إن وسائل الإعلام التي تم تأسيسها من قبل الحكومة، أصبحت من أهم وأخطر الوسائل والأدوات لتجسيد مصطلح “تركيا الجديدة”، وبواسطة وسائل الإعلام هذه، يتم اصطناع المجرمين، وتصاغ الأدلة ضدهم؛ وتتم محاكمتهم، ثم تنفذ القرارات والأحكام الصادرة بحقهم.
فقد خرجت “تركيا الجديدة” عن مسار دولة القانون، وأصبحت دولة تعتمد على أخبار الصحف، نتيجة سياسات حزب العدالة والتنمية الحاكم، الذي نجا من محاولة إغلاقه عن طريق دعوى قضائية رفعها النائب العام التركي عام 2008 اعتمادًا على ما جمعه من أخبارٍ من محرك البحث على الإنترنت “جوجل”، وعرفت في ذلك الوقت بقضية “جوجل”.
إن وسائل الإعلام هذه تمهد الطريق أمام الحكومة لتنفذ فعالياتها ونشاطاتها، التي يصفها البعض بالانقلاب على القانون والديمقراطية ؛ ويستطيعون أن يظهروا ما يقومون به من إجراءات غير قانونية تغلفها الشبهات على أنها ضرورية ولابد منها، عن طريق حملات تغيير الوعي، بل يصل الأمر إلى حد تقديمها على أنها “إصلاحات” ، فكل خطأ أو إخفاق يمكن لأية حكومة أن ترتكبه يتحول إلى قصة نجاح يحكى بها بواسطة الحركات السحرية وعملية التضليل التي تقوم بها وسائل الإعلام المعنية.
باقي مؤسسات وهيئات الدولة تلعب دور العامل البسيط بجانب الإعلام، فمن خلال وسائل الإعلام، محل الحديث، يستطيع الحزب الحاكم نشر الادعاءات وتغيير الحقائق، من خلال نشر الأخبار المضللة والتي ليس لها أصل في الحقيقة مثل التنصت على نحو 7 آلاف مواطن تركي، وهو ما لم يحدث، ومحاولة إغراق ودفع أحد البنوك غير الربوية (بنك آسيا)، لإعلان إفلاسه، وإعاقة فعاليات ونشاطات إحدى المؤسسات الخيرية،غير الربحية (كيمسا يوكمو “هل من مغيث”)، ومحاكمة المشاركين في تظاهرات متنزه جَيزي المدنية التي شهدتها البلاد خلال العام الماضي، بشكل جماعي، بالإضافة إلى محاولة إقناع الرأي العام التركي أن مشجعي فريق بشيكتاش التركي لكرة القدم، كانوا متورطين في محاولة انقلاب على الحكومة.
حزب العدالة والتنمية الحاكم لا يطبق قرارات وأحكام القضاء كذلك
شرع حزب العدالة والتنمية في تغيير كل القوانين الرئيسة في البلاد، الواحد تلو الآخر، عقب الكشف عن قضايا الفساد والرشوة في 17و25 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، التي طالت عددا من كبار رجال الدولة، وأبناء الوزراء، ومقربين من رئيس الوزراء في ذلك الوقت رجب طيب أردوغان، كما أنها(الحكومة) عزفت عن تطبيق قرار المحكمة الدستورية بوقف تنفيذ التغييرات التي كانت تقترحها الحكومة.
إننا لا نتوقع من الحكومة أن تتعامل بشكل محايد ومتساو مع المواطنين بعد أن اضطر رئيس المحكمة الدستورية، أن يطالب الصحفيين بالـ “المقاومة والصمود”، بالإضافة إلى تعرض آلاف من الموظفين، ومسؤولي الدولة ورجال الأمن لحملات عزل من وظائفهم وتغيير أماكن عملهم بطريقة تعسفية، تحت زعم الإنتماء للكيان الموازي، وانكشف في النهاية أنها (ادعاء الكيان الموازي) لم تكن غير حملة من حملات التضليل وتشكيل الفكر الخاطئ لدى الرأي العام التركي.
بل ووصل الأمر إلى الحياة النقابية؛ إذ أنه يكاد أن يكون من المستحيل أن يصل أي شخص غير منتم لأية نقابة موالية للحكومة، إلى مناصب مرموقة في القطاع العام، وقاموا بتأسيس محاكم الصلح والجزاء بطريقة تخل بمبادئ التقاضي، وتقوض استقلالية الأجهزة القضائية، ولم يكتفوا بكل ذلك؛ إذ بدأ مسؤولو الدولة، في إدارة البلاد من خلال وسائل الإعلام، وتوجيه التهم لمعارضيهم وقمعهم، بل وتنفيذ الأحكام أيضًا بناء على الأخبار الصادرة فيها.
