكيل نظام قضائي استبدادي”، فهذه العقيدة السياسة الضارة تهيمن على المنظومة السياسية الحاكمة.
وقد بدأت الحكومة الثانية والستون الحالية بإجراءات الدولة البوليسية، ولكن مع وجود فارق مهم ، فالعودة إلى السياسة السابقة إزاء الملف الكردي يؤدي إلى الدخول في حالة أخطر من الحالة السابقة.
فقد كانت المشكلة الكردية سابقًا بيد الجيش التركي الذي كان يملي على الحكومة ما يجب القيام به من خلال وصايته القوية عليها. وإن إيجاد حل ديمقراطي كان شبه مستحيل (ولا تزال ذاكرتنا السياسية تتذكر الموت المفاجئ لتورجوت أوزال (الرئيس التركي الأسبق) الذي اتبع سياسة مختلفة للمرة الأولى).
وقد كانت الأحزاب الصغيرة التي شكلت حكومة بالحصول على أصوات أقل من الأصوات التي حصل عليها حزب “الوطن الأم” وحزب “العدالة والتنمية” مضطرة إلى الخضوع للوصاية العسكرية. ولذلك فإن القرار العسكري كان مسيطرا على القرار السياسي المدني في الملف الكردي. أما الحكومة الحالية فعلى العكس من ذلك تدعي انتهاء نظام الوصاية، كما تدعي أن الحكومة القوية هي التي تقود العملية السياسية. وفوق ذلك هي تصعِّد من الفتن من خلال الدعاية السياسية. في حين أن الإعلام المؤيد للحكومة يمتدحها على ذلك. وإن بعض الأقلام المقربة من الحكومة يرى أن النجاحات الانتخابية المتتالية لحكومة محافظة دليل على انقلاب شعبي على الوصاية العسكرية القديمة. وبعد الهجمات على كوباني وجدنا أن سياسة العسكر القديمة تحولت إلى سياسة مدنية من خلال تطبيق العنف والشدة ما أدى إلى ازدياد خطورة المرحلة التي نعيشها. وتتشكل اليوم قناعة لدى الأكراد بأن الفكر الإسلامي المدني بات يتبنى الرؤية الرسمية القديمة إزاء الملف الكردي. وذلك لأن المشكلة الكردية تزداد تعقيدًا كلما صدرت تصريحات شديدة اللهجة تهدد بالضرب والمعاملة بالمثل، وتكثيف عربات مكافحة الشغب لدى القوات الأمنية …إلخ.
إننا نمر بأيام أخطر من الأيام السابقة، لأن الحكومة التي حصلت على ما يقرب من نصف أصوات الناخبين إذا حوَّلت القوة الشعبية التي امتلكتها إلى قوة بوليسية كما في العهود السابقة فسيكون من الصعب الوقوف في وجه الصراع المحتمل بين فئات الشعب. فهذا الوضع السلبي سيكون جديدًا بالنسبة لتركيا. حيث يتحول العنف إلى عنف مدني. ويجب على الحكومة قبل كل شيء أن تتخلص من حالتها النفسية المتمثلة في عدم الثقة بأي أحد والتي تسد أذانها نتيجة قلقه للانتقادات المخلصة البناءة. وعليها أن تصغي إلى أصوات الجماهير الناطقة بالحق. وعليها ألا تظن أنها لا تحتاج إلى آراء الآخرين ونصائحهم، لأن هذه المسألة مسألة وطنية وليست مسألة خاصة بحزب العدالة والتنمية.
فمن مصلحة الحكومة أن تصغي للأصوات المنادية بـ: “نرجوكم أن تتخلَّوا ولو لمرة واحدة عن جنون العظمة، وأن تصدقوا بأن هناك أناسًا في حزبكم وفي غير حزبكم يحبون البلد على الأقل بقدر حبكم لها “، وعدم إبداء هذه الفراسة والبصيرة لا يجدي نفعًا. وألا تفتروا على نصائح الناس الذين يفكرون في سعادة البلد واستقراره، وتتهموهم بدعم الإرهاب. وإن الحديث مجددًا عن الانقلاب لتحقيق مكاسب سياسية يزيد من تعقيد المشكلة الكردية. فعدم الاستماع ناتج عن النفسية القوية، بل على العكس يجب عليكم العودة إلى الحالة النفسية الناتجة عن الحق والحقوق.