وقد تبعت عمليات العزل والإبعاد من الوظائف، وحملات تشويه السمعة للشخصيات المعتبرة ، بعضها البعض بشكل متلاحق، أي أن “دولة القانون” قد رحلت، وحلَّت “دولة القُصاصات الصحفية” ، تمامًا مثل فترة ما بعد انقلاب 28 فبراير/ شباط 1997، ففي تلك الأيام، كانت وسائل الإعلام تقوم بعمليات تلاعب ومراوغة، قبل اجتماع مجلس الأمن القومي، وكان “الباشاوات (أركان الجيش)” يدخلون الاجتماع حاملين ملفات القصاصات. وقد شاهدنا خلال الأيام والأسابيع الماضية الأمثلة على حقيقة “دولة القُصاصات”، بل ونستمر في مشاهدتها.
الآلاف من رجال الشرطة ضحية الاستناد لأخبار الصحف
نشر عدد من الصحف الموالية للحكومة التركية، وعلى رأسها صحيفتا”ستار” و”يني شفق”، خلال شهر فبراير/ شباط الماضي، أخبارا وعناوين رئيسة لصحفها حول “وجود عملية تنصت على نحو 7 آلاف شخص”. وزعمت الصحيفتان أن نحو 7 آلاف شخص تعرضوا لعملية تنصت كبيرة من قبل رجال الشرطة والمدعين العموم في إسطنبول، ضمن عملية المراقبة التقنية والتحقيق في نشاط “منظمة السلام والتوحيد” الإرهابية، فمن يعرف الإجراءات القانونية، ولو بشكل بسيط جدًا، يستطيع أن يدرك أن هذه الأخبار كاذبة، وغير صحيحة.
بيد أن النائب العام بمدينة إسطنبول أعلن بعد يوم واحد من نشر تلك الأخبار، أن عدد من تم التنصت عليهم ليس 7 آلاف، وإنما ألفان و280 شخصا فقط، وهذا الرقم أيضًا يراه متخصصو القانون كبيرا، ومع الأيام ظهر للجميع أن هذا الرقم أيضًا كذب وغير صحيح؛ إذ أعلن المدعون العموم المسؤولون عن ملف تحقيقات منظمة السلام والتوحيد الإرهابية، أن عدد من تم التنصت عليهم خلال التحقيق 230 شخصا فقط، بل وخرج الصحفيون بعد ذلك يقولون: “إن هذا خطأ في العدد أو الحساب”.. فكيف يرفع الخطأ الحسابي العدد من 230 إلى ألفين و280، بل إلى 7 آلاف أيضًا.
استمرار افتراءات “إسرائيل”
أتريد أن توهم الجميع بأن عمليات الكشف عن الفساد والرشوة التي تمت في 17و25 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، بأنها مشروع مشترك بين الولايات المتحدة وحركة الخدمة التركية؟! لا داعي للبحث عن دليل مادي على ذلك، فهناك الصحفيون الموالون الذين ينتظرون أوامرك ليكتبوا ما تملي عليهم وتصيغ وسائلهم الإعلامية تلك الأخبار.. فقد كتبوا أن رئيس تحرير صحيفة” زمان” التركية، أكرم دومانلي، “قد خرج في رحلة إلى العاصمة البلجيكية، بروكسل، ومنها إلى إسرائيل، قبيل 17 ديسمبر/ تشرين الأول بقليل”.. حسنًا، هل أتممتم عملكم؟ ولكن إياك أن تفكر في البحث والاطلاع كالـ”صحفي”؛ وإلا فستعلم أن آخر زيارة قام بها أكرم دومانلي لبروكسل كانت عام 2012، بصحبة رئيس الوزراء الحالي أحمد داوود أوغلو، الذي كان وزيرا للخارجية، ضمن أحد برامج الحكومة، بل ومن الممكن أن تصطدم بحقيقة أن أكرم دومانلي لم يخطو خطوة واحدة طوال حياته إلى إسرائيل!
بيد أن وسائل الإعلام، التي تدعي أنها محافظة، وهي موالية للحكومة وتحفظ مصالحها فقط، نشرت أخبارا وأكاذيب دون البحث والتأكد من صحتها، متجاهلة الآداب والأخلاق الإسلامية، ولم تقدم اعتذارا عن هذه الأخبار بعدما ظهرت الحقائق.
حتى أحداث ومظاهرات كوباني ربطوها بحركة الخدمة أيضا
إن حركة الخدمة، المسترشدة بفكر الأستاذ فتح الله كولن، أصبحت “كبش فداء” مناسب “لدولة القُصاصات” ، إذ حاولوا إلصاق فشلهم وإخفاقاتهم وكل السلبيات في تركيا لحركة الخدمة، تحت زعم “الكيان الموازي” ،حتى أنهم لم يخجلوا من تلفيق المظاهرات التي تخللتها أعمال عنف تضامنًا مع بلدة عين العرب (كوباني) الكردية، وتنديدًا بالموقف التركي الصامت تجاه هجوم داعش على البلدة، إلى حركة الخدمة، التي يزعمون أنها الكيان الموازي.
وقد أظهرت احداث كوباني الأخيرة، مدى عجز الدولة مع تكون منظمة أرجينكون، وغيرها من تنظيمات الدولة العميقة في البلاد من جديد، وفي الوقت الذي ظهر فيه عدم البصيرة والعجز داخل أجهزة الدولة، شنت وسائل الإعلام الموالية للحكومة حملة جديدة على حركة الخدمة التي لم تثبت عليها أية جريمة بعد محاولة أجهزة الإستخبارات والأجهزة الأمنية والمالية لإيجاد أية جريمة ارتكبها أشخاص أو مؤسسات يُدَّعى أن لهم علاقة بحركة الخدمة .
إذا لم يُحرق بنك آسيا، فإن الكيان الموازي يقف وراء أحداث كوباني
نشرت صحيفة “أكشام” الموالية لحكومة حزب العدالة والتنمية، والمعروفة بنشرها اخبارا إستفزازية، عددا من الأخبار والادعاءات مثل “تعاون مشترك بين حركة الخدمة ومنظمة حزب العمال الكردستاني الإرهابية”، خلال أحداث كوباني الأخيرة التي شهدت أعمالا تخريبية وأعمال عنف، مستندة على صور من الأحداث بمنطقة “أسان يورت” بمدينة إسطنبول توضح أن بنك “جارانتي” تعرض لمحاولة الحرق أثناء الأحداث بالمنطقة، ولم يتعرض فرع بنك آسيا المجاور له لذلك، ولكنهم بالطبع، انتظروا حتى تم تغيير الواجهات الزجاجية المحطمة لفرع بنك آسيا المجاور لبنك” جارانتي” المحترق، وغضوا الطرف عن باقي فروع البنك التي طالتها النيران ولم يلتقطوا صورا لها.
بيد ان من يتابع الأحداث بدقة، يعلم أن ماكينات الصراف الآلي التابعة لبنك آسيا تعرضت للتخريب خلال أحداث كوباني الأخيرة، بالإضافة إلى عمليات الهجوم والحرق التي تعرضت لها عدد من المؤسسات التابعة لحركة الخدمة من مدارس، وبيوت طلاب، ومراكز دروس تقوية، على يد العناصر التابعة للعمال الكردستاني.
وبهذا لم يبق أمامنا أية مؤسسة يمكنها تكذيب “دولة القانون المزيفة”، كمواطنين لدولة الإعلام التي لا تعرف الحقوق ولا القانون، فدولة القانون الآن تكذب نفسها بنفسها من خلال حزمة القوانين القضائية الجديدة التي لا تعني بحقوق الفرد وحرياته، وتسعى حكومة حزب العدالة والتنمية لتمريرها عبر البرلمان، عقب الانتخابات الأخيرة في المجلس الأعلى للقضاة والمدعين العموم، وتخطو هذه الدولة خطوات إضافية في طريقها لأن تكون دولة تعتمد على أخبار الصحف وليس دولة القانون.
بدأت حملة “مطاردة الساحرات” ضد مدارس حركة الخدمة عبر أخبار الصحف
بدأت وزارة التعليم الوطنية التركية شن حملة “مطاردة الساحرات” ضد المدارس الخاصة التي أعلنت عنها ضمن حزمة التحفيز، وتشمل نحو 250 ألف طالب خلال العام الدراسي الجديد، فقد عمدت الوزراة إلى شطب المدارس الخاصة التي لها دور كبير في حصول تركيا على العديد من الميداليات الذهبية في مسابقة أوليمبياد العلوم الدولية، بزعم تعرضها لتحقيقات وفحوص مالية، وكان بعض هذه المؤسسات ضمن القائمة التي أعلن عنها في 30 أغسطس/ آب الماضي، التي تشمل الطلاب الذين سيتلقون الدعم من الحكومة، بيد أن عددا كبيرا من المدارس الناجحة أخرجت من القائمة عقب الخبر الذي نشرته صحيفة” ستار” الموالية للحكومة، بعنوان “ضربة للكيان الموازي في موضوع التحفيزات”.
مجلة أكسيون