وعلى الرغم من هذا، وعلى العكس من ذلك فإن حزمة القوانين التي عُرضت على مجلس الأمة بعد منتصف الليل بشكل يذكرنا بعهود الانقلابات إنما تقود البلاد إلى الظلام. وفوق ذلك فإن نائب حزب العدالة والتنمية الذي أحضر مخطط حزمة القوانين إلى المجلس يستخدم أسلوب النقد الذاتي حيث يقول: “للأسف فقدنا بعضًا من زمام الأمور، وقد كان علينا أن نتصرف باتزان” .
وإذا كانت هذه رؤية أحد المسؤولين الذين أعدوا القوانين الأخيرة، فما بالكم برؤية المتضررين من هذه القوانين. وإن انحراف الحكومة من الديمقراطية إلى الدكتاتورية قد بدأ شيئًا فشيئًا بعد الاستفتاء على الدستور.
وقال البعض عن المسؤولين إنهم أصبحوا حكومة ولكنهم لم يصبحوا فعالين ومؤثرين في الحكم، فردت عليهم الحكومة باتخاذ موقف جديد، حيث ارتأت إثبات تسلطها على جميع المؤسسات المدنية والسياسية. إلا أنها اعتمدت مبدأ القوة أكثر من مبدأ القانون. وقد باتت أحداث حديقة “جزي” نقطة تحول بالنسبة لها. حيث استخدمت خطابا في منتهى الاستفزازية، ورأت أن ذلك سيحقق لها مكسبًا سياسيًا من خلال توحد الكتلة الانتخابية لها، وحينها بدأت بتجربة صب الزيت على النار. وللأسف فإن هذه الاستراتيجية الوخيمة التي أدت إلى مقتل الشباب تُستخدَم الآن ضد الحركة السياسية الكردية. ويجري الحديث عن محاولة انقلابية وفي الوقت نفسه نرى إجراءات دكتاتورية مماثلة لما جرى في عهود الانقلابات.
أما الناس الصادقون الذين يصفون هذا الأمر بأنه طريق مسدود فيُتهَّمون بأنهم إرهابيون، هذا ويُعامل البعض معاملة الخونة لأنهم يقولون: “يجب العمل على تفهم الحالة النفسية التي تطورت لدى الأكراد إزاء الأحداث الأخيرة”.
أقول ذلك لأن الأكراد يرون أنفسهم مخدوعين. ففي مدة قصيرة قُتل 40 شخصًا، وقد دعا اتحاد المنظمات الشعبية الكردية إلى العصيان والثورة أحيانا. والصحيح هو البحث عن سياسة تهدِّئ الأوضاع في ظل التناحر. وهناك حاجة ماسة أكثرمن أي وقت مضى إلى مخاطبة الأكراد باللين لكسب قلوبهم. ويجب الاستفسار عن غياب الخطاب الحكيم المتدبر، وعن صب الزيت على النار بدءًا من الأسبوع الأول من أكتوبر/ تشرين الأول. ولكن ينبغي التذكير بـأن جميع الأنظمة الدكتاتورية في العالم لا تكترث بالبعد الإنساني في الأحداث الاجتماعية. وتمارس كل الطرق لفرض قوتها، وتحتاج دومًا إلى الخطابات السلبية الاستفزازية لتأمين وجودها.
بعد حصار كوباني أدلت الحكومة بتصريحات تدل على نظرتها الحقيقية للتنظيمات الكردية ما أدى إلى الشعور بأنها طعنت العرقية الكردية في ظهرها. وليس من السهل نسيان مساواة الحكومة للحركة الكردية بداعش. ولولا أن أوجلان دعا المتظاهرين الأكراد للعودة إلى بيوتهم لما استطاعت الحكومة التخلص من حالة العجز التي كانت عليها. وكان قد أعلن عن حظر التجول في 6 مدن، وبتعبير أدق فقد أشار وقف أوجلان للمظاهرات التي خرجت من أجل كوباني إلى عجز الحكومة. وإن الحكومة لا تستطيع استخدام ورقة أوجلان للمرة الثانية. ولا يمكن الحديث عن الحالة الروحية للأكراد بشكل جدي في تركيا بعد مظالم كوباني وشنجال، وإذا تم تهديد منظمة حزب العمال الكردستاني (PKK) بداعش فإن ذلك سيقود البلاد مرة أخرى إلى مستنقع الصراعات البغيضة بين طوائف المجتمع